مباشرة بعد الإعلان عن البدء في مراجعة مدونة الأسرة، قام التيار التقليدي الرافض للمراجعة الجذرية والعميقة للمدونة بحملة عنيفة بهدف التشويش على الحوار الوطني وصرف الانتباه عن أعطاب النص وتحولات الواقع، مستندا في تلك الحملة على أسلوب التحريض المعتاد الذي يعتمد خمسة ادعاءات كاذبة نوردها فيما يلي: أن الغرض من مراجعة المدونة هو ضرب الإسلام ومحاربته، إذن "الإسلام في خطر". أن حقوق النساء تمثل تهديدا لحقوق الرجال، ولهذا على الرجال أن يهبّوا للدفاع عن "رجولتهم" و"هيبتهم". أن مراجعة المدونة سيؤدي إلى تشتيت الأسرة والزيادة في نسبة الطلاق وإثارة الفتنة في المجتمع، وأن ارتفاع نسبة الطلاق تعود أساسا إلى "حقوق النساء"، ويكفي تراجع المرأة عن حقوقها لكي تنعم الأسرة ب"الاستقرار". أن مطالب النساء وتعديل المدونة وفقها سيؤدي حتما عزوف الشباب عن الزواج، وخاصة إذا تم إلزام الزوج بالتخلي عن البيت لأبنائه وزوجته، أو باقتسام الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج بعد الطلاق. أن مطالب النساء في المدونة إملاءات خارجية بضغط أجنبي ولا علاقة لها بثوابت المجتمع المغربي وهويته. فلنفحص هذه الإدّعاءات الخمسة واحدا واحدا: الإدّعاء الأول يهدف إلى تشويه سمعة المؤسسات وسمعة القوى المدنية والسياسية ونزع المصداقية عنها، وهي تطالب بمراجعة نص المدونة بسبب الثغرات التي أبانت عنها 19 سنة من العمل به منذ مراجعته سنة 2004. كما يقع هذا الادعاء في تشويه صورة الإسلام أيضا لأنه يعتبر ضمنيا بأن حقوق النساء والأطفال تتعارض مع الإسلام. والإدعاء الثاني يهدف أصحابه من ورائه إلى تحويل أنظار الناس من قضايا المدونة وأشكال الظلم التي تلحق المرأة والطفل في واقع الأسرة المغربية، إلى خلق تصادم بين الرجال والنساء وإشاعة مشاعر الكراهية ضدّ المرأة المغربية عبر استعداء الرجال، اعتمادا على مخزون الوعي التقليدي والنزعة الذكورية وعادات التخلف المترسّخة في المجتمع. وهذا في حدّ ذاته هو الذي يثير الفتنة وليس إصلاح مدونة الأسرة. الإدعاء الثالث يسعى إلى تخويف المواطنين عبر زعم أن حقوق النساء تؤدي إلى المسّ باستقرار الأسرة، لأن هذا التيار يعتبر أن استقرار الأسرة المزعوم قائم على وجود "ربّ أسرة" واحد يقرر بنفسه ويحافظ على منظومة العلاقة التقليدية القائمة على نظام الطاعة ومركزية الرجل. والحقيقة أن هذه العلاقة تنبني في أساسها على العنف والإخضاع، وعلى إلزام المرأة بالصبر والتحمّل، مما يجعل "الاستقرار" المزعوم واقعا تسلطيا على حساب كرامة المرأة وسلامتها النفسية والجسدية. الإدعاء الرابع بكون مراجعة المدونة لتدارك ثغراتها سيؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج يعني ضمنيا بأن الذي يشجع الشباب على الزواج هو الامتيازات التي ينعمون بها في نظام الزواج التقليدي على حساب المرأة، والسلطة التي للرجل والتي تبرر ممارسة العنف وحرمان الزوجة من حقوق عديدة. ونحن نرى أن العزوف عن الزواج بسبب عدم قبول المساواة والاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة هو أفضل من أسرة قائمة على العنف والإهانة اليومية. الإدعاء الخامس بأنّ مطالب النساء مجرد إملاءات خارجية لا علاقة لها بالمجتمع المغربي هو ضرب من التضليل للرأي العام الوطني، لأن مطالب النساء نابعة من الشكايات ومن مراكز الاستماع التي تسمح لآلاف النساء بالتعبير عن معاناتهن وفضح كل أشكال الظلم التي تتعرضن له يوميا، فالمرأة مثلا التي تبحث عن قضاء أغراض طفلها في الإدارة العمومية ولا تجد إلا من يطالبها بإحضار الزوج لأنه صاحب الولاية الشرعية على الطفل وأنها "مجرد امرأة"، تشعر بمرارة الظلم الذي يلحقها مع طفلها، وفي مثل هذه الحالات لا نحتاج إلى "إملاءات خارجية" تنبهنا إلى ما ينبغي فعله، إذا كانت لنا ضمائر حيّة. إنّ مثل هذه المزاعم تدلّ دلالة قاطعة على ضُعف التيار المحافظ وعجزه عن الإقناع، وإنّ مسؤولية القوى الديمقراطية ردّ الاعتبار للحوار الوطني الرصين والعميق، وطرح القضايا الأساسية المتمثلة فيما يلي: 1) إبراز مجمل التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في العقود الأخيرة والتي غيرت وضعية المرأة كما غيرت صورة الطفولة ومفهومها أيضا. ومن ذلك دور المرأة في إعالة الأسر، وإسهامها البارز في بناء الثروة ومشاركتها في ذلك سواء عبر العمل المنزلي أو العمل خارج البيت، سواء في الوظيفة والمهن الحرة أو في القطاع غير المهيكل. 2) التناقضات التي صارت بين النص والواقع، بسبب عدم ملاءمة مضامين النصوص الدينية للوقائع المستجدة التي أصبحت بحاجة إلى مقاربات جديدة، وإلى نصوص تضمن العدل والإنصاف والمساواة، وتمنع من الظلم والتمييز وهدر الكرامة. 3) التأكيد على ضرورة تغيير العقلية الذكورية وجعل الرجال يُدركون بأن الزواج ليس مجالا لاستعباد النساء والأطفال، أو الاستئثار بكلّ الامتيازات، بل هو فضاء للأسرة الآمنة المبنية على المساواة والتضامن والمودّة وتقاسم المسؤوليات والخيرات، وأنه لا استقرار للأسرة المغربية في ظلّ علاقات الطاعة والعبودية والوصاية. 4) التركيز على واقع الأسرة المغربية وإبراز الانتهاكات وأعطاب السلوكات الاجتماعية التقليدية، التي كان يزكيها المجتمع ويتستر عليها، وذلك بهدف التفكير فيها وإيجاد الحلول للمشاكل الناجمة عنها.