ماهموني غير الرجال يلا ضاعوا الحيوط يلا رابوا كلها يبني دارو ناس الغيوان لنا، نحن الذين ولدنا لآباء يحملون وزر الهزيمة، يستحيون النظر في عيوننا، وقد يودون لو يقطع الحبل السري الذي يشدنا إليهم فنتخفف من ماضي الخيبات والانكسارات الكبرى في معترك بناء كيانات وطنية جديرة بأبنائها. لنا، جيل القطيعة المأساوية، الذي وجد نفسه يسبح في حوض دائري ملوث، يحلق هائما في فضاء مختل التوازن، نحن الذين تركنا فريسة لصقيع العالم عراة نحيا بدهشة الولادة الأولى وحيرة التماس مع الزمن والمكان بلا دليل إلى مواطن لتحديد الموقع، تؤرجحنا رياح الشرق والغرب فنستكين إلى موقف المراوحة وخيار اللاقرار ونردد لازمة "اللعبة انتهت". لنا، نحن جيل ما بعد الهزيمة، حقدنا على آباءنا لا لأنهم شهود عليها، بل لأن شعورهم بمرارتها استحال في دمنا فيروسا مسببا للغيبوبة والشعور بالخواء وتوترا مزمنا مع أيامنا...ورغبة في الفرار..إلى النوم. في الواقع، كنا نغبطهم، فجيل الآباء راود الأحلام الكبيرة وان تهشمت على رؤوسه، تخيل عمرانا حضاريا يعليه وموقعا في التاريخ يحفره ومصائر جماعية يصنعها، ولو انهار السقف على سكان بيت استصغروا العاصفة الوافدة من البحر. أما نحن، فكان مصيرنا الفراغ الباعث على التيه بين عقارب الزمن، ولم نجد لنا حلفاء في مواجهة استحقاقات العصر غير أغان حماسية قديمة حول البحر الهادر والزحف المنتظر، نرددها، أحيانا بثقة بلهاء،،ثم لا نلبث أن نستغرق في نحيب طفولي...حين نكتشف أن مجرى التاريخ يتقدم في الاتجاه المعاكس ونحن له منقادون، ربما لأننا نخاف المجهول. لنا، نحن الجيل الذي راهنوا عليه لإطلاق رصاص الرحمة على الأمة المتداعية وتوقيع معاهدة فك الارتباط مع ذاكرة جماعية مناهضة للمحو، علا النشيد وانفتحت أبواب السماء وأطرق العالم منصتا. في ساحة الفضاء المتداعي، اشتعلت شوارع تونس ومصر. انه شباب يبغي ترميم جسد الحكاية، وها هم ينتشلون آباءهم من عزلتهم في التاريخ، كي ينعقد الصلح الحيوي مع الذاكرة، إذ لا يمكن لجيل ولد في العراء أن يقتحم أفقا كونيا عصيا على اليتامى بهوية مصلوبة وذاكرة مثقوبة. ثورتا الفل والياسمين تصفيان الحساب مع ما تسلل إلى هذه الذاكرة من هواء فاسد شربناه شعورا فادحا بالشك في ذواتنا وزمننا وحتى في حليب أمهاتنا. لم تطلع بعد شمس ما بعد الثورة، ذلك أن مخاضات الهدم والبناء عسيرة ومتعبة، وحسابات الربح والخسارة في منعطفات التغيير السياسي غير مبادئ الرياضيات المعروفة. أي رجم بالمستقبل يستدعي قدرا من الأناة والتروي، غير أن ما يطيب لنا أن نحضنه كحقيقة نتشاركها خبزا مالحا بين شاب أمة كانت قد نكست أعلامها وجهزت أكفانها وشيعت إلى مدارات النسيان من لدن مؤرخي المستقبل المنظور، فهو أن الموت الجماعي الذي بشرنا به كان مجرد عطب في الإرادة وشلل طارئ في الوعي، أقعدنا عن تسلم زمام مصائرنا حين راعنا هول المسافة بين ممكنات الفعل الحضاري ومقدرات الحركة الكفيلة بتحقيق النقلات التاريخية المنشودة من جهة وواقع الانتكاسة الشاملة والإحباط المدمر لدى أبناء عرب ما بعد 1967 من جهة أخرى. كما أن الالتفاف الكاسح للشباب العربي حول الثورات المباركة في صحراء السكون العربي عنوان وشيجة صامدة عابرة لحدود المنطق القطري الطارئ على وجدان شعبي قومي أصيل. الحالة الثورية الراهنة تعيدنا بفخر إلى المربع الطبيعي، حيث نفاوض مصيرنا بعينين مفتوحتين، ويكون لنا أن نمسح الدموع الآثمة من عيون آبائنا، ونكتب تاريخا لعبورنا كجيل ملهم للحكاية، يرفع نخب انتصاراته ويحصي خساراته بكل روح رياضية... لكنه في كل الأحوال يقدم شهادة يبرئ بها ذمته تجاه تاريخ الأمة.