مازلنا نتابع بكثير من الاهتمام إفرازات ثورات الربيع وتفاعلاتها المتواصلة وتمايزاتها المعقدة في منطقة مازلت تشغل بال الرأي العام الوطني والدولي لطبيعة الأبعاد الروحية والثقافية والسياسية والطاقية التي تحتلها في قلوب المؤمنين وعقول السياسيين وبطون المستثمرين في شتى بقاع العالم. الزلزال الذي هز مصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس واليمن مازالت ارتداداته تضرب بقوة ومازالت اشعاعاته تصل مناطق مجاورة تحاول قوقعتها وضبطها بالمال والقوة في محاولة لمنع وصول عدوى الاحتجاجات السلمية إليها. لكن الجسم المريض بحمى الملاريا أو الكوليرا لن تنفع معه بعض اللقاحات المهدئة لانتشار المرض بل بمضاد للأجسام يحاصر مناطق الورم الخبيث وينشأ خلايا حيوية جديدة تعيد الحياة للجسم وإن تأخر هذا التدخل فلن تنفع بعد ذلك إلا عملية جراحية مستعجلة من أجل استئصال الورم بالكامل. لقد أبانت منطقة الربيع في الشرق الأوسط وشمال افريقيا عن حجم الأعطاب والجروح التي تمت تهدئتها طيلة عقود من الزمن قي صورة مقولبة تكاثرت فيها الجراثيم في مراحل كمون ما فتأت أن انفجرت في أول تعرية لها. أول هذه الجراثيم الخبيثة وأشدها فتكا هي جرثومة الإيديولوجية الراديكالية التي خرجت إما من رحم التدين الطائفي التاريخاني أو من رحم الاستقدام الجدري للنظرية اليسارية بشكل عام وكلتا العمليتين تمتا عبر عملية قيصرية سال فيها الكثير من الدم و ما زال ينزف إلى حد الساعة. لقد نمت هذه الجراثيم داخل الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي استعملت المال والقوة لبسط نفود الحزب الحاكم والطائفة الحاكمة والتوجه الواحد وضيعت امال الشعوب في العيش في تعايش وسلم عوض تأجيج الظلم الطائفي. وحتى التوجهات اليسارية والليبرالية المختلفة لم تسلم من عملية الأدلجة الراديكالية وهي بالتأكيد إحدى أسوء السيناريوهات التي قد تحدث لإيديولوجية تنويرية أو علمية أو محافظة تحمل إجابات لمشاكل الناس اليومية والمستقبلية وتحمل لهم امال العيش في سلام وأمان. لقد طفحت النعرات المذهبية والاتهامات الأيديولوجية الراديكالية إلى الواجهة السياسية وإلى حلبة الصراع السياسي في وقت حسبناها ماتت واندثرت وسنكون غير موضوعيين إن ربَطن ظهور هذه الصراعات بعوامل تاريخية محضة , ولكن في حقيقة الأمر فحتى المصالح الخارجية ساهمت بشكل كبير في عملية الاحتقان هذه. الحرب في سوريا مثلا وهي الأكثر دموية وعنفا منذ الحرب العالمية الثانية, تعرضت للتحريف والأذلجة من ثورة شعبية تحررية للشعب السوري ضد استبداد سلطة بشار الأسد إلى حرب طائفية بين الشيعة والسنة, موّلتها ايران وحليفها حزب الله بالمال والسلاح وجيش لها علماء السنة والجماعات الجهادية أيضا بالمال والعتاد. نفس الوضع تقريبا يخيم على المشهد العراقي الذي لم تنجح فيه عملية الدمقرطة التي فرضت من فوق إلى أسفل في بلد الطوائف بامتياز, بل تحول الصراع السياسي فيها إلى صراع على ابار النفط وعلى استعادة سلطات النفوذ القبلي والنتيجة هي القتل والقتل المضاد. في هذه الظروف هل ستنجح العملية السياسية في استعادة التوافق التعددي على شروط الديمقراطية النزيهة؟ يحتاج الأمر إلى تعدد الإرادات الذاتية والموضوعية , ففشل المؤتمر الدولي الذي كان مقررا أن يجمع بين روسيا وأمريكا كضليعين في الحرب السورية ماديا ولوجيستيكيا وعسكريا يبين حجم الصعوبات التي تواجه العملية الدبلوماسية في فض النزاع ويبين أيضا تعدد الأطراف الضالعة في الحرب والتي تعقد حل الأزمة في سوريا. وحتى في التجارب الثورية الفتية في كل من مصر وتونس - والتي عرفت تمركز الإسلاميين في قيادة الفترة الانتقالية – لم تسلم من تنامي الأذلجة الراديكالية وبروز العنف والتصفيات الجسدية كنتيجة لحرب الراديكاليات سواء الإسلامية أو العلمانية أو الليبرالية التي لم تستسغ الفشل الانتخابي ولم تستحسن تدبير الشؤون السياسية من طرف من تعتبرها متطرفة أو عدوة أو مهددة للكيان الذاتي. أما الأزمة المصرية والانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية تعرفها البلاد فهي الأخرى بينت بالملموس كيف تنقاد الإيديولوجيات إلى غرفة القيادة العسكرية لتدبر معها ثورة مضادة محبكة التنظيم ومتعددة المصادر والموارد. لقد بينت أيضا أن التطرفات لا يمكن أن تتعايش مع بعضها البعض ولو تم فرض هذا التعايش بقوة صناديق الاقتراع , لأن الشعور بالانهزام وبالاضطهاد وقولبة الشعوب لا يمكن أن يؤدي إلا إلى العنف والعنف المضاد. كتب توماس فريدمان – الكاتب الصحفي في جريدة النيويورك تايمز – مؤخرا مقالة عن الأزمة في الشرق الأوسط وعن تنامي الحقد العقدي والتناحر الثقافي بين المجموعات المذهبية المختلفة التي تنخر في جسم العالم الإسلامي , الذي كان – في مرحلة العصر الذهبي مابين القرنيين الثامن والثالث عشر – مركزا فكريا للعلوم والفلسفة والطب والهندسة وعرف بانتعاش التعدد الثقافي بين جميع الأطياف الثقافية والمذهبية والعقدية. لقد كانت فعلا الفوارق الثقافية والمذهبية تدوب أمام الانتعاش المعرفي والفكري وحتى السياسي , ولكن ما لم يتطرق إليه السيد فريدمان هو أن البناء الديمقراطي في الشرق الأوسط لن يتم بدون كف القوى الكبرى - وأمريكا واحدة منها- عن دعم التطرف الطائفي خدمة لأجنداتها الإستراتيجية في المنطقة. فحتى إسرائيل تريد شرقا أوسطا بمقاسها وشروطها هي وحدها وتنعت العرب بالإرهاب والتطرف متناسية أن الإيمان بشعب الله المختار وحده هو تطرف لا نظير له بغض النظر عن الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي تغتالها اسرائيل باستمرار. الأكيد أن الإيديولوجيا كانت ولا تزال حامية لمبادئ وتطلعات الأفراد والجماعات الثقافية والسياسية والدينية , كما كانت ولا تزال الوسيلة الأكثر فتكا بالإنسان ومعتقداته ومبادئه بمجرد أن تنحاز للتطرف والتعصب لأن القتل آنذاك يصبح مبررا وحاسما للصراعات الراديكالية. لقد وعى الإنسان هذا المعطى عبر سلسلة الحروب الأهلية التي عرفتها البشرية ولذلك ابتكر أفضل الوسائل للحيلولة دون حدوث ذلك وكانت الديمقراطية واحدة من هذه الطرق التي استجابت لها الطوائف والجماعات والأحزاب. إن الديمقراطية تتفاعل مع جميع التيارات السياسية يمينية كانت أو يسارية أو ليبرالية وتوفر فضاء واسع للتعايش والمساواة وقبول الأخر كما أنها تضمن الحقوق وتحميها بقوة القانون من الانتهاك والخرق. ولا يمكن بتر الديمقراطية من جدعها الأم كما يحدث في العديد من دول الربيع الديمقراطي ألا وهي الحرية الطبيعية التي زرعها الله فطرة في نفوس البشر وجعلهم سواسية وأمرهم بالتعارف والتعايش. لا يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية بدون المرور على موضوعة الحرية , ولا يمكن تحقيق ذلك بدون وجود مؤسسات شفافة ومنتخبة بكل حرية وبكل مسؤولية تحمي حقوق الأفراد أولا وحريتهم وملكيتهم قبل أن توفرها للأحزاب والطوائف والجماعات.