فتحت مراكز الاقتراع في تونس أبوابها يوم الأحد في جولة ثانية لانتخابات برلمانية جرت الشهر الماضي ولم تتعد نسبة الإقبال فيها 11 بالمئة، وهي نسبة قال معارضون للرئيس قيس سعيد إنها تقوض حديثه عن الدعم الشعبي لتغييراته السياسية واسعة النطاق. وتقاطع الأحزاب السياسية التصويت ومن ثم فإن معظم المرشحين مستقلون. ومن المرجح أن تتجه الأنظار إلى نسبة الإقبال وما إذا كانت ستتجاوز نسبة الجولة الأولى. ويتنافس 262 مرشحًا على 131 مقعدًا في البرلمان الجديد (من أصل 161)، خلال انتخابات تمثل المرحلة الأخيرة من خريطة طريق فرضها الرئيس قيس سعيّد وأبرز ملامحها إرساء نظام رئاسي معزّز على شاكلة ما قبل الثورة التونسية. برلمان بلا صلاحيات انفرد سعيّد بالسلطة في 25 يوليو 2021 عبر تجميد أعمال البرلمان وحلّه لاحقا، وإقرار دستور جديد إثر استفتاء في الصيف الفائت أنهى النظام السياسي القائم منذ 2014. ويتهم منتقدو سعيد الرئيس بالسعي لتفكيك النظام الديمقراطي المعمول به في تونس منذ ثورة 2011 التي أشعلت فتيل احتجاجات الربيع العربي. ويصف المنتقدون ضعف الإقبال على التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في ديسمبر بأنه دليل على أن تغييرات سعيد لا تحظى بتأييد شعبي. ويقول الرئيس إن اجراءاته قانونية وضرورية لإنقاذ تونس من كساد اقتصادي وأزمة سياسية استمرت سنوات واتهم منتقديه بالخيانة وحث على اتخاذ اجراءات ضدهم. وسيكون للمجلس النيابي الجديد عدد قليل جدًا من الصلاحيات، إذ لا يمكنه على سبيل المثال عزل الرئيس ولا مساءلته. ويتمتّع الرئيس بالأولوية في اقتراح مشاريع القوانين. ولا يشترط الدستور الجديد أن تنال الحكومة التي يُعيّنها الرئيس ثقة البرلمان. وكان النظام السابق يقضي بأن يكون للبرلمان القيادة في اختيار الحكومات التي تضع سياسة الدولة وتدير شؤون البلاد اليومية. ولم يكن الرئيس مسؤولا بشكل مباشر إلا عن الشؤون الخارجية والدفاع. لكن قواعد سعيد الجديدة تجعل البرلمان خاضعا للرئيس الذي يضطلع الآن بمسؤولية تشكيل الحكومة وإقالتها. وتحد القواعد أيضا من دور الأحزاب السياسية حيث يجري إدراج أسماء المرشحين للبرلمان بأسمائهم فحسب دون الإشارة إلى انتمائهم الحزبي. نسبة المشاركة وتتجه الأنظار أساسا في هذه الانتخابات إلى نسبة المشاركة بعد أن سجلت الدورة الأولى إخفاقا تاما مع نسبة إقبال ناهزت 11,2% فقط من الناخبين. وهي أضعف نسبة تصويت منذ بداية الانتقال الديموقراطي عام 2011 بعد انهيار نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. ويقدّر الخبراء أن تكون نسبة الامتناع عن التصويت مرتفعة، ويُعبّرون عن مخاوف من أن تنحرف البلاد عن مسار الانتقال الديموقراطي بعد أن كانت مهدا لتجربة فريدة في المنطقة. من جهتها، دعت الأحزاب السياسية المعارضة وأبرزها حزب النهضة الإسلامي الذي كانت له أكبر الكتل في البرلمان منذ ثورة 2011، إلى مقاطعة الانتخابات، معتبرة ما يقوم به سعيّد "انقلابا". بدت الحملة الانتخابية باهتة، إذ علق عدد محدود من اللافتات الانتخابية في الشوارع وعلى الطرق لتقديم مرشّحين غالبيّتهم غير معروفين لدى الرأي العام التونسي. وزاد الشعور بالإحباط من السياسة في تونس بسبب الأزمة الاقتصادية الآخذة في التفاقم والتي أفضت إلى نقص في بعض الأغذية والأدوية ودفعت بالحكومة إلى السعي لإنقاذ مالي دولي. وخفضت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية تصنيف الدين التونسي يوم الجمعة قائلة إن البلاد ستتخلف على الأرجح عن سداد قروض سيادية. ومنذ جولة ديسمبر، زاد التلفزيون الرسمي من تركيزه على انتخابات يوم الأحد بما في ذلك عبر مناظرات بين المرشحين. وقالت المعارضة إن هذا يأتي في إطار جهود الدولة لزيادة الإقبال على التصويت. وفي محاولة للتعريف بهم في شكل أفضل، سعت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات إلى تنظيم مناظرات بينهم بثّها التلفزيون الحكومي خلال ساعات ارتفاع نسب المشاهدة ليلا. يرى الباحث في "مركز كولومبيا" يوسف الشريف أنه "بالنظر إلى عدم الاهتمام التام للتونسيين" بالحياة السياسة، فإن "هذا البرلمان لن يتمتع بشرعية كبيرة. وبفضل دستور 2022 سيتمكن الرئيس القوي من الهيمنة عليه كما يشاء". معارضة منقسمة وأزمة اقتصادية أمّا المعارضة التي دعت الرئيس إلى الاستقالة بعد نسبة الامتناع الكبيرة عن التصويت خلال الجولة الأولى من الانتخابات، فلا تزال منقسمة بدورها إلى ثلاث كتل مختلفة التوجّهات، هي "جبهة الخلاص الوطني" التي يتزعّمها حزب النهضة، والحزب الدستوري الحرّ بقيادة عبير موسي التي تدافع عن خيارات نظام بن علي، والأحزاب اليساريّة. دأبت أحزاب المعارضة على تنظيم تظاهرات للتنديد بقرارات سعيّد منذ أن أقرّها، ويلاحق القضاء العديد من نشطائها. يترافق الغليان السياسي في تونس مع مأزق اقتصادي فاقمه تعثّر المفاوضات الحاسمة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بنحو ملياري دولار. ويبدو أن هناك عوامل عدة تؤدي إلى إبطاء الحصول على هذا القرض، أهمها وفق الشريف "دور الولاياتالمتحدة"، الفاعل الأبرز في صندوق النقد الدولي، وخشيتها من انجراف تونس نحو الاستبداد. في هذا السياق، أعلنت وكالة التصنيف الائتماني الأميركية موديز السبت خفض تقييم ديون تونس الطويلة الأجل درجة إضافية إلى "سي إيه إيه 2" مع نظرة مستقبلية "سلبية"، مشيرة إلى وجود "مخاطر أكبر" في ما يتعلق بقدرتها على سداد مستحقاتها. ويرسم الخبير السياسي حمادي الرديسي في تصريح لوكالة فرانس برس صورة قاتمة عن حال تونس، قائلا إنّ "الوضع الاقتصادي مأسوي والبلاد على وشك الانهيار". من مظاهر الأزمة الاقتصادية تباطؤ النمو إلى أقل من 3%، وارتفاع البطالة إلى أكثر من 15%، فيما تزداد مستويات الفقر الذي دفع 32 ألف تونسي إلى الهجرة بحرًا نحو إيطاليا بشكل غير قانوني عام 2022. ويرى مراقبون أن بصيص الأمل الوحيد لهذه الأزمة يتمثل في "مبادرة الإنقاذ" التي أطلقها "الاتحاد العام التونسي للشغل" و"الرابطة التونسية لحقوق الإنسان" و"الهيئة الوطنية للمحامين" و"المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" من أجل تقديم مقترحات سيعرضونها على سعيّد للخروج من الأزمة.