من حقنا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: لحساب من يعمل هؤلاء المطبعون؟ هل لحساب المغرب وشعبه الأقرب إلى الشعب الفلسطيني أن يفتح المطبعون أبواب المغرب ونوافذه لمجرمي الحرب، قتلة الأطفال والشيوخ، وباقري بطون النساء؟! هل حقا سيستفيد الشعب المغربي أم سيستفيد الفاسدون التافهون المرتشون، ذوو المراكز السياسية والوظيفية، الذين لا خبرة لهم بقضايا الوطن، الذين لا يملكون مهارات الضغط والتفاوض والتأثير، لا محليا، ولا دوليا. هؤلاء الذين نهبوا، وقمعوا، وفشلوا في السياسة والاقتصاد، وخربوا التعليم والصحة، وشرعوا الوطن للغزو الاقتصادي والثقافي الغربي، الذين، بعدما تاجروا في الدين والسياسة، نصحوا الدولة أن تستقوي بالصهاينة والأمريكان، ولسنا ندري لحد الآن إلى أي مدى سيذهبون في توغلهم مع المشروع الصهيوني؟ مع الأيام الأولى للتطبيع تحرك المهرولون من المحسوبين على الثقافة والإعلام والفن في محاولة رخيصة لخرق تعاقد المغاربة الرمزي الرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني. ولن أتحدث هنا عن حجم الانقضاض على لحظة التطبيع الذي تجسد في الهرولة القصوى التي مارسها المطبعون حتى أضحوا مثار سخرية المراقبين، وإنما سأكتفي بمواقف وتصريحات بعض الوزراء: رئيس الحكومة عزيز أخنوش صاحب فضيحة التمور، والذي طبّع مع شركة "نيتافيم" (NETAFIM) المرتبطة بالجيش الصهيوني، رفع حزبه الإداري الأعلام الصهيونية خلال مؤتمره المنعقد بباريس. وزير الثقافة أو التفاهة المتصهينة، على حد تعبير المغاربة، أقام حفل افتتاح قناة i24 الصهيونية بحضور عراب التطبيع صاحب تمثال الهولوكوست في قصبة شالة ذات الدلالة التاريخية والحضور الرمزي، غير آبه إلا بانبطاحه وارتمائه في أحضان اللوبي الصهيوني المغربي. الميراوي وزير التعليم العالي يسعى جاهدا لتثبيت التطبيع، وقد أخذته فورة الحماس وهو يمدح جامعات الكيان، فقال: " إن إسرائيل لديها موقعها على المستوى البحثي، وجامعاتها تتوفر على كفاءات واختصاصات مهمة، وقريبا سأزور إسرائيل ". وكان سلفه أمزازي يتباهى بحماسه وشروعه في تغيير المناهج وإعداد مواد تعليمية تتماشى والتطبيع. أما وزير الخارجية ناصر بوريطة فقد صرح ودون أن تعتريه حمرة الخجل:" لكل إسرائيلي، أصول مغربية، هذه ليست مزحة، وإنما واقع، وخطوة استئناف العلاقات مع إسرائيل ليست نابعة من مصالح ضيقة، وإنما تعبير عن قناعات وعلاقات تاريخية بين المغرب وإسرائيل". ولا يترك هذا الوزير مناسبة إلا وتحدث فيها عن الخصوصية المغربية والتي تتمثل في وجود أكثر من 800 ألف "إسرائيلي" من أصل مغربي في دولة الاحتلال. كما أنه يتفاخر بدفاعه عن "الثقافة العبرية" واستعداده لخلق سردية مختلفة! وتشكل تصريحات وزير الخارجية واعتزازه ب 800 ألف "إسرائيلي" من أصل مغربي المتواجدين بدولة الاحتلال مثالا صارخا على الاستهانة بمشاعر المغاربة، إذ أن هؤلاء الصهاينة لم يعودوا مغاربة، وإنما محتلين وبالتأكيد قد يكون فيهم من قتل، لأن كل اليهود الذين هاجروا واستوطنوا فلسطينالمحتلة مشاركون في المنظمات العسكرية والإرهابية، وكلهم يؤدون الخدمة العسكرية، والعنف يظل حاضرا كعقيدة في عقل الفرد الصهيوني، والصهاينة كلهم نشطون يراعون الوصايا العشر، حريصون كل الحرص على تنفيذ وصية بن غوريون التي تقول وتؤكد على واجب كل يهودي بمساعدة إسرائيل بغض النظر عن رغبة أو عدم رغبة حكومة الدولة التي يتواجد فيها. وعلى أية حال فإن هذا السقوط المدوي لهؤلاء المطبعين يكشف ويؤكد جملة من الحقائق: الحقيقة الأولى: إن الانبطاح بدا طبيعيا عند هؤلاء المطبعين الذين انساقوا وراء مغريات السلطة والنفوذ، فلم يحرجهم أن يكونوا عملاء للكيان الصهيوني الإرهابي، ولم يخجلهم أن تكون تصريحاتهم فجة ومؤذية، كما أنهم لم يدركوا خطورة ما أقدموا عليه من تفريط شامل في سيادة المغرب وكرامة المغاربة، وفتح المجال للصهاينة كي يؤثروا سياسيا وفكريا واقتصاديا. الحقيقة الثانية: إن لجوء وزير الخارجية من خلال تصريحاته البهلوانية إلى التبرير وتوضيح الفرق بين التطبيع واستئناف العلاقات، يدل على أنه يعي وعيا تاما منذ البداية أن الكيان الصهيوني جسم غريب وسط محيط مغربي فلسطيني الوجدان، رافض لكل ماله صلة بهذا الكيان الإرهابي العنصري. ويدل كذلك على أن التطبيع كان ولازال وسيظل يواجه استعصاء داخليا، ومن العبث توهم إمكانية تمريره حتى ولو استبدله بكل مصطلحات اللغة العربية. الحقيقة الثالثة: المطبعون لا يخفون وجوههم ولا نواياهم حول تبينهم الكامل للرواية الصهيونية، ووزير الخارجية نفسه من المتحمسين جدا لهذا التبني ولو على حساب الدم الفلسطيني الذي يراق صباح مساء على يد الصهاينة. والسيد بوريطة الذي قال بأنه سيخلق سردية مختلفة، وبأن في عروق كل "إسرائيلي" دم مغربي – وهذه كذبة بالألوان – يريد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية خلق سردية مختلفة عن الحقيقة وعن واقع الاحتلال، سردية لا تناقض السياسة الصهيو- أمريكية، سردية لا تتحدث عن الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني منذ القرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية، حيث حولت ملكية وطنهم الذي عاش فيه أجدادهم منذ أقدم العصور إلى لعبة في أيدي الصهاينة، سردية تسعى لبلورة إيديولوجية معادية للعرب وحقهم في التقدم والانعتاق من ربقة الاستعمار. ومجرد التأمل في هذا الإلحاح العجيب على السردية المختلفة يفتح باب التشكيك حول نواياه ونوايا المطبعين، كما يؤكد أن الأخلاق والحس الوطني ليسا هما الضحيتان الوحيدتان في هذه التصريحات لأن هناك ضحية ثالثة وهي حقيقة التاريخ، وحقيقة الواقع الذي لن تفنده لا أضاليل السياسة ولا أباطيلها. حقيقة كيان الاحتلال الغاصب، ومنظماته الصهيونية التي لا هدف لها سوى توسيع رقعة "إسرائيل" وتقويتها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا لمجابهة أي تحرك تقدمي مناهض، حتى ولو كان هذا التحرك فكريا. ولعل" المؤتمر اليهودي العالمي" العابر لجل بلدان العالم قد نجح في التأثير على المطبعين مادام يؤكد على تقديم الدعم والدفاع عن الصهيونية تحت ستار الدفاع عن حقوق اليهود. الحقيقة الرابعة: التصريحات كلها كانت مرافعة قوية للدفاع عن الصهاينة، ومحاولة تبرئتهم من جرائم القتل والتعذيب والترهيب، والاغتيالات، ومن حرب الإبادة لتصفية شعب بكامله. وما يتبجح به المطبعون حول دفاعهم عن السلم هو قول لا معنى له، بل يتنافى مع المعايير الأخلاقية خصوصا، والعالم بأسره يشهد هبة قوية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ولإدانة نظام الأبارتهايد الصهيوني. الحقيقة الخامسة: إن الطبقة الحاكمة التي أغرقت البلاد وأدخلتها في حالة خطيرة من الفساد والكساد، تريد بجرة قلم أن تسقط عنا شرف الانتماء إلى الأمة العربية، وتزج بنا في مستنقعات الدم إلى جانب من يستبيحون دماء الفلسطينيين، واللبنانيين، والسوريين، والعراقيين، واليمنيين، والليبيين. هذه الطبقة الفاسدة، آخر ما تفكر فيه هو مصلحة الوطن ووحدته الترابية وصحرائه المغربية. لقد كانت رقصة المغاربة في المونديال شهادة إبداعية ضد الصهيونية، وانتصارا للحق الفلسطيني. والكرة المغربية أسهمت بطرح شعار المرحلة: ليسقط التطبيع. وعندما ركضت أسود الأطلس، تبلورت المشاعر العربية، وتعانقت القلوب، وتوحدت الحناجر، ورفرفت عاليا الأعلام، وانتصب العلم الفلسطيني عملاقا شامخا تطاول هامته عنان السماء.فكان المونديال إنجازا سياسيا ضخما توج حبا فلسطينيا عمره مئات السنين، وأهم ما في هذا الإنجاز هو أن الذين غنوا ورقصوا لفلسطين أعادوا الأمور إلى نصابها، إلى البداهة الأولى التي حاول المطبعون تمييعها وإخفاءها، وهي أن التطبيع مع العدو الصهيوني مرفوض، والمغاربة قالوا فيه كلمتهم لأنهم يرون الاحتلال احتلالا، ويرون في الكيان الصهيوني كيانا استعماريا، ولا يمكنهم الاستهانة بدماء شهدائهم الذين قدموا أرواحهم في معركتنا المصيرية ضد الصهيونية ومخططاتها العدوانية في التوسع و التخريب وتفكيك الأوطان. المغاربة رقصوا والهدف هو إضاءة الوجدان الإنساني وإعطاء الحياة بعدها الحقيقي. المغاربة غنوا لفلسطين ليؤكدوا أن المستقبل للشعوب العربية لأن لديها من الإمكانات المعنوية ما يكفي لضمان واستمرار الموقف الشعبي الذي يعيد إلى الأذهان المسيرات المليونية المنددة بالهجوم على ليبيا وعلى غزو العراق وعل العدوان على لبنان، وعلى التقتيل المتواصل للشعب الفلسطيني. وقبل الحديث عن الحقيقة الغائبة في تصريحات الوزراء الأربعة خصوصا التصريح المزعج لوزير الخارجية حول السردية المختلفة، أعود لطرح هذا السؤال: لصالح من تحاول الدولة المغربية تغيير السردية الحقيقية التي تكونت عضويا وتاريخيا على أساس رفض الصهيونية ومناهضتها؟ علما أن "إسرائيل" نفسها ومنذ ما يناهز ثمانية عقود، لم تستطع تغيير حقيقتها ككيان غاصب استئصالي، رغم دعم أمريكا واللوبي الصهيوني، والأموال الهائلة، والإمبراطوريات الإعلامية. وأتساءل أيضا: لصالح من هذا التلاعب بمخيال جماعي مغربي أخذ وقته ليتشكل ويتبلور حبا في فلسطين؟ ولصالح من سيتم الهجوم على ثقافة متأصلة وتراث عريق؟ والحقيقة التي غابت عن ناصر بوريطة ومن معه، هي أن المغاربة الذين قالوا لا للتطبيع مع العدو الصهيوني، سيقولون ألف لا ولا لتواطئكم مع الامبريالية والصهيونية من أجل تصفية القضية الفلسطينية، لأنهم وطنيون حقيقيون، غنوا للصحراء المغربية المسترجعة، واعتبروا استقلال المغرب ناقصا. ولا زالوا يطالبون باسترجاع سبتة ومليلية والجزر المتوسطية، وتحرير فلسطين كل فلسطين. لذا فإننا لا نقبل "إسرائيل" كما لا يقبلها كل أحرار العالم.