فرنسا.. تهم خطيرة تلاحق الجزائري سعيد بن سديرة بعد دعوته لشن هجوم كيميائي ضد شعب القبائل    الرجاء يعود للمنافسة في دوري أبطال إفريقيا بفوز ثمين على صن داونز    عبد المولى المغربي رئيسا جديدا للاتحاد الليبي لكرة القدم    البحرين يقلب الطاولة على عمان ويُتوج بكأس الخليج    الوداد الرياضي يفوز على مضيفه المغرب التطواني (2-1)    أسعار بذور البطاطس تهوي إلى 20 درهما.. وانخفاض السعر ينتظر المطر    اكتشاف خزانات وقود معيبة في سيارات "هوندا أمريكا"    جنازة تشيّع السكتاوي إلى "مقبرة الشهداء".. نشطاء يَشهدون بمناقب الحقوقي    "مايكروسوفت" ترصد 80 مليار دولار للذكاء الاصطناعي    "نصاب" يسقط في قبضة الشرطة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. مانشستر سيتي يفوز على ضيفه وست هام (4-1)    تأمين حاجيات الدواجن خلال شهر رمضان بالأسواق يجمع وزير الفلاحة بكبار التجار    يوسف أخمريش يُجدد العقد مع توتنهام الإنجليزي    إحراج جديد لنظام الكابرانات أمام العالم.. مندوب الجزائر بالأمم المتحدة ينتقد وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية علنًا    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية وتساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من أقاليم الشمال    وفاة أكبر معمرة في اليابان عن عمر ناهز 116 عاما    إعادة انتخاب مايك جونسون رئيسا لمجلس النواب الأمريكي    منيب: نريد تعديلات لمدونة الأسرة تحترم مقاصد الشريعة لأننا لسنا غربيين ولا نريد الانسلاخ عن حضارتنا    الحكومة تتجاهل مقترحا ل"الوسيط" بشأن صعوبات ولوج متضرري زلزال الحوز إلى الخدمات العمومية    تامر حسني يخرج عن صمته ويكشف حقيقة عودته لبسمة بوسيل    حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة مستمرة.. استشهاد 22 فلسطينيا وفقدان 14 آخرين في قصف إسرائيلي    استئناف محادثات غير مباشرة بين حماس وإسرائيل حول هدنة في غزة بقطر    أندية القسم الثاني تلعب وسط الأسبوع    بعد 23 من تبني اليورو .. الألمان يواصلون تسليم المارك    المتقاعدون يدعون للاحتجاج ضد تردي أوضاعهم ويطالبون بالزيادة الفورية والرفع من الحد الأدنى للمعاشات    غزة تسجل 59 قتيلا خلال يوم واحد    اندلاع حريق مهول في مستودع للعطور ومواد التجميل بعين السبع    تفسير أولى تساقطات سنة 2025 .. "منخفض أطلسي" يغطي شمال المغرب    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية في الحسيمة ومناطق أخرى    تسرب غاز البوتان يودي بحياة شاب في زايو وسط استنفار أمني    الأخبار الكندية تكلف "غوغل" أكثر من 69 مليون دولار    سليم كرافاطا وريم فكري يبدعان في "دا حرام" (فيديو)    بطولة انجلترا.. الفرنسي فوفانا مهدد بالغياب عن تشلسي حتى نهاية الموسم    "اف بي آي" ينفي أي صلة ل"الإرهاب" بانفجار مركبة تيسلا في لاس فيغاس    "ضحايا النظامين الأساسيين" يصعدون بوقفة احتجاجية أمام وزارة التربية    حادثة سير مميتة تسلب حياة طفل بجرسيف    تداولات الأسبوع في بورصة الدار البيضاء    رالي "أفريكا إيكو ريس".. تجاهل تهديدات البوليساريو والمشاركون يواصلون رحلتهم على أراضي الصحراء المغربية    خبراء يحذرون من استمرار تفشي فيروس "نورو"    تشاينا ايسترن تطلق خط شنغهاي – الدار البيضاء    افتتاحية الدار: الجزائر بلد الطوابير.. حين تصبح العزلة اختيارًا والنظام مافياويًا    المغرب أنتج 735 ألف طن من لحوم الدواجن خلال 10 أشهر وارتفاع أسعارها يعود للوسطاء    مكتب الصرف يصدر دورية تنص على إجراءات تسهيل وتبسيط نظام السفر للدراسة في الخارج    دراسة تحدد النوع الأساسي لمرض الربو لدى الأطفال    ظهور حالات إصابة بمرض الحصبة داخل السجن المحلي طنجة 2    الفنانة المغربية سامية دالي تطلق أغنيتها الجديدة «حرام عليك»    الصويرة تستضيف المخرج والفنان المغربي ادريس الروخ في الملتقى السينمائي السادس    شذى حسون تستقبل السنة الجديدة ب"قلبي اختار"    أداة "ذكية" للكشف عن أمراض القلب قبل ظهور الأعراض    الموسم الثاني من "لعبة الحبار" يحقق 487 مليون ساعة مشاهدة ويتصدر قوائم نتفليكس    عبد الرحمان بن زيدان.. قامة مسرحية شامخة في الوطن العربي بعطائه المتعدد وبَذْله المُتجدّد    الشاعرة الأديبة والباحثة المغربية إمهاء مكاوي تتألق بشعرها الوطني الفصيح في مهرجان ملتقى درعة بزاكورة    خبير يكشف عن 4 فوائد أساسية "لفيتامين د" خلال فصل الشتاء    بنكيران: الملك لم يورط نفسه بأي حكم في مدونة الأسرة ووهبي مستفز وينبغي أن يوكل هذا الموضوع لغيره    الثورة السورية والحكم العطائية..    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة إلى المؤتمر الاندماجي لفدرالية اليسار
نشر في لكم يوم 19 - 12 - 2022

"الانتماء إلى واقع الناس وترجمة فكرهم سبيل لولوج مجتمع الكرامة"
تقديم
ينعقد المؤتمر الاندماجي لفدرالية اليسار أيام 16، 17 و18 دجنبر 2022 في لحظة وطنية ودولية فارقة تنذر بتغيرات جوهرية وتستوجب على الفاعل السياسي النقدي أن يتعبأ أكثر للتفكير والعمل من أجل مواجهة المستقبل والبنيات القوية التي تهدد تماسك المجتمع المغربي وحرية الفرد فيه. فعلى المستوى الدولي عرت أزمة الكوفيد 19 واشتداد الحروب في عدة مناطق (الغزو الروسي لأوكرانيا والغزو الأمريكي والروسي والحلف الأطلسي المستمر في الشرق الأوسط وفي إفريقيا) على واقع التسلط والفئوية والتراتبية والاستبداد الذي يطبع سياسات القوى العظمى. هذه الأخيرة تستمر في تقسيم العالم تقسيما عنصريا إلى شمال/جنوب وتميز بين الحضارات الإنسانية إلى حضارة سائدة وحضارات ثانوية لا تصلح في نظرها إلا للغزو والاستغلال ووضع حدود أمام الهجرة والتنقل والمنع من اقتراح أي مسارات سياسية وفكرية جديدة لمواجهة تحديات المستقبل ومآسي السلطوية والحرب.
ولعل المؤتمر الاندماجي لتجمعات سياسية يسارية مغربية فرصة للتعبير عن أفكار متجددة، تنطلق من تجارب إنسانية واعية ببنيات التسلط التي تحكم مساراتنا داخل مجتمع ما بعد استعماري يتعرض لعنف السياسة الوطنية وتسلط السياسات الخارجية معا. إنها فرصة لطرح فكر يساري بقراءة متجددة لواقع الهيمنة التي تنتج القهر وتهدد كرامة الإنسان، كما أنها لحظة للارتباط أكثر بالناس واقتراح مسالك سياسية قادرة على مواجهة أشكال العنف المؤسس عبر الفكر والمواقف المتزنة التي لا تقبل بالعنف كما لا تقبل بالسيطرة والإهانة.
هذه الرسالة تأتي لتتقاسم مع ورقات المؤتمر بعضا من النقط وتفترق مع أخرى، مدشنة لنقاش منفتح على جميع المغاربة، لا يقبل بالانغلاق النظري. تنطلق هذه الرسالة من لغة تختلف عمدا عن الأولويات التي سطرها اليسار في السنوات الأخيرة، منتقدة بذلك صمت الفاعل السياسي النقدي بخصوص عدد من القضايا الجوهرية التي تشكل هاجسا يوميا في حياة المغاربة. فتنتقد هذه الرسالة الصياغات الأيديولوجية القديمة التي ترتفع عن واقعنا وتطرح قراءة لأهم الإشكالات التي تستوجب النقاش وإيجاد مواقف واضحة داخل الحزب الجديد الذي نحن بصدد تأسيسه.
تصور الفعل السياسي وأداة الحزب
ننطلق من أن السياسة قضية الجميع. فعلى المستوى الفكري، السياسة لا تخضع لتخصص مجال علمي معين يحدد لنا كيف يجب أن تكون الممارسة السياسية لا الفلسفة ولا علم السياسة ولا علم التاريخ ولا علم الاقتصاد ولا علوم الدين والمجتمع). السياسة تخص عموم الناس بمعنى أنها مجال يحق للجميع فيه، وبدون أي شروط مسبقة، أن يطرح رأيه ويتفاعل مع مختلف التصورات والممارسات السياسية الأخرى. لكن الرأي في السياسة لا يمكن أن يكون حرا عندما يواجَه باحتكار السياسة من طرف حكومة (ديمقراطية كانت أم مورَّثة) ولا يمكن أن يكون متكافئا ومتساويا عندما يصطدم بمحتكري ال"القول" والفعل السياسي من طبقات سائدة رمزيا وسياسيا ومن محتكري الكلام في السياسة مثل الموظفين المعينين والأحزاب وتنظيمات المستفيدة من قوانين تجعلها ممثلا وحيدا لأفكار الناس وآرائهم.
فأمام واقع الاحتكار الحديث للسلطة أي احتكار الدولة الوطنية لمهام التعيين، والفئات السائدة للقرارات السياسية والدول العظمى للهيمنة عبر الاقتصاد والحرب والمؤسسات العالمية فإن الفاعل السياسي النقدي اقترح فكرة "التنظيم" لتجميع الفئات التي لا صوت لها من أجل بناء قوة سياسية تدافع عن رأيها ومصالحها. فكان لينين مثلا منظرا، من داخل الفعل السياسي، لفكرة التنظيم القطري ببعد عالمي. وكان المهدي بنبركة وفرانز فانون وباتريس لومومبا وغاندي ومالكوم إكس وغيرهم من مناهضي الاستعمار العنصري منظرين كذلك من داخل الفعل السياسي لفكرة التجميع خارج مسارات القطبية الاستعمارية. وذلك من أجل رسم طريق جديد مع شعوب عاشت قرون من الهيمنة والاستعباد بعد صعود التقنية الحديثة في الغرب ونشأة أيديولوجيات تريد اللحاق بالغرب عبر نهج نفس سياسات الاستعمار والغزو.
فإذا كان الفكر السياسي لا ينتمي سوى للناس بغض النظر عن العلوم، فإن العمل السياسي كذلك ليس حكرا على الدولة ولا على الأحزاب ولا على التنظيمات السياسية والنقابية والجمعوية. إن الحزب ليس غاية في حد ذاته فالغاية هي سياسة الناس التي تريد مقاومة جميع أشكال السيطرة التي تمارس على الناس نفسهم. فعندما ترتفع حدة السيطرة وتتجاوز آليات السلطة كل حدود المجتمع، فمن الواجب اختيار كل أشكال المقاومة والدفاع عن المجتمع وعن النفس. ولعل المقاومات التي طبعت الربيع العربي والثورة السورية وغيرها من الحراكات الشعبية غير المستندة إلى تنظيمات سياسية موحدة ومحتكرة للكلام باسم الناس، صورة من صور العمل السياسي القادر على بلورة نقد عميق لمراكز العنف المؤسس داخل المجتمع. إنه العمل المستند لفكر الناس والذي لا ينتظر قرارا ولا تنبؤا من أي معرفة خاصة أو توجه فلسفي معين أو تنظيم سياسي. وحده ذكاء الناس، باعتبار السياسة مسألة تخص الناس، يحدد مسارات الفعل والتفكير في لحظات استقواء العنف والاستبداد واستغلال الحكومات والفئات السائدة محليا ودوليا.
إن الحزب في تصورنا أداة من أدوات السياسة الحديثة أي السياسة التي بدأ يحكمها الاحتكار منذ صعود الفكر القومي في الغرب ووصوله إلى المستعمرات. فالحزب ظاهرة تاريخية تنتمي لتاريخ معين، ظهر وسط الحداثة السياسية باعتبارها نموذجا قائما قبل كل شيء على مؤسسات الدولة الوطنية المتحكمة في المجتمع. فيصبح بذلك الحزب أداة يمكن لفئات متضررة العمل عبرها لتجميع قوى النقد ومواجهة خطابات السلطة وما تنتجه من سيطرة. فالأداة الحزبية التي نطمح لبنائها لا تقدس مفهوم التنظيم ولا تعتبر مناضليها تابعين لمقررات وخطاب جامد حتى وإن خضع هذا الأخير إلى التصويت والإجماع داخل الهياكل. بل يعتبر حزبنا الفكر متحركا وقائما على الجدال والنقاش المفتوح الذي يسمح للجميع، كل حسب تجاربه وموقعه، الإدلاء بتصوره والعمل على التجميع حوله. ويبقى الخط الحاسم في الانتماء للحزب واستعمال أداته هو الرغبة في إعمال ما يوجد داخل المجتمع من أفكار وفعل يقاوم خطابات ومؤسسات التسلط التي تفعل داخل المجتمع وهي مرتفعة عنه. إنها الخطابات التي ترتبط بمؤسسات فوقية كالحكومات والوزارات والإدارات والقوانين التي لا تحفظ كرامة الناس ولا حرية الأفراد ولا التماسك الاجتماعي. فالحزب، قبل كل شيء، واجهة وفضاء يفتح الباب لتنظيم الخطابات النابعة من المجتمع والمجيبة على مآسي التسلط والتمييز التي أنتجتها مؤسسات الحكم. ومن بين هذه المؤسسات مثل المدرسة والمستشفى والقضاء ووحدات الإنتاج الصناعي ما يتمظهر بمظهر البراءة (تعليم، صحة، عدل، شغل منظم) في حين أنها لا تنتج وسط السياسات الحكومية السائدة سوى التمييز، الظلم، الاستغلال وخطابات أيديولوجيا الخضوع. فالحزب الذي نطمح إليه يسهر على أن يكون عمل المناضلين دعوة مستمرة للبحث وتفكيك ما يهدد الناس في مساواتهم وحقوقهم وحرياتهم، وهو دعوة للارتباط اليومي بالواقع وتفكير في طرق الضغط على مؤسسات السلطة واقتراح بدائل تدافع عن المجتمع وعن كرامة الجميع. فحزبنا لا يطمح إلى "الوصول إلى السلطة" كما تعتبر ذلك جل التعريفات التي تكررت في السنوات الأخيرة حول طبيعة الأحزاب السياسية. بل نعتبر أن السلطة السياسية الحكومية في عمقها تنتج السيطرة والهيمنة. لكن الحزب يعتبر كل الواجهات التي يمكن أن يشتغل فيها بما في ذلك البرلمان والمجالس المنتخبة امتدادا لعمل يومي يقوم على التحقيق المستمر في السياسات التي تنتجها السلطة، ونقد آليات الهيمنة واستثمار طريق آخر لإيصال معاناة الفئات المجتمعية المتضررة.
عهد جديد شكل خطرا على تماسك المجتمع
شكل التداول الجديد على الحكومة، بعد وفاة الملك الحسن الثاني وصعود الملك محمد السادس إلى الحكم لحظة أمل واكبها تغيير جديد وانتقال من خطاب السلطوية إلى وعود بالمصالحة والانفتاح وتوسيع هوامش الحرية سواء لصالح الفاعل السياسي المطالب بالإصلاح الديمقراطي أو لصالح الفئات المهمشة في مختلف المجالات. فبدأت فعلا تظهر سمات سيادة جديدة ونهج اقتصاد يقطع مع طرق إدارة سابقة كان يميزها عموما تهميش ومعاقبة أجزاء من الساكنة التي لا يتم اعتبارها في مخططات الدولة. توالت خطابات الإصلاح باستمرار في كل الخطب وبدأت فعلا تظهر أكثر من أي وقت مضى مخططات إدارية تريد الوصول لجميع الجهات من أجل فرض نمط اقتصادي وسياسات جديدة على كل التراب الوطني. لكن ماذا أنتجت عمليا هذه السياسة التي رفعت بالفعل من وثيرة السياسات العمومية والحكومية المتسارعة ؟ أطلقت هذه السياسة مشاريع "تنموية"، فارتفعت وتيرة التمدن وبسطت أشكالا متعددة من المواصلات من خلال سياسية مركزية تفرض نمطها الاقتصادي على كل الجهات. واكب هذا التحول التقني إصلاح إداري قائم على مضاعفة هياكل الإدارة لتصبح محورية أكثر من السابق، فتم فرض الحصول على التراخيص التي تضبط وتوجه حياة الناس، ووصلت الإدارة والقانون إلى مجالات أوسع لترسم، باسم تنظيم المجتمع، طريقا واحدا يُخضع الجميع إلى إرادته. وتوسعت رقعة استقطاب الإداريين والأمنيين حتى التضخم من أجل الإسراع في تنفيذ سياسات مُنزّلة من فوق. استمر خطاب السلطة وهو يطلق المشاريع التنموية في التذكير بضرورة الالتفاف على الوطن وتحديد رموزه والتحذير من الحرب الداخلية التي ربطها بعدو الإرهاب و"الخلايا النائمة" التي تجزم السلطة أنها تفككها بيننا كل يوم. وربط هذا الخطاب السائد الحرب الخارجية بأعداء الوحدة الترابية الذين يقدمهم لنا كفاعلين إقليميين يطبعهم الكيد والكراهية وتحركهم نزعة الحرب.
لقد قامت حتما هذه السياسة بإحداث تحولات عميقة على مستوى المغاربة. أصبحت فئات شاسعة عندما تتحدث عن السياسة تعيد إنتاج هذا التصور. وهي تنفذ في كل المناطق، تركت هذه السياسة أثرا في تماسك المجتمع وفي ثقافات أفراده . فعلى المستوى الاجتماعي أنتجت سياسة التنمية خللا كبيرا عبر إحداث فوارق واسعة بين فئات جديدة تستفيد بطرق متفاوتة من المسار الذي أخذه السوق عندنا. فقامت الخوصصة كما تم نهجها في غياب تام لتقوية مؤسسات الحماية الاجتماعية بتفكيك مظاهر التماسك. فخلقت فئات إداريين ومشغلين وحاملي شواهد جديدة منفصلة في أفكارها ونمط عيشها عن فئات المقهورين والممنوعين من الرساميل اللازمة لخوض هذه المنافسة المفروضة (شواهد عليا، لغات التمييز داخل السوق، رأسمال العلاقات الموروثة، إلخ.). إنها الرساميل التي صارت توزعها نفس الإدارة التي تضبط الولوج لمناحي الثقافة المتوسطة التي بدأت تظهر وتسود. هي نفس الإدارة التي تحمي الفئات المستفيدة والقادرة على خوض صراع التنافس بما تكتسبه من علاقات اجتماعية وتقنيات ومكتسبات تتمكن من توريثها والسيطرة عليها.
فرض هذا التحول ضغطا كبيرا على فئات محرومة من التعليم ومن الصحة ومن القوانين السائدة التي تنهج تنمية لصالح فئات دون أخرى وتفرض ثقافة ضاغطة تفكك العلاقات داخل البيوت ومختلف الفضاءات الشعبية. فالمستشفى الذي كان عموميا ويتساوى في الولوج إليه (أو عدم الولوج إليه) نسبيا الجميع، صار يحكم على فئات كبيرة بعدم الاستفادة من الحق في الصحة مقابل فئات قليلة من الأغنياء والإداريين أصحاب التأمين. الفئة الأخيرة تستطيع الوصول للمصحات الخاصة التي انفجرت أعدادها بدعم من الدولة "التنموية". نفس الشيء ينطبق على المدرسة التي صارت تميز عن طريق الخوصصة بين المغاربة منذ الطفولة وإلى غاية الولوج للشغل. نفس الأمر ينطبق على عزل الثقافات التي كانت تنتجها الجامعة رغم قلة الولوج إليها وغيرها من فضاءات التربية التي طالما ضمنت استقلالية الفاعلين فيها ونشرت قيم نابعة من الناس وتاريخهم ومؤكدة على مناهضة الظلم، مرسخة للتضامن وحرية الفرد المنسجم مع مجتمعه. هي نفسها القيم التي انقلبت بفعل السياسات التنموية المنتهَجة إلى ثقافة هجينة ممتزجة بفردانية شرسة بعيدة عن معنى الحرية الفردية بما هي اعتراف الذوات بفرادة الذوات الأخرى وكرامتها داخل المجتمع. فالثقافة التي خرجت من باب مغرب التنمية يطبعها الخوف والرضوخ للقرارات الإدارية الموضوعة باسم القانون. فشاعت قيم أخرى داخل المجتمع استبدلت التضامن الجشع والخوف وترديد خطب الوطنية الفارغة من أي معنى إنساني صادق. كلها تعابير جديدة عبرت عن التفكك وأزمة التماسك التي تعم المجتمع وسط سياسات "الأوراش الكبرى" والتنمية.
شكل التوسع الإداري للسلطة والمنجزات الظاهرية التي يتم نفخ حجمها إعلاميا أداة فعالة في نشر خطاب وفكر يحاول رأب الصدع الذي يهدد التماسك الاجتماعي. انتشر عبر هذه الإدارة الجديدة خطاب وطنية متسلطة تحدد أولويات "الوطن" التي لا تعبر إلا عن أولويات فئات قليلة في الواقع. ظهر هذا الخطاب الذي يربط الإدارة بالتنمية والتنمية بالوطنية بقوة في فضاءات مثل الإعلام الموجه والبرلمان القائم على شراء الأصوات وعند الإداريين الجدد. أطلق العنان لأصوات تنادي بعنصرية وكراهية تحت مسمى الوطنية، عند الفئات المستفيدة فئويا من التنمية وبسط الإدارة والأمن. إنه خطاب تمجيد التسلط والمقاربة البوليسية ونمط حياة مفصول عن واقع الناس. فنفَذ نفس هذا الخطاب العنصري على مستوى الفئات المتضررة والمقهورة آخذا منحى الأيديولوجيا التي تكرر شعارات تحمل العداء لمن ليس مسؤولا مباشرا عن القهر والتفاوتات داخل المجتمع : وطنية عنصرية ضد من يواجه خطاب السلطوية المهيمنة، ضد المهاجرين الذين يشاركون المغاربة مآسي الاستعمار وويلات الحرب والقهر، ضد شعوب شقيقة نتشارك معها قدَرَ تحكُّم السلطوية ومؤسسات يحركها منطق الحرب. ساد إذن خطاب وطنية شعبوية لا تمت صلة بالوطنية المناهضة للاستعمار التي نشأت وسط الحركة الوطنية بشمال إفريقيا وبالمغرب. كما أنه الخطاب الذي لا يمت صلة بوطنية إصلاحية مثَّلها جيل من السياسيين الذين استطاعوا غداة الاستقلال تحقيق ارتباط عضوي مع المجتمع ونوع من الوفاء لما يطبعه من تضامن ومناهضة السلطوية.
حِراكات من أجل المجتمع
أمام مسار سياسات لا تصدر من أفكار الناس ولا حتى من مؤسسات تمثيلية منتخبة، وأمام ارتفاع الضغط الصادر عن سلطة فوقية واقتصاد يفرض تصور محدد دون أن يوفر إمكانيات الولوج إليه، ارتفع صوت الشارع والاحتجاج والرفض في لحظات عديدة منذ بداية "العهد الجديد". في خضم الربيع العربي لسنة 2011، شكلت حركة 20 فبراير منعطفا تبلورت من خلاله مطالب ورغبة جماعية دون حاجة لوسائط وأداة تنظيمية، فحملت رسالة الاحتجاج فكر الناس مكتوبا بكلماتهم التي تعبر عن معيشهم وأحلامهم والسياسة التي يريدون. احتضنت أحزاب اليسار وبعض التنظيمات الإسلامية هذه المطالب بغاية الاستمرار في رفعها في الشارع ونقلها داخل مقاراتها وخطابها كذلك. كانت المطالب تبرز الفساد والاستبداد وتدافع عن القيم التي همشها العهد الجديد ك"الكرامة" بدلا من الخضوع للتدبير والمخططات غير النافعة، "الحرية" بدلا من التنميط ومحاصرة الأفكار المتعارضة مع الوطنية المغشوشة، "العدالة الاجتماعية" بما هي جواب على إدخال المال والربحية في قلب العلاقات الاجتماعية وبما هي رغبة في التصدي للتفقير والضغط الاقتصادي والتفاوتات التي انفجرت مع العهد الجديد.
لم يكن الجواب على هذه المطالب سوى بالرفع من وثيرة خطاب التنمية والمزيد من الإصلاحات التي عززت أكثر فأكثر حضور وتسلط الأمن والإدارة والرهان على المال والاستثمارات الجديدة التي تعد بتوفير الشغل دون حديث عن آفاق هذا العمل وعن شروطه وطبيعته وأوضاع العاملات والعاملين فيه. أما على مستوى اعامل السلطة السياسي، فصحيح أن العنف الممنهج انخفضت حدته طيلة سنوات حراك 20 فبراير باعتبار خطورة القمع على مصادر السلطة نفسها في مرحلة لم يكن المغاربة مستعدين فيها لتحمل المزيد من العنف البوليسي دون رد فعل كان يمكن أن يدخل البلاد في طريق أكثر تعقيدا. وربما حافظت الملكية على ثقة المغاربة عندما لم تختر طريق العنف الشامل في الرد على الحراك، كما استمر خطابها بين التأرجح من جهة السلطوية وتفضيل فئات قليلة على الفئات الواسعة من ضحايا السياسة الجديدة، ومن جهة أخرى الاستمرار في كسب النخب التي سرعان ما تنفصل عن الناس. نفس التأرجح ساد بين احتكارها سياسة تنفيذية وقرار اقتصادي واسع وبين نهج التقرب من المخيال الجماعي وعدم الانفصال عن الثقافة الشعبية. لكن هذا التقلب المستمر بدأ يضعف مع انغلاق آفاق الربيع العربي وصعود القمع والتطرف السياسي الذي يذكر بفاشيات القرن الماضي في مختلف مناطق العالم، خاصة في الدول الغربية منذ 2011. ولعل القمع الذي طال الحراك في الريف سنة 2016 وتعزيز القبضة البوليسية عبر استغلال جائحة كورونا لإرساء حالة الاستثناء، ثم شراء كل المسلسل الانتخابي سنة 2021 وتوطيد قمع الصحافة ونشر أبواق الدعاية وعودة الوطنية في صيغة التخوين كلها محطات تظهر بوضوح إغلاق قوس 20 فبراير كما تم إغلاق قوس حكومات التناوب وهامش حرية التعبير والاحتجاج.
أي حداثة نريد؟
خاضت النخب السياسية والفكرية المغربية في النقاش حول الحداثة والتحديث منذ الخروج من الاستعمار الإداري المباشر. استخدم هذا النقاش مسميات ومصطلحات فلسفية واقتصادية مختلفة (التقنية، التقدم، التنمية، الدولة المدنية، الإصلاح، العلمانية بل حتى "الجهاد الأكبر" في إحدى اللحظات). ساد تصور واضح لمعنى الحداثة عبر عنه المفكر عبد الله العروي في أهم كتاباته. فلا شك أن المجتمع المغربي والفرد المكون له عبارة اليوم عن وحدة تطبعها التجربة الحداثية بما هي تفريد للذوات أي وعي الذات بذاتها دون خضوع تام لأي مؤسسة سياسية أو اجتماعية. والحداثة تتمظهر في المغرب وغيره من المجتمعات ما بعد الاستعمار من خلال سلطة تقع خارج الفرد وجماعته المباشرة (سلطة مرسخة في آليات الدولة ومؤسساتها الإدارية والعاملة على التنشئة الاجتماعية بمعناها الشامل). فلو انطلقنا من هذان التعريفان اللذان يتواجدان في قلب النقاش حول الحداثة عند الغرب منذ القرن الثامن عشر والذي استنسخه العديد من المفكرين عندنا بعد الاستعمار، فإنه من اللازم اعتبار المغرب بلد حديث. فالإشكال، عكس النقاشات التي سادت من قبل، ليس حول ما إذا كان المغرب دولة ومجتمعا حديثا أم تقليديا. نعتبر داخل الحزب أنه النقاش حول الحداثة يستدعي القيام بتقييم لمسار تجربة الدولة الوطنية ومؤسسات تحديث المجتمع، وذلك ليس باعتبار الحداثة قيمة إيجابية أو سلبية. بل ينبغي الوقوف على المشاكل التي أسستها الحداثة داخل المجتمع كما المشاكل التي يمكن معالجتها ببعض الآليات التي تتيحها تجربة التحديث نفسها. لكن هذا التقييم لا يجب أن يخضع فقط للتفكير السائد في نطاق مفكرين ينطلقون من الدولة ويخلصون إليها : ما ساد من خطاب منذ الستينات في المغرب وباقي الدول الخارجة من الاستعمار كان يريد فقط اللحاق بالمستعمِر الذي يتم اعتباره هو النموذج الأعلى وثوراته العلمية والتقنية التي أدت إلى هذا الاستعمار هي القدوة التي ينبغي الوصول إليها. أمام الزحف المستمر لآليات تحديث هجينة لا هي غربية ولا هي نابعة من قرار ذاتي، لم يُكتب لفكر رافض لمساري الغربنة الأوروأمريكية والاشتراكية السوفياتية أن يصبح فكرا مركزيا داخل الأحزاب النقدية. ورفضت النخب الاطلاع الفعلي على واقع السلطة في هذه النماذج المهيمنة، فصارت كلمات الحرية والقانون والديمقراطية والاشتراكية مجرد شعارات لا تعرف النخب معاناها التطبيقي في الغرب كما لا تعرف طريقا لتنزيلها في المجتمع المحلي وذلك رغم وجود بدايات تصور رافض للقطبية عبر عنه الشهيد المهدي بنبركة وغيره من مفكري ما بعد الكولونيالية مثل محمد عابد الجابري وفرانز فانون وإدوارد سعيد.
أبرز ما ضمه النقد الحداثي في نهاية المطاف هو الإرادة الملحة في استنبات قيم لا وجود لها إلا عبر الأيديولوجا في الغرب نفسه[1]. فيتم نقد الأنظمة الحاكمة عندنا ليس لطبيعة سلطتها وإنما اعتقادا أنها تقف حاجزا في الوصول إلى التجارب المتَّخَذة كنموذج. فظهرت تحاليل تعبر عن وضع "الحداثة المعطوبة" وثنائية الحكم والاقتصاد التقليدي، كما تم تقديم الأفكار الموجودة داخل المجتمع التقليدي كعدو لل"عقل" والتحرر وجب التخلص منه. هذا ونهجت التجربة الإسلامية في شقها المهيمن نفس مسار الدعوة إلى حداثة "تحافظ على الخصوصية"، أي قائمة على نفس التصور الغربي للدولة الوطنية والديمقراطية التمثيلية والإدارة والسياسات العمومية مع إلباسها ثوبا إسلاميا نابعا من تأويل سلطوي للدين، يرى أن "تخلف المسلمين وتقدم الغرب" ناتج عن عدم إعمال النص الديني وتسخيره كما يجب في "الحكم". و انتبهت استثناءات قليلة على المستوى الفكري والسياسي من داخل الدين والتراث إلى ضرورة حدو مسار نقدي للدولة الوطنية الوارثة لتصورات استعمارية، نذكر من بين ممثلي هذا التيار محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمان، علي شريعاتي بل وكذلك العديد من فقهاء دين يطرحون قضايا التدين والسلطة من باب ثوري ومناهض للتسلط.
فالحزب الذي ننتمي إليه ينظر للحداثة أولا كحالة تؤسس المجتمع الذي ننتمي إليه شئنا أم أبينا، وذلك أننا كذوات نتأثر منذ زمن نشأة الدولة الحديثة مع الاستعمار بآلياتها وسياساتها العمومية واحتكارها إداريا قرارات تعمل داخل المجتمع (من سياسات تحديد الوطنية وصناعة المدن ومجالات العيش، إلى تلك التي تحدد موقع الأفراد في سلاليم المجتمع المرسومة عبر الوزارات والإدارة عموما). كما نعتبر داخل الحزب أن الحداثة "الكاملة" أي كما يتم تخيلها عند الغرب أو داخل المنظومات الاشتراكية لا وجود لها إلا في كتابات طوبوية قبل أن تتحول إلى شعارات أيديولوجية. فالدعوة إلى مشروع حداثي لا يمكن أن يكون دون انطلاق من فكر المجتمع ومتطلبات الناس وقراءة فعلية لتجارب مجتمعات أخرى، خاصة المجتمعات التي تحكمها دول استعمرتنا وتفرض اليوم علينا شعارات لا تحققها هي نفسها في واقعها. فلا معنى لحداثة قادمة من حكومات عنصرية ودول تغلق حدودها ناشرة الموت تحت أصوارها، كما لا معنى لحداثة قادمة من دول مأسست اللامساواة والطبقية والتمييز وتخوض حروبا طاحنة واستعمارا داخل وخارج حدودها، سواء كانت غربية أم روسية أم صينية أم مرتبطة بقطب آخر. ولا معنى كذلك لحداثة بغلاف الخصوصية الدينية الذي لا يحلم من يدعو لها إلا بامتلاك نفس تقنيات القمع والتسلط والتمييز والاقتصاد المالي المؤطر بنموذج استعماري.
أما إذا كان من ضروريات اللحظة استعمال كلمة الحداثة لكونها صارت فاعلة في أي نقاش حول الدولة والسياسية، فلا بد إذن من تعريفها بطريقة مختلفة. فالحداثة التي نريد تنطلق من كون غالبية الناس فقدوا إمكانيات التضامن الاجتماعي والفعل والتأثير دون اللجوء لمؤسسات الحماية الاجتماعية التي تتشكل داخل السياسات العمومية. فمن هذا المنطلق العملي فقط نعتبر الحداثة كدعوة لتحقيق الحقوق دون أي تمييز : الحق في المساواة الكاملة في الولوج للصحة والتعليم والسكن الذي يضمن الكرامة ما دام المستشفى والمدرسة والسكن سياسة أساسية للتمييز العنصري والفئوي الذي تنهجه السلطة في المغرب. فمعنى أن تكون الدولة "غير حداثية" يكمن قبل كل شيء في عدم توفير هذه الحقوق بالمساواة بين الجميع. كما أن الحداثة لا علاقة لها بنقد الدين ولا بالدعوة إلى أي عقل منقطع عن الناس. فهي لا تتعارض هنا لا مع التقاليد ولا مع طرق التدبير الجماعي الخارجة عن الدولة. فالنقد الما بعد حداثي لا يطمح إلى "تقدم تقني" كما لا يطمح إلى تعميم "مجتمع العمل والشغل" ومجتمع "الفردانية" المنفصل عن تاريخه وتقاليده. فالحداثة كما نطمح لها ليست سوى آلية يجب تفعيلها في قضايا محددة تخص تدخل مؤسسات الدولة لحماية الناس وضمان المساواة عندما تمنع نفس هذه الدولة الناس من تدبير أمورهم الجماعية عبر احتكارها للعمل العمومي : لا يمكن مثلا قبول غياب توفير الصحة للجميع على قدم المساواة الكاملة عندما تسمح الدولة تطور سوق داخل المجتمع يسمح فقط للأغنياء والمؤَمَّنِين الولوج للتطبيب. كما لا يمكن قبول استمرار مدارس خاصة وعمومية التفضيل والتمييز بين الناس. فالفكر ما بعد الحداثي هنا مثلا يقتضي إما منع شامل للمدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة أو جعل هذه الخدمات العمومية في نفس مستوى الخاص. وعلى مستوى نفس هذا المثال (المدرسة والصحة) لابد للسياسة الما بعد حداثية أن تكون واعية حتى بخطورة المدرسة والمستشفى إن توفَّرا دون سياسة نقدية تعمل على تقييم يومي أخلاقي لما قد يتم إنتاجه داخل المؤسسات من عنصرية : لا شك أن سياسات التنميط والفاشيات والوطنيات القاتلة وآليات الضبط والعنف والتصنيف تمر هي الأخرى في المجتمعات الحداثية من بوابة تطوير هذه المؤسسات التي تبدوا في ظاهرها أنها ترمز للبراءة والخير والتحرر. نفس الأمر يمكن قوله حول قضايا حكومية مثل القضاء والسكن والشرطة المؤسسة السجنية والصحة النفسية، إلخ.
بمعنى آخر لا ينبغي أن تشغلنا مطالب التقنية وتجويد خدمات الدولة عن نزعة نقدية تعود كل لحظة للواقع لتحتك بالمعاناة والمآسي التي تولدها هذه الخدمات المجودة نفسها. ولا ينبغي أن تشغلنا كذلك عن نقد مخاطر هذا التقدم الذي لا نحتاج آلياته إلا لأجل تخفيض حجم الدمار الذي يحدثه التدبير الحكومي لمختلف القطاعات. فتحقيق الحداثة دون أخلاق نقدية تنطلق من قيمة ضمان المساواة والكرامة للجميع يُنذِر فقط بالوصول لما نشهده اليوم بيننا من إشكالات تُطرح بحدة أكثر من قبل : مخاطر التفاوتات المتصاعِدة، مخاطر تكلس العلاقات الاجتماعية ووضع الإدارة والعلاقات الإدارية فوق كل تضامن وأُخوة، مخاطر تفتيت التماسك الاجتماعي، مخاطر الخضوع المطلق لقوى استغلالية خارجية، مخاطر سياسة غلق الحدود – بفعل انتشار الوطنية وتكلس مفهوم الجنسية – أمام شعوب ننتمي لها إنسانيا وتاريخيا، مخاطر ولوج عالم مدمر لثقافتنا وبيئتنا.
في ظل راهننا الحالي، يمكن أن تساعد آلية التحديث على مواجهة الدولة التي تسير نحو التسلط وتفتيت قيم المجتمع على تحقيق العدالة والمساواة في أبسط الحقوق. كما أن هذه الآلية موجَّهة لتذكير الدولة نفسها بتناقضاتها. فليست فلا معنى للحداثة والتحديث في وقت تنظم فيه الدولة آلية انتخابية قائمة على المال ولا شيء غير المال. فلا مشروعية ولا معنى للانتخابات والمؤسسات المنتخبة بدءا من الحكومة وسط انتخابات مزورة وقائمة على شراء أصوات المنتخِبين. فالمؤسسات المنتخَبة تُظهر جليا أنه لا معنى لأحزاب كبيرة أو صغيرة كما أنه لا معنى لتجاذب الأفكار واقتراح المشاريع في ظل استناد السلطة إلى تصور عمودي واحد تصنع له جيوشا من المنتخَبين الذين يهتفون له. فواقع الحال يظهر أن الإدارة والدواوين هم الحاكمون المتحكمون في السياسات في خضوع لفكر تدبيري خارجي وتنميطي بعيدا عن أي قرار نابع من الناس. لا تصلح المؤسسات المنتخبة إلا لشرعنة قرارات فوقية وكسب هامش أكبر لتفعيل عنف الدولة.
كما أن حزبنا لا يعتبر المشاركة في الانتخابات قدَرا وضرورة حتمية مادام وضع المؤسسات التدبيرية والتقريرية خاضع لسيطرة خارجة عن مشاركة الناس. كما أنه نعتبر، حتى في إطار انتخابات نزيهة تمنع استعمال شراء الأصوات، ليست المؤسسات التمثيلية تعبيرا عن رغبة وأفكار الناس حتى في أعرق الديمقراطيات التمثيلية. فآليات التعبير السياسي عن الإرادات الجماعية لا تمر دائما عبر هذه المؤسسات التي لا تعمل في أفضل الأحوال إلا على إصلاحات داخل منظومة السلطة، تحد نسبيا إذا ما هي أشركت أكبر عدد من الناس من درجة التسلط ومن السياسات التي تخدم الفئات السائدة فقط. فإلى جانب المطالبة برفع السلطة يدها على الانتخابات لتسمح هذه الأخيرة بمشاركة أوسع، فحزبنا يدافع عن تطوير آليات أخرى أهمها الاحتجاج، التنسيق المحلي والجهوي والدولي مع مختلف المقاومات الإنسانية المناهضة للتنميط السياسي عبر المؤسسات العالمية، العمل الجماعي لمناهضة الاستغلال المعولَم للإنسان وبيئته، تشكيل تقاطبات وجبهات تاريخية بين المناطق والثقافات والأديان الخاضعة لسيطرة حكومات ما بعد استعمار.
معنى الاستعمار ومقاومته
كان لازما أن نرمز في كل أجزاء هذه الورقة إلى الفعل الاستعماري الذي يرادف الحكم والتدبير السياسي لمجتمعنا. فغريب كيف لم ينفذ بالقدْر اللازم خطاب انتقاد الاستعمار في أدبيات اليسار في بلادنا وفي منطقة ما بعد الاستعمار عموما في السنوات الأخيرة. نعتبر داخل الحزب أن الاستعمار ليس حالة تاريخية قد مضت، بل عامل مؤسِّس ومستمر للهيمنة وللسلطويات الجديدة التي نعاني منها اليوم والتي تشوِّه ثقافاتنا وإراداتنا الجماعية في التحرر. لتبسيط الأمر، لا بد من الإحالة إلى كيف يلتقي كل مغربي يوميا مع الهيمنة الاستعمارية بعد مرور أزيد من ستين سنة على الاستقلال. الوضع الاستعماري هنا يحيل عموما إلى التبعية وتوظيف المغرب في اقتصاد امبراطوري هامشي (الأوفشور، استغلال اليد العاملة في معامل ومراكز اتصال مزروعة عندنا باسم المساعدة على ولوج عالم الشغل ومحاربة البطالة، إلخ.). كما أن الاستعمار اليوم يكمن في مأساة الحدود وعلاقة الإهانة التي تعمل دول ما بعد الاستعمار على تثبيتها عند المغاربة كما عند المجتمعات المستعمَرة عموما : فالاستعمار هو المسؤول الأول عن غلق الحدود منذ الثمانينات بدعوى باطلة مفادها إرادة الهجرة نحو الشمال، وهو المسؤول الأول والأخير عن جرائم موت الآلاف من المغاربة وغير المغاربة في واحدة من أكبر المقابر الجماعية البحر الأبيض التوسط والصحراء الكبرى وغيرها من مناطق العبور التي تشكلها دول الشمال عبر سياسة منع الهجرة ووضع تأشيرات مستبدة. فالفكر الاستعماري ينجح كل يوم في قتل الناس عبر الحدود وترسيخ فكرة "السيادة على الحدود" باعتبارها أمر يوجد في طبيعة الإنسان، في حين أنه يوجد في طبيعة تاريخ تأسيس الدول الوطنية العنصرية. كما أن الاستعمار يتمثل في استمرار الإملاءات ومساعدة الدولة الاستبدادية في فرض سيطرة بوليسية على المجتمع وفرض سياسات تفيد الاقتصادات الاستعمارية بدلا من مجتمعنا. ولا شك أن الهجرة الخاضعة للتصنيف والتي تنخر المجتمع وتغيِّب طاقاته تنبع قبل كل شي من هيمنة استعمارية تمر عبر زرع "رغبة جامحة في الغرب" وغلق الحدود لتصير الهجرة ضرورة ملحة وليس خيارا للناس.
فحزبنا لا يدعو لخلق قطيعة مطلقة مع الدول الاستعمارية والمؤسسات الدولية المثبِّتة للاستعمار فالواقعية السياسية تستدعي غير ذلك وترفض أن نقرر كمجتمع الخروج من عالم نحن جزء لا يتجزأ منه. لكن نرفض باسم أي واقعية كانت أن تستمر علاقة الانصياع والاحتقار والاستغلال وإهانة الكرامة. فينبغي على الحزب معرفة دقيقة لهذه الإعاقة الاستعمارية المستمرة والتي تقيد المجتمع وتمنعه من الثقة في ذاته ورسم طريق منبثق من قراءته للمجتمع من أجل مواجهة المستقبل وتحدياته. فرفض الاستعمار يبدأ من رفض الطريق الذي أدخلتنا فيه قوى الاستعمار، التفكير الفعلي في بدائل تنطلق من المجتمع وتعود إلى المجتمع، التنسيق والتكتل مع من يناهض هذا المسار والتفاوض مع الدول المهينة في إطار لا يفقدنا استقلالنا ولا كرامتنا.
كما نرفض أن يتحول المغرب لدركي أوربا يحمي حدودها الدموية ويقتل أبناءه وشباب قادم من الجنوب وحالم في حق التنقل. فالحرب التي يخوضها المغرب على المهاجرين وصمت عار على جبين تاريخنا الجماعي وعلاقتنا مع ذاتنا. فهي حرب لا تمثلنا ولا تعمل سوى على كشف وجه قذر وجبان لدولة بوليسية تخدُم مصلحة الاستعمار باسم الديبولوماسية والدفاع عن مصلحة الوطن. كما أننا نرفض صمت وجُبن الدولة المغربية على إهانة كل مغربي ممنوع من التنقل إلى بلدان الشمال في وقت يحق لأي مواطن من هذه الدول الدخول للمغرب دون شروط مسبقة.
موقفنا من قضايا السلطة والسلطوية
إن إبداع نموذج غير النموذج الاستعماري بشكله التخريبي للمجتمع وبطريقة تكرس التهميش واللامساواة واللاعدالة يمر عبر خلق جو من الانفراج السياسي الفعلي يمكِّن الجميع من التعبير عن رأيه بكل حرية. فتجليات السلطوية في المغرب تتمظهر على جميع المستويات، بدءا من الشارع العام الذي تستعمره دوريات الشرطة وحواجزُها في كل شارع ومدخل ومخرج مدينة وقرية، وصولا إلى المؤسسات السياسية التي تسيطر عليها الدواوين والهيئات واللجان المعيَّنة الحاكمة والمدبرة باسم المؤسسة الملكية.
إن حضور البوليس في الشارع العام لا يعكس وحدة المغاربة وتماسكهم، بل هو دليل على فقدان الثقة، ووجود حرب داخلية لا تريد الدولة الاعتراف بها : حرب الفئوية والطبقية والاستغلال وسيطرة فئات قليلة على الثروات والسلطة. كما أن الحضور البوليسي المستمر يزرع الخوف ويمنع من أي تفكير متحرر قادر على خلق توجُّهات جديدة قريبة من واقع المغاربة وقادرة على التفكير المشترك في إيجاد الحلول.
ينهل حزبنا من إرث يساري عبَّر منذ الاستقلال عن موقفه الواضح تجاه الملكية السائدة والنظام الذي تنهجُه. ننتمي لحركات ناهضت التّسلط وصارعت من أجل تخفيض منسوب الاستبداد والقبضة الأمنية على المجتمع. طالبنا على مستوى اشتغال السياسة التدبيرية بوضع نظام انتخابي يعمل في إطار ملكية برلمانية لا تعطي للمؤسسة الملكية كامل الصلاحيات بل للمؤسسات المنتخبة وللمؤسسات التي تنبع من ثقافة المجتمع ك"الجْماعة" في المناطق القروية، مع العمل على تشريك أكبر للناس. وطالبنا بتداول سلمي على الحكم. تمكَّن الصراع الذي خُضناه في تحقيق مكتسبات أهمها بعض الانفراج السياسي الذي قطع مع سنوات الجمر والرصاص حيث كانت الملكية وإدارتها تطبق رغباتها وانتقامها من جميع أشكال المعارضات، من خلال سياسة السجون السياسية ونهج التعذيب والنفي والتصفيات بل والقتل الجماعي أحيانا كما وقع في مظاهرات الدار البيضاء 1981 وغيرها من الأحداث الدموية.
لكن مسار التناوب ودخول جزء من اليسار إلى الحكم وبعده جزء من الإسلاميين لم يؤد إلى أي إصلاح اجتماعي فعلي، بل رسخ سياسات فارغة من كل روح يسارية وإسلامية، فلا جزء من الاشتراكية تحقق ولا حتى قليل من العدالة. تفاقمت مشاكل مختلف القطاعات داخل المجتمع وارتفعت ظواهر سلبية مرتبطة بالتعليم والصحة والسكن والإنتاج وتحديد الأسعار رغم فترة "نمو اقتصادي" استفادت منه فئة صغيرة داخل المجتمع وتم تصويره على أساس أنه يرمز للمغرب ككل، وأحيانا أخرى "لقوة اقتصادية إقليمية صاعدة". وعلى المستوى السياسي، بعد انقضاء فترة حكومات التناوب انغلق هذا القوس الذي كان يسمح على الأقل ببعض التدافع الفكري وبنقد السلطوية، لتتقوى القبضة الأمنية من جديد وتطلق لنفسها وللدعاية الإعلامية العنان لمنع أي صوت وقمع الحريات وتنفيذ مشاريع تنموية لا تخدم مصلحة الناس ولا تلقى قبولهم.
فعلى المستوى الإداري المباشر، نرفض الانتشار البوليسي الذي لا غرض منهم إلا بث الرعب وتخويف الناس. فتصورنا لمؤسسة الشرطة لا ينبني على ما تركه لنا الاستعمار وسنوات الرصاص من مؤسسة قمعية تسلطية. فحتى وإن استندت لقوانين تشريعية، فنحن نرفضها كما نرفض ممارساتها. بل يجب أن تكون هذه المؤسسة مقتصرة على ضرورة قصوى لتتدخل بإذن قضائي مستقل فقط في حل مشاكل الاعتداءات والجريمة التي تولد في كنف السياسات المنتهجة والتي تشوه ثقافة المغاربة عبر إنتاج العنف داخل المجتمع. فدورها يجب أن يقتصر على تنفيذ قرارات قضائية معينة عندما يتعذر التوصل إلى حلول بين الناس. كما يجب أن يقتصر هذا الدور على التحقيق النزيه دون أي لجوء للعنف، وذلك ليس فقط فيما يخص الجرائم التي تعود مسؤوليتها لتنظيم المجتمع الحالي، وإنما التحقيق كذلك في الجرائم الاقتصادية الكبرى والجرائم السياسية. الشرطة التي نريد تنتمي إلى المجتمع وليست خارجة عن نطاقه : إن تواجدها ينبغي أن يسير نحو التقلص والزوال كلما زاد التماسك الاجتماعي. فليس الغرض منها المواجهة والمداهمة والتخويف وتطبيق قوانين جافة وزجرية. وارتباطا بالشرطة، فنحن ندين ونرفض المسار السياسي الذي دخله المغرب حيث أصبحت هذه المؤسسة ووزارة الداخلية عموما، عبر باب الوطنية المغشوشة، تهيمن أكثر من السابق على فضاء النقاش العام وتنفث سموم الإخضاع والتخوين.
ما نقوله عن الشرطة نسدله في موقفنا من السجون. فالمغرب لم يعرف إلا متأخِّرا انتشار هذه المؤسسة العقابية بمفهومها الحديث المرتبط بالقضاء. ولا شك أن تواجد السجون وخاصة الأعداد التي ترتفع على مستوى السجناء كل سنة مرتبط بخلل العدالة الاجتماعية والمساواة في التعليم وغيرها من قضايا تخص السياسة التسلطية. فالسجون لا تعج لا بالأغنياء ولا بأبنائهم ولا بالمتعلمين الحاملين للشواهد العليا من المدارس الخاصة، كما أنها لا تمتلئ بقاطني الأحياء الراقية. فالسجون مخصصة أولا لضبط الفئات المقهورة التي تنتشر في وسطها الجريمة عبر سياسة ممنهجة، وهي ليست مؤسسات إصلاحية عبر إعادة الإدماج وخلق فضاء للتفكير في قيم معينة، بل مرتع للتكوين في الإجرام والعودة إليه. كما أنها مخصصة للمعارضة السياسية وفي العديد من الحالات لتطبيق قوانين لم يكن بد من تطبيقها عبر قضاء يفتقد للشعبية وللانتماء للقيم الأصيلة. كما أنه في حالات كثيرة كان يمكن تفادي العقوبة السجنية في حق السجناء وتعويضها بعقوبات بديلة. فجدلية العقاب، حتى على المستوى الفلسفي والديني الصِّرف تخضع لنقاش مستفيض تحتكره اليوم المؤسسة السجنية والمؤسسة القضائية. كما تجعل هذه المؤسسات السجن مكانا حتمي الوجود ليس بهدف العقاب في حد ذاته، وإنما بغرض إظهار السلطة داخل المجتمع. فالسياسة السجنية اليوم تساهم في تشتيت المجتمع وإنتاج الجريمة وليس العكس.
أما على المستوى السياسي العام، فنحن مقتنعون بأن ممارسة السياسة، بما هي قضية الجميع، فيجب أن تكون غايتها هو إشراك الجميع. أمام الوضع الراهن، فلا بد على الأقل البدء ببوابة الانتخابات وإن كانت غير كافية. حيث يتطلب إعادة الثقة في المؤسسات المنتخبة القيام بتغيير جذري على مستوى تصور هذه المؤسسات نفسها من خلال تغيير دستوري ينهي مع السياسة غير المنبثقة من الاقتراع. فالملكية البرلمانية لا تعني فقط ابتعاد الملكية عن رسم مسار السياسة، بل إنهاء عهد جميع المؤسسات والهيئات والمجالس غير المنتخبة وغير القائمة على إرادة الناس الفعلية. كما أن هذه الثقة تُبنى عبر توسيع حجم المؤسسات المنتخبة وفتحها أمام عدد أكبر من الناس والتقليص التام لأجور المنتخبين وعلى رأسهم البرلمانيين والوزراء دفاعا على أن لتكون السياسة مسألة صراع أفكار ومشاريع منبثقة من ممثلي الجميع وليس تجارة مربحة لممتهني العمل السياسي والسلطة. هذا الإصلاح الجذري يجب أن يهم القوانين المنظمة للأحزاب والجمعيات ليعطى حق الترشيح للجميع وكي لا يبقى حكرا على الأحزاب، كما يجب أن ترفع الدولة يدها عن قمع حريات تأسيس الجمعيات والأحزاب حتى لا يصبح تأسيس هذه المؤسسات خاضعا لأي تعقيد أو رفض إداري. فهذا المدخل الأول يؤكد على فتح تام للسياسة التمثيلية وتوجيهها نحو سياسة أكثر إشراك للجميع عبر التأسيس لبرلمانات جهوية بل وحتى محلية (برلمانات المدن الكبرى) تكون لها صلاحيات أوسع من الحكومة الوطنية ومن البرلمان الوطني. فلا شك أن هذا النوع من السياسة الفيدرالية يشتت السلطة والتسلط بطريقة أكبر ويسمح للناس أخذ زمام المبادرة وحمل مشاكلهم المحلية والتأثير فيها أكثر.
الدين جزء لا يتجزأ من كفاحات المجتمع
نشأ الانقسام بين "الإسلاميين" و"اليساريين" في المغرب داخل الحقل السياسي دون أن يكون له وجود داخل المجتمع. فمن جهة ظهرت نزعات هامشية داخل أحزاب يسارية تضع الدولة المدنية والعلمانية في قطيعة مع الخطاب الديني، ومن جهة أخرى ظهرت أصوات غير بريئة داخل الحركات الإسلامية تدعي احتكارها للفهم الديني للسياسة والمجتمع. وكلا هذان التصوران منفصلان عن تاريخ الممارسة السياسية للمغاربة كمثال على ذلك يكفي التذكير بغياب هذا الانقسام داخل الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار. كما أنهما منفصلان عن واقع المجتمع الذي ينخرط في الأحزاب يسارية أو إسلامية كانت بناء على القيم التي تحملها والصراع الذي تخوضه إلى جانبهم وعلى التصور المجتمعي والقدرة على الاتصال بالناس وليس على تسمية الأشياء بلغة "علمانية" وأخرى "إسلامية".
فهذا التقسيم لا يعكس أبدا تصورنا للدين وفهمنا لتدين المغاربة عموما. فنحن كحزب يساري نعتبر أن الدين جزء لا يتجزأ من كينونة المجتمع المغربي ومن صراعاته من أجل الكرامة. فنن نحمِل داخل عملنا السياسي كل القيم الدينية المدافعة عن تحرر الإنسان، كرامته، تماسك مجتمعه، تضامن أفراده، الوقوف في وجه الظلم والفساد السياسي، ناهيك عن مقاومة الاستعمار في محاولته استغلال المجتمع المسلم واستلابه. كما أن اليسار المغربي وغيره من اليسارات العالمية، كثيرا ما استند على الفكر الديني عكس ما تشيعه أكاذيب بغرض التشويه. فتجارب اليسار بأمريكا اللاتينية وأوربا وإفريقيا وآسيا والولايات المتحدة وروسيا وغيرها عديدة تظهر عمل اليسار وانطلاقه من الموروث الديني في مواجهة السلطوية وشراسة الاقتصاد الرأسمالي ومشاكل الطبقية ومآسي الحرب التي تجر نحوها قوى التسلط والاستعمار. وفي مجتمعنا والمجتمعات الإسلامية الأخرى كان ولازال اليسار يجاهد ويقدم الشهداء في الصراع مع قوى استعمارية كما هو الأمر في فلسطين وفي الحركات الوطنية بالمغرب والجزائر وغيرهما من الدول، أو في الصراع مع الاستبداد الداخلي كما هو الحال في الثورة السورية وفي تاريخ الحِراكات الشعبية عندنا وهي تقدم الشهداء في صراعها ضد تسلط الدولة القومية. كما ساهم مفكرون يساريون في قراءة الموروث الديني واقتراح تأويلات إنسانية تخدم مصلحة الشعوب والفئات المضطهدة وتدافع عن المجتمعات الإسلامية وهي تتعرض لهجومات استلابية تحددها عنصريات غربية (أكانت أوربية أو أمريكية أو سوفياتيةروسية) قائمة على أيديولوجيا صراع الحضارات.
فما هو إذن اختلافنا مع الأحزاب التي تتقدم باسم المرجعية الإسلامية؟ أولا ليس لنا اختلافات بنفس القيمة مع كل هذه الأحزاب والحركات حيث أنها لا تشكل وحدة متجانسها. فمنها ما ينطلق من الدين كما ننطلق منه نحن كذلك، باعتباره دينا للجميع ولا يقبل التسليع ولا الاحتكار كما لا يقبل مشاكل السلطوية والتمييز، فهذه الحركات يمكن التنسيق معها وتشكيل جبهات موحدة للمعارضة رغم الاختلافات حول التقدير ومناهج العمل والتصور حول قضايا تدبيرية. فالاختلاف يكمن إذن مع حركات ومرجعيات ومؤسسات تريد احتكار الحديث باسم الدين وتأويله في نسق سلطوي حكومي يفرض على الناس طبيعة وفكرا محددا مسبقا. كما نختلف مع أحزاب تعتبر نفسها إسلامية في حين أنها نتاج لهذه الحداثة التي سبق وتطرقنا لها. أي أحزاب إسلامية تفرض على الإنسان منهجا تنميطيا وخضوعا لسلطة استعبادية تمر عبر مؤسسات الدولة حتى وإن غلّفت هذا التصور بخطاب يلحُّ على كونها سلطة إلاهية. أي أنها أحزاب تتوسط بين الإنسان والسماء وتستعمل كلمة الإسلام انطلاقا من تاريخ النهضة العربية في واقع الأمر (وهي نموذج يوجد فقط على مستوى المنطقة العربية تاريخيا)، أي انطلاقا من لحظة اكتشاف ضعف الذات واكتشاف أنه هناك "مجتمع" يجب أن يتحقق وأن تعمل فيه سلطة محددة مسبقا وينبغي أن تكون تلك السلطة فيه إسلامية أو خلافة. لكن هذه القراءة ليست فقط نابعة من الحداثة ومن "اكتشاف المجتمع"، وإنما تتعارض كذلك مع كل أجزاء وتفاصيل الدولة والسلطة والمجتمع في الإسلام قبل الاستعمار. فإذا كان حقا الإسلام مستمر تاريخيا كخطاب وكدين، فذلك لا يرجع لدولة قامت برعايته أو أحزاب قامت بتثبيته. فالخلافة كما الدين في الإسلام ينتميان للمسلمين الذين حافظوا عليه في مجتمعاتهم دون الدولة، وفي صراعهم وحوارهم مع حضارات غازية أحيانا لنا ومنفتحة سلميا علينا أحيانا أخرى. ليس عبر تنظيم الدولة (أو تنظيم كنائسي) وإنما عبر المجتمع نفسه الذي بنى تقاليدا وحافظ على النصوص وجعل من التقليد الديني منطلقا في العلوم والعقل المواجه لمخاطر المستقبل ولقوى السلطوية.
فمن هذه المنطلقات نرفض أي احتكار للدين في حزب معين أو في مؤسسة معينة. فالدين نستلهم منه جميعا، يحركنا في نضالاتنا وسط المجتمع باعتباره روحا تحررية تحافظ على قيم المجتمع كما على كرامته، وليس عبئا يُخضعنا للتسلط ولرؤية بوليسية قمعية تُنسب ظلما له.
وطنية نقدية بدلا من سياسة الإخضاع
الوطنية لا تعني التطبيل للسلطة الحاكمة، ولا تعني الاستسلام لآليات الإخضاع باسم الحرب وتهديدات أجنبية، كما أنها لا تعني طمس الهويات والثقافات واللغات المتواجدة داخل المجتمع ووضعها تحت هيمنة ثقافة واحدة. الوطنية التي نريد هي عكس ما تطمح له الإدارة الحالية بمؤسساتها الإعلامية والتعليمية والبوليسية التي تنشر تصوُّرا إخضاعيا لسلطة واحدة مع تخوين كل الأصوات وإلصاق تهم العمالة والانفصال. فهذه الوطنية ليست سوى فاشية تتصاعد لتتحكّم أكثر في حريات الناس وعقائِدهم وثقافاتهم في حين أنها هي من ينتمي فعلا للانفصال عن تاريخنا الجماعي والخضوع للقوى الخارجية. فهي وطنية منفصلة عن المجتمع النقدي الطامح إلى التغيير الإيجابي.
فالوطنية في تصورنا آلية تصلح فقط لوضع وتسمية حد أدنى من المشترك للتصدي للهيمنة التي قد نتعرض لها من طرف قوى استغلالية، خارجية كانت أم داخلية. فهي تحدد ما هو "داخلي" ليس بمنطق الاعتقاد الوطني والجنسية الوطنية المغلقة، بل على أساس منفتح لا يعتبر "الخارج" سوى عندما يثبت هذا الخارج كما في حالة الاستعمار إرادة الهيمنة والمس بكرامتنا. كما أن الوطنية في نظرنا تكمن قبل كل شيء في القدرة على نقد السلطة وإبداع مقترحات لتحسين وضع الناس بالانطلاق من حاجياتهم والعمل وسطهم ومعهم بطريقة أفقية وليس عبر وضع مخططات وأوامر وثقافة عمودية. ولعلنا نفتقد اليوم لثقافة وطنية مثلها جيل من اليسار الذي كان قادرا على قول "لا" للسلطة بدل وطنية حالية يطبعها الخنوع وثقافة الربح والاستسلام لسلطة القمع التي تمر عبر مؤسسات مختلفة، من القضاء الموجّه إلى الدواوين والهيئات الحاكمة.
[1] الإحالة على كتاب كارل مانهايم مهمة هنا لفهم واقع الحداثة في أوربا القرن العشرين :
Mannheim, K. (1929), Idéologie et utopie, Editions de la Maison des Sciences de l'Homme, Paris, 2006.
مناضل بالحزب، باحث في الأنتروبولوجيا، جامعة لوفان الكاثوليكية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.