برمجت أن يكون المقال الذي سيتم نشره اليوم بعنوان " لماذا أرى أن البشرية ستدخل لا محالة لعصر الصعود الحضاري الثاني للعرب وللإسلام؟، وقد أشرت فيه إلى أن "البيت العربي الإسلامي" رغم أنه مفكك ومصاب بالوهن إلا أنه لن يزول ويمحى أثره، بل يتمدد و يتوسع و تترمم نواقصه كل يوم، لأن هذا البيت مبني على أسس صلبة ومتينة، هذا "البيت العربي الإسلامي " يحتفظ في داخله بجينات المقاومة الذاتية و حاملا لمشروع التحرر و الاستقلال و السيادة و لا ينتظر خلاصا أو حماية من أي قوة غربية أو شرقية.. لكن "الحماس الكروي" دفعني إلى تأجيل نشره إلى وقت لاحق ، و أن أركز اليوم 06-12-2022 على المباراة الحاسمة بين "المغرب و إسبانيا"، فهذه المناسبة الكروية حفزتني لتعميق النقاش الكروي–السياسي الذي بدأناه في سلسلة مقالات مونديال قطر 2022 … وربطا بما قلناه سالفا، فإن فوز قطر بتنظيم هذه الكأس اعتراف عالمي بنجاح النموذج التنموي القطري… والهجوم الشرس على قطر خاصة والعرب عامة مصدره الخوف من النموذج الحضاري البديل الذي يقدمه أبناء المنطقة، في حالة نجاحهم في ترتيب أولوياتهم و تجاوز خلافاتهم الشكلية والمصطنعة .. و قلت أيضا، أن نجاح قطر ليس مرده للثروات الغازية –كما يدعي الحاقدين على قطر و مونديالها التاريخي – فأغلب البلدان العربية تمتلك ثروات قارونية و أهمها "الرأسمال البشري"، و مفتاح فهم الحالة القطرية، توفرها على قيادة رشيدة وطموحة تملك رؤية و هدف، قيادة لم تنظر لإنتماءها الحضاري للعروبة و الإسلام على أنه مركب نقص، بل عنصر تميز و تألق و أحد أهم محركات النهوض و التأثير الحضاري .. و بحكم دراستي للتجارب التنموية الأسيوية فإني على يقين أن "عدوى التنمية" سوف تصيب باقي الأقاليم العربية والإسلامية من "طنجة إلى جاكارتا "، فقد إنتقلت قبل عقود "عدوى التنمية" من اليابان إلى باقي البلدان المجاورة… لكن في انتظار ذلك لابد من مراجعة أوراق البيت الداخلي لكل بلد على حدة…و لكل منظمة عربية و إسلامية و إقليمية كذلك، و البداية من محاسبة المفسدين ورد الاعتبار لحرية الرأي و التعبير و الاعتراف بحق الشعوب في اختيار من يعبر عن إرادتها و يحمي مصالحها بحرية و استقلال تام عن ضغوط الداخل و الخارج .. و نحن نكتب هذا المقال في فجر يوم 06-12-2022 ، و قبل سويعات من إنطلاق مباراة المغرب و إسبانيا ، علينا تسجيل ملاحظة في غاية الأهمية أن هناك خشية دفينة من إسبانيا، فبالرغم من أن أغلب مكونات المنتخب المغربي تملك مؤهلات جيدة و تلعب في فرق لها وزنها، لكن حتى الجمهور ينظر إلى الانتصار على أنه إنجاز كبير و فتح مبين ، على اعتبار أن إسبانيا فريق قوي.. و لكن هذه القوة–بنظري و– وهذا التخوف و الهلع و التضخيم "للخصم الكروي" ليس مصدرها المنتخب الإسباني " فهم رجال و نحن رجال" و لكن "بيت القصيد" و "عمود الخيم" هو التفاوت الكبير تنمويا بين البلدين الجارين المغرب و إسبانيا .. للأسف،نلعبالمباراةوبداخلنامركبنقصمصدره " عقدة الخواجة" و " التفوق الحضاري" الغربي ..فالإنسان العربي يدخل معاركه منهزما مترددا.. غير واثق من إمكانات النصر…منتهى أحلامه الخروج بأقل الخسائر المحتملة، قمة مجده مشاركة الكبار في موائدهم ولو وقوفا كالخدم.. هذه هي شمس الحقيقة المؤلمة التي يجب ألا نحاول إخفاءها بالغربال.. غربال تنظيم المونديال!!! لكن هذا التفوق الحضاري نسبي، كما أن التفوق الكروي نسبي، وربما خروج منتخبات غربية من تصفيات قطر وهزيمة أخرى أمام منتخبات لا تملك نفس الهالة والإرث الكروي، مؤشر على حجم التحولات التي يشهدها عالم اليوم، على ساحات وملاعب التنمية والصناعة والتكنولوجيا والصعود الحضاري. فنحن أمام مرحلة تاريخية حاسمة عنوانها الأكبر" أفول الغرب" في مقابل صعود قوى خارج دائرة نفوذ المركزية الغربية.. فقد أصبح من الواضح أن ثمار الحضارة الغربية لا تحمل في المجموع إلا علقما، وسما في طعم عسل، فهذه الحضارة رسخت لقيم الداروينية الاجتماعية و أسست رخاءها و ثراءها على قهر و احتلال الشعوب المستضعفة و نهب ثرواتها ، حضارة حرصت على حيونة الإنسان و تعميم الفساد البيئي و الأخلاقي و المالي .. و قد تابعنا انتفاضة العالم الغربي ضد قطر، التي رفضت الترويج لشعارات المثلية والشذوذ، و رفضت كل الممارسات اللاأخلاقية المنافية لثقافة البلاد و قيمها الدينية و الأخلاقية .. فالغرب يريد تعميم قيمه و انحطاطه الحضاري عبر تعميم الشذوذ واللواط ، و المادية الجارفة ، معتمدا على ألة إعلامية ضخمة و محترفة و ممولة بأموال طائلة غايتها تحريف نهج الله تعالى و تشويه الفطرة السليمة، و هذه "البروباغندا" تفرض نفسها على نفوس الناس وعقولهم وتصوراتهم، و تدفع بعضهم للانخداع بشعارات زائفة، بحيث يصبحوا لا يفرقوا بين الحق والباطل والمعروف والمنكر ولا يرون ضيرا بالشذوذ والإدمان والتحلل الاخلاقي والقيمي ويصبحوا ك"قطيع الأنعام" يساقوا إلى هلاكهم و حتفهم ، وهم في غفلة يتم توجيهيم دون حول منهم ولا قوة… قال تعالى في محكم كتابه (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [105] إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ [106] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [107] قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [108]( سورة الأنبياء، 105-108).. فالحضارة الغربية وصلت لنهايتها و أفولها، و البشرية في أمس الحاجة لبديل حضاري و أخلاقي و إقتصادي و روحي، يخرجها من حالة التيه و دورة الضنك والكوارث البيئية و الأخلاقية و المالية ، و الأمة العربية و الإسلامية ، تملك البديل الحضاري الذي يحمل النجاة للبشرية ، و اعتقد جازما بأن الحق سينتصر على طواغيت الباطل ، وأن المستقبل لهذه الأمة التي قال عنها رب العالمين في محكم كتابه : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ) (آل عمران-110) ). لكن علينا التأكيد، أن أفضلية هذه الأمة نابعة من إتباعها لرسالة الإسلام، ومن مناهضتها للظلم و الجور بكل أشكاله، فهذه الأمة في عصورها المختلفة احتضنت كل المضطهدين، و حركت الجيوش لنصرة المستضعفين، والتاريخ لا يمكن مسحه بأباطيل حركات التبشير و الصهيونية المتجبرة، فاليهود ذاتهم عندما طردتهم أوروبا في العصور الوسطى فروا إلى مسلمي الأندلس وعندما طرد المسلمين من الأندلس لحق بهم اليهود، فمعظم العواصم العربية لازالت تحتضن أحياءا يهودية بين أسوارها في تعبير حي وملموس على عظمة الإسلام وتسامح أهله .. لذلك، فأمة الإسلام هي الملجأ الذي ستفر إليه البشرية في القادم من العقود، هربا من العبودية الاقتصادية و التفسخ الأخلاقي، لكن قبل ذلك على هذه الأمة أن ترتب بيتها الداخلي، و أن تعيد حساباتها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله، فالإسلام هو المنقذ، و بداية التغيير تنطلق من الفهم الصحيح لهذا الدين، و من التحليل العلمي للواقع القائم فالحرب ضد المسلمين في جوهرها وحقيقتها حرب دينية بعناوين مختلفة… فالأمة تنحر من حكامها المستبدين و من أعدائها الخارجيين حتى تتخلى عن رسالتها و عن حلمها الذي يراودها في بناء أمة واحدة يسودها العدل و الأمن والسلام و التعايش ، أمة حدودها العقيدة ودستورها القران و قدوتها محمد عليه السلام، أمة لا تقيدها الحدود الجغرافية و الخرائط الاستعمارية، أمة تختار حكامها بحرية ودون إكراه، أمة تكفل العيش الكريم لكل مواطنيها و لمعارضيها قبل مؤيديها.. فالأمة لازال ضميرها الجمعي يذكر عبارة «وامعتصماه" ، فمن هو معتصم هذا العصر الذي سيسمع استغاثة مكلوبي هذا العصر مسلمين و غير مسلمين عربا و عجما.. و في ختام هذا النقاش الكروي السياسي – الحضاري، لست أدري هل سيتمكن المنتخب المغربي من تجاوز منتخب إسبانيا، والتأهل للمرحلة الموالية ، و مهما يكن فإن الفوز أو الهزيمة لن يغير من واقع البلاد و العباد، فالفوز لن يجعل المغرب في مصاف إسبانيا تنمويا و إقتصاديا و ديموقراطيا ، و الهزيمة فشل مرحلي ينبغي تجاوزه و سد الثغرات حتى لا تبقى انتصاراتنا ظرفية أو ثانوية .. لكن أجد من الضروري والمناسب ربط الماضي بالحاضر، خاصة و اننا نؤمن أن لا مستقبل لنا كمغاربة و عرب و مسلمين إلا بتغليب منطق الوحدة و التكتل و العودة للبيت المغاربي و العربي و الإسلامي الجامع، و الابتعاد عن أجندة الكيان الصهيوني و حلفاءه.. ولماكانتمناسبةهذاالحديثمونديالقطر،فإنيسأعودمجددالحلمالمغربلتنظيمكأسالعالم،وبخاصةفترةالتصويتعلىملف "موركو 2026″، و تصويت البلدان المغاربية و في مقدمتها الجزائر للملف المغربي، وانحيازها التام و الواضح للمغرب، هذا الموقف السياسي أثلج صدور أغلبية شعوب المنطقة، و على إثر ذلك تناسلت الرسائل و التصريحات التي تفيد بأن البلدان المغاربية الثلاث المغرب الجزائر وتونس سوف تتقدم بملف مشترك على غرار الملف الأمريكي… و قد صرح في حينه، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، "جياني إنفانتينو"، الذي قال في مؤتمر صحافي ردا على سؤال حول إمكانية فوز ملف مغاربي مشترك يضم كلا من المغرب وتونس والجزائر بتنظيم مونديال 2030، أن "التنظيم المشترك سيساعد في التواصل بين الدول المجاورة والعمل بشكل جماعي على مشروع مشترك واحد ، وهو ما قد يساهم في تجاوز الخلافات بين هذه الدول.. وبدورنا نتمنى أن يفكر قادة المنطقة و نخبها و شعوبها بجدية في تنزيل هذا الطموح الرياضي و جعله واقعا و مدخلا للنهضة و التنمية الإقليمية و التعاون البيني الذي سيقود للوحدة و التكامل الاقتصادي ..و هذا التوجه طوق نجاة و خيارا استراتيجيا لشعوب وبلدان المنطقة … فالكرة في ملعب العرب و المغاربيين ، فبإمكانهم أن يثبتوا للعالم أنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم، وأن يواجهوا التحديات الصعبة التي تواجههم في الحاضر والمستقبل…فقد نجحت قطر– ولله الحمد– في تقديم صورة إيجابية عن الاسلام و العرب و المسلمين ، و نأمل أن ننجح كمغاربيين في رفع تحدي التنمية و كسب رهان التنظيم المشترك لكأس العالم 2030 باسم المغرب العربي ، و إلى ذلك الحين نأمل أن ينجح المنتخب المغربي في ضمان تذكرة العبور للمباراة النهائية و لما لا الفوز بالكأس .. لكنحتىوإنفازالمنتخبالمغربيبكأسدورةقطر 2022، فذلك لن ينسينا أن المغرب حاول خمس مرات متتالية تنظيم هذا الاستحقاق الرياضي معتبرا إياه "حلم شعب ومشروع أمة" لكن الخيبات كانت تلاحقه ترشيحا تلو الآخر.. دون أن نشهد تقييما لهذه الترشيحات التي استنزفت ميزانيات بالملايير ودون أن نشهد محاسبة أو مراجعة أوراق من أشرف على تدبير هذه "المشاريع" الورقية.. وكذلك الشأن بالنسبة للمشاريع التنموية السالفة.. فشل على فشل ونوم في العسل.. إلى أن كُشفت عورات سياساتنا الاقتصادية والتنموية بالكامل أمام العالم بالانبطاح التام أمام رئيس صندوق النقد الدولي في آخر زيارة له للمغرب.. وكيف أصبحت "الباطرونا" و "البروليتارية" وجهان لعملة واحدة لا تساوي حبة خردل في ميزان المؤسسات المالية الدولية… سقوط مروع ونهاية دراماتيكية وإفلاس مشهود و خوف مشروع مما هو آت.. نسأل الله اللطف…و للحديث بقية في المقال الموالي إن شاء الله تعالى .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…