تكلمت في مقال " دورة الحضارة في طريقها إلى عالمنا العربي والإسلامي و بداية الغيث الإنتصارات و الفتوحات التي تتم على أرض قطر"، بنوع من التفاؤل عن مستقبل الأمة و عن تنظيم قطر لكأس العالم و للصورة الإيجابية التي تم تسويقها عن العرب و المسلمين ، بعد عقود و عقود من التشويه الممنهج للإسلام و للعرب، و محاولة ربط الإرهاب بالعرب و المسلمين من خلال الألة الإعلامية الغربية المتعددة الأذرع و الجنسيات ، لذلك فإني لن أخجل من الإشادة بهذا التنظيم و الجهد الذي بدلته إمارة قطر شعبا و حكومة و مقيمين و مواطنين و مسلمين و عرب و أجانب..و بالقدر نفسه نأمل أن تستمر مسيرة الفرق العربية المشاركة في التألق و في حصد مزيد من النتائج الجيدة، و رغم أن متابعتي لكرة القدم محدودة جدا، إلا أني تابعت مقابلة السعودية و الأرجنتين، كما تابعت المنتخب التونسي، و شعرت أن هناك تغير بدأ يتسلل إلى عالمنا العربي بهذه المناسبة.. و بكل تأكيد فإني أتابع بشغف منتخب بلدي المغربي و الذي سيلعب اليوم 01-12-2020 مباراة حاسمة ضد المنتخب الكندي، بعد أن حقق فوزا تاريخيا على المنتخب البلجيكي، و نأمل أن يتأهل للدور القادم ، و أن يكون هذا المنتخب خير ممثل للمنطقة المغاربية و العربية في هذا المونديال، خاصة و أن كل العرب اليوم مع هذا المنتخب، و هو يلعب على أرضه ووسط جمهوره…و مسبقا سأجازف بتقديم التهاني للشعب المغربي و لعموم العرب و المسلمين بتأهل هذا الفريق للدور الثاني، و إني أتوقع أن يستمر إلى أقصى حد و لما لا نراه ينافس بجدية على حمل لقب دورة قطر 2022، خاصة و أن الدورة هي دورة العرب ، و نأمل أن يستمر حضور الفريق المغربي في هذه الإقصائيات إلى أخر نقطة ، و كنا نود أن تستمر باقي الفرق العربية المشاركة لكن الكرة لا تجامل أحد، و اليوم المنتخب المغربي منتخب كل العرب ، و لعل في ذلك فرصة لتصحيح بعض الأخطاء التي مارستها القيادة السياسية و الدبلوماسية المغربية بتغليب كفة الصهاينة و التطبيع غير المدروس معهم ، و إهمال للعمقين العربي و الإسلامي.. وبنظرناهذاالفريقالكروينجح – مرحليا – في إعادة حبال الود و راوبط القربى مع الدوائر الإقليمية الثلاث للمغرب " المغاربية و العربية و الإسلامية" ..و نأمل أن يتوج هذا الإنجاز الكروي و هذه "الدبلوماسية الكروية الشعبية"، بعودة جادة للدبلوماسية المغربية على أعلى مستوى للعمل على إحياء الحلم المغاربي و تعزيز العمل العربي المشترك و تقوية الروابط مع باقي البلدان الإسلامية و التراجع عن حمى التطبيع و تقزيم الحضور الصهيوني بالمغرب و حصره في مكتب تنسيق أو إتصال ، و لما تعليق هذا الاتفاق المشؤوم و الخروج من أثاره السلبية المهددة لكيان الدولة و أمنها … وليسمح لي القارئ الكريم بتأجيل النقاش حول "سياسة صفر كوفيد" إلى مقال موالي، لكن لن أبتعد كثيرا عن الصين فسوف أركز في هذا المقال أيضا على قضايا كلية بعيدة المدى، و استكمل النقاش الذي بدأته و الذي هو بالمحصلة النهائية خلاصة للكتب الثلاث التي أصدرتها مؤخرا ، و التي درست من خلالها مجموعة من التجارب التنموية الأسيوية، كما تناولت بشكل مفصل "عدوى التنمية" و ميكامزمات انتقالها من الغرب إلى الشرق بشكل عام، و من اليابان إلى باقي بلدان الجوار الإقليمي بوجه خاص..و أن هذه العدوى سوف تنتقل بكل تأكيد لعالمنا العربي و الإسلامي الذي بدأت بعض بلدانها تظهر بها أعراض هذه العدوى التنموية الحميدة.. و بالعودة إلى دورة الحضارة و عدوى التنمية فالصين التي هي مصنع العالم اليوم و القوة العظمى التي ستكتسح الساحة الدولية، كانت عند مطلع القرن العشرين عشرات الأقاليم المفككة، التي يحكمها أمراء الحرب. وبذلك، لم تصبح مطمعا لليابان فقط، لكنها كانت مشاعا تنافست عليه الدول. ومنذ أن أدركت ثورة الصين الأولى والثانية خلال مطلع القرن الماضي، أن قوتها في وحدة الصين. وأنها بمقدار ما تشد إليها هذه الوحدة تستطيع زعزعة الاستعمار واقتلاع جذوره. ونتيجة لذلك، شكلت وحدة البلاد البرنامج السياسي، الذي توحدت عنده مختلف التيارات السياسية باختلاف توجهاتها الأيديولوجية. وهذا الصعود الذي حدث في الصين تجسيد لدورة العمران على حد تعبير "ابن خلدون"، فالدول تمر من مرحلة الطفولة والشباب والفتوة ثم الشيخوخة والأفول، و أن ما يحدث اليوم للعالم العربي و الإسلامي من هبوط للقاع و تفكك ودمار و سفك للدماء، و تبعية مطلقة للأجنبي، و تفريط في الحقوق و الثروات الوطنية، خدمة لمصالح ضيقة الأفق تخص البطانة الحاكمة بالدرجة الأولى، كل هذه المثالب و السلبيات بقدر ما تثير في النفس الحزن والأسى، بقدر ما تدعو إلى التفاؤل لأن التغيير قادم لا محالة، و دوام الحال من المحال... لذلك فإني 'ندما أحلل تجربة الصين و نجاحها في الانتقال من القاع إلى القمة و نجاوز عصر الإذلال أشعر بالتفاؤل أن عدوى التنمية ستصل إلى عالمنا العربي و الإسلامي، خاصة و أن مجتمعاتنا تعيش وضعا مشابها – إلى حدما– لما عاشته الصين في مطلع القرن 20، و بدورنا سوف نخرج من حالة الغثائية و دورة العمران تقترب بالتدريج و الخروج من الحدارة إلى الحضارة قريب لا محالة، لكن الحلقة المفقودة هي غياب القيادة الرشيدة القادرة على قيادة التغير و توظيف الإمكانيات و الفرص و الموارد لصناعة النهضة و الصعود باتجاه منطقة الضوء… فالتحولات التي شهدتها الصين بعد 1978، لم تكن وليدة –فحسب- لسياسة الإصلاح والانفتاح التي تم تبنيها في الدورة الثالثة الموسعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. بل إنها نتاج لتراكم تاريخي بدأ: أولا، بإدراك الأمة الصينية لحقيقة تخلفها وتأخرها عن روح العصر. وثانيا، بالانتقال إلى تشخيص مكامن الضعف والوهن التي استوطنت جسم الأمة وجعلته ملاذا لهيمنة المحتل الأجنبي. فتم الاتفاق بين جميع الأطراف على حقيقة ضعف ووهن الأمة الصينية، لكن تم الاختلاف والتناحر حول منهجية العلاج… و بصفتنا أحد الأكاديميين و الإقتصاديين الذين توجه إهتمامهم البحثي و المعرفي لدارسة التجارب التنموية لبلدان شرق آسيا و في مقدمتها الصين، فإننا نوجه بوصلة صناع القرار المغربي و العربي عامة إلى رؤية تنموية من خارج الصندوق و بعيدة نسبيا عن التوجه الأرثودوكسي ، و الذي ماهو إلا تطبيق حرفي، و تنفيذ غير عقلاني لأجندة وتوصيات المؤسسات المالية و النقدية الدولية والتي تخدم أطروحة تنموية نيوليبرالية متوحشة، تفقر الفقير و تغني الغني و تنتج مجتمع القلة المترفة… و حتى أقرب الصورة للقارئ فإني سأوجه بوصلة إهتمامه للصين ..فعندما أراد الصينيون القدماء أن يعيشوا في أمان، بدأوا بناء سورًا شاهقًا، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه. ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا فى كل مرة يدخلون عبر بوابات السور…! كان العدو يدفع الرشوة لحراس البوابات، ثم يدخلون. فقد انشغل الصينيون ببناء السور ورفع عماده ونسوا بناء الحارس! فالتنشئة هي الأساس، وبناء الإنسان يأتي في المقدمة، ومع انتشار الفساد السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي، و سيادة الداروينية الاجتماعية ، وصعود الثقافة الاستهلاكية و الأنانية المفرطة، أصبح من الضروري الاهتمام بالتربية و التنشئة الصحيحة و الاهتمام بالقيم الأخلاقية البناءة لمواجهة موجة الانحدار و الخروج من الدورة الفارغة و الانحدار باتجاه الحدارة لا الحضارة … و ما دمنا أشرنا إلى قصة سور الصين العظيم فمن الجيد أيضا، الإشارة إلى صعود الصين العظيم في عصرنا هذا ، و لعل هذا التفاؤل نابع من التجربة الصينية ، فالصين التي تتجه نحو قيادة العالم اقتصاديا و سياسيا و عسكريا، انتقلت من "حالة فقر الدم"، الذي عانت منه عند نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين، حيث تدهور مستوى الإنتاج والسكان وانكسر نسيج التقدم العلمي، وانتشر الفكر الأصولي. لكن مع نهاية الربع الأخير من القرن الماضي دخلت "مرحلة الانطلاقة الكبرى" حيث تم تحديث البنية الاقتصادية والعلمية والثقافية للمجتمع الصيني…غير أن هذا التحول السريع لم يكن ليتحقق لو لم تتوفر شروط موضوعية ساعدت على تحققه… فحالة النكوص والتدهور التي شهدتها الصين خلال القرن 19 وطيلة النصف الثاني من القرن 20، لا يمكن أن تخفي حقيقة أن الصين حضارة عريقة، تملك مقومات مادية ومعنوية تؤهلها لاحتلال مكانة سامقة بين الأمم العظمى. وأن حالة التخلف والانحطاط لم تكن إلا "طفرة ظرفية" في مسار تطور الحضارة الصينية، فإذا ماحللنا الوزن الجيوسياسي للصين China's Geopolitical Standing في مرحلة ماقبل إصلاحات 1978، سنجد بأن الصين كان لها حضور قوي على خريطة العالم. ويظهر ذلك من خلال المؤشرات التالية : أولا– على المستوى الاقتصادي بلغت حصة الصين من الناتج الداخلي الإجمالي للعالم سنة 1820 حوالي 32,9% ، وهو ما مكنها من احتلال الرتبة الأولى عالميا على مستوى GDP. و في سنة 1890 متلث الحصة حوالي 13,2% وهو ما مكنها من احتلال الرتبة الثانية عالميا ، بينما لم تتعدى هذه الحصة 4.6 % سنة 1952، 4,9% سنة 1978 ، وهو ما جعلها تحتل الرتبة الثالثة والرابعة على التوالي.. ثانيا– على المستوى الديموغرافي : متلث ساكنة الصين حوالي 36,6 % من ساكنة العالم سنة 1820 ، وحوالي 26.2% سنة 1890 ونحو 22,3 %سنة. ثالثا– على المستوى العلمي ؛ إن الحضارة الصينية في القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن 15م "كانت أكفأ بكثير من الحضارة الغربية في تسخير المعرفة العلمية، وخاصة من الناحية التطبيقية التكنولوجية… و لعل تحليلنا للوزن الجيو–سياسي للمنطقة العربية و الإسلامية سوف نجد أنه وضع متميز بل يتفوق كثيرا على باقي البلدان و الأقاليم، لكن الحلقة المفقودة هي غياب القيادة الرشيدة القادرة على قيادة التغير و توظيف الإمكانيات و الفرص و الموارد لصناعة النهضة و الصعود باتجاه منطقة الضوء..و سيادة قيم الفرقة و التشتت و تغليب منطق الخلاف و الشقاق على الوحدة و التكتل..و لنا عودة لهذا النقاش في مقال موالي 'ن شاء الله تعالى .. والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…