قبل نحو عقد من هذا التاريخ ذكرت في مقدمة أطروحة للدكتوراه حول الاقتصاد الصيني أن " التوجه نحو دراسة التجربة التنموية الصينية، لا يعتمد فقط على قوة الصين الاقتصادية والديموغرافية، و غيرها من مقومات الوزن الجيوستراتيجي...فهذه القضايا على الرغم من أهميتها، إلا أنها لا تحتل إلا مكانه ثانوية ضمن سلم الأهمية.. فدراسة التجربة الصينية بعد 1978 مهمة لاعتبارات أخرى، منها: أولا- دورة الحدارة و الحضارة إن ابرز ما في هذه التجربة – وخاصة لشعوب الأمة العربية والإسلامية – هو أن دورة الحضارة تتغير صعودا ونزولا. فالأمة التي كانت قوية ومسيطرة في الماضي، سرعان ما تتحول إلى امة ضعيفة مهانة. وهو الدرس الذي كشف نواميسه "ابن خلدون" فيما سماه ب"دورة العمران" فصعود الصين ومعها العديد من البلدان الآسيوية، يحيل على أن دورة الحضارة أصبحت عجلتها تتجه بثبات نحو الشرق . ثانيا- التخلف يكمن في تخلف الإرادة إن تجربة الصين بعد 1978 توضح بجلاء بأن المهمشين يمكن أن ينقلبوا إلى ممثلين أساسيين، فوق خشبة مسرح الأحداث الاقتصادية والاجتماعية والسياسة للعالم. إذا ما توفرت الإرادة السياسية الواضحة الملامح. فالهزائم من الممكن أن تتحول إلى انتصارات، إذا ماتم تشخيص مكامن الضعف والخلل التي أفضت للهزيمة، والحرص على تحديد الأهداف بدقة Goal Setting . لاسيما، وان الذات الإنسانية تتجه في لحظة الهزيمة والانكسار، إلى محاسبة الذات بتجرد تام عن كل شعور بالمركزية أو التفوق الحضاري. وهو ما يساعد سيكولوجيا في صياغة العلاجات الضرورية لتجاوز الأزمة... و الشيء الذي كان في ذهني في تلك الفترة هو مقارنة وضع الصين بالعالم العربي و الإسلامي، و هذا الأمر قادني لطرح سؤال مركزي لماذا فشل العرب و المسلمين في حين نجحت الصين؟ و شكل هذا السؤال فيما بعد محور بحت مستقل قادني باتجاه دراسة مفصلة للإسلام عامة و الاقتصاد الإسلامي خاصة، و كان هذا الأمر موضوع أطروحة ثانية ناقشتها بجامعة ماليزية.. هذه المقدمة ليس الغاية منها سرد سيرة أكاديمية للكاتب ، و إنما أحيانا لابد للكاتب أن يعرف عن هويته، لأننا لا نريد أن نتهم بالتطاول على بعض المواضيع، و خاصة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الإسلام، فعلى الرغم من أني مسلم -بحكم الولادة- إلا أن ذلك غير كافي لفهم و الإحاطة الموضوعية و الجيدة بالدين الإسلامي ، و حرصي على هذه المقدمة الغاية منه الإجابة على بعض الملاحظات التي تواجه الكاتب من قبل بعض الطلبة أو القراء أو زملاء المهنة، و أرى أنها نابعة عن سوء فهم ... فالمرء كما يقال "عدو لما يجهل" و ما أكثر جهلنا نحن المسلمين بحقيقة الاسلام الذي ندين به شكلا لا مضمونا، و الذي ركزنا فيه على القشور و أهملنا الجوهر ، و هو ما دفع البعض باتهام الإسلام بالتخلف و التطرف و العنف و عدم مواكبة التقدم و مقتضيات روح العصر... و لعل هذا الجهل أو الإصرار على تجاهل الحقائق، هو ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ارتكاب جريمة في حق الدين الإسلامي، الذي يعتنقه حاليا حوالي ملياري نسمة ، و يزداد المؤمنين به أفواجا كل يوم، و في مختلف جهات العالم الأربع .. بل في قلب فرنسا التي تتحول تدريجيا إلى مجتمع غالبيته مسلمة، و الجريمة و الخطأ الفادح الذي ارتكبه كان قبل أسبوع عندما تعهد بشن "معركة دون هوادة في مواجهة الإرهاب الإسلامي" واصفا أن "الإسلام في أزمة" و ذلك على خلفية أحداث "شارل إيبدو"...و الجرم الذي ارتكبه ماكرون لا يقل خطورة و دموية عن الجرم الذي ارتكبه هذا الشخص الذي حمل السلاح و روع المدنيين، و غلب منطق العنف على منطق الحوار بالتي هي أحسن ، فكلا الجرمين مرفوضين دينيا و أخلاقيا ، لاسيما و أن خطيئة الرئيس الفرنسي تتجاوز مجرد الإساءة للإسلام ، بل تصريح ينطوي على نزعة عنصرية ضد كافة المسلمين، و تحريض مباشر على الدين الإسلامي و على ملايين الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام... مبدئيا، العنف و التطرف مرفوض مهما كانت ديانة منفذه، لكن الخطأ هو إلصاق الجرم بديانة أو طائفة، قال تعالى في محكم كتابه: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من أضل فإنما يضل عليها و لاتزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" ( الإسراء الآية 15)، فلا ينبغي وصف الإسلام أو اليهودية و المسيحية بالإرهاب لمجرد تطرف بعض معتنقيها و انحرافهم عن حقيقة الدين و تعاليم الرحمان، للأسف لن يجرأ رئيس فرنسا أو غيره من رؤساء البلدان الغربية و أتباعهم من العرب على التفوه بعبارة "الإرهاب المسيحي" أو " الإرهاب اليهودي" فلم نسمع عن ديانة منفذ الهجوم الإرهابي ب "لاس فيغاس" و المجزرة الدموية التي نفذها المواطن الأمريكي "ستيفن بادوك" و أسفرت عن مقتل 58 شخصا و إصابة أكثر من 500، و لم نسمع برئيس دولة غربية و منهم ماكرون أطلق عبارة "الإرهاب المسيحي" ، و لم يتم وصف فرنسا و هي دولة مسيحية بالإرهاب نتيجة لجرائمها الدموية إبان فترة احتلال الجزائر و باقي بلدان المغرب العربي، وجرائمها في بلدان إفريقيا الوسطى وجنوب الصحراء، و لم يتم وصف اليهودية بالإرهاب رغم الجرائم التي يرتكبها اليهود الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، و لم يتم وصف "البوذية" بالإرهاب رغم أن مسلمي "الروهينجيا" بإقليم "أركان" ببورما، يتعرضون لكافة أشكال الاضطهاد و التنكيل على يد رجال الدين البوذيين المتعصبين و الحاقدين على الإسلام... الإرهاب لا ديانة له و "الشاذ لا حكم له" فالديانات السماوية في مجملها تندد بالعنف و الإرهاب ، و إذا ورد شيء كهذا في النصوص فهو نتاج لتدخل يد البشر، أو فهم خاطئ لسياق النص و مقاصده، لكن أن يتم وصف الإسلام بالإرهاب فهذا إنكار للحقائق من زاويتين : الأولى: أن الإسلام دين رباني نقي المصدر لم تطله يد التحريف، و أغلب نصوصه تؤكد على حرمة الدم و احترام كرامة الإنسان فهو الذي أسس لقاعدة "لا إكراه في الدين" و "لكم دينكم و لي ديني"، " و "لا فرق بين عربي و عجمي إلا بالتقوى"، بل إنه دين عالمي يوجه خطابه للبشر بغض النظر عن العرق أو الجنس أو المعتقد و يكفي ان نتصفح القرآن لنجد أن فاتحة الكتاب تبدأ بقوله تعالى "الحمد لله رب العالمين" و خاتمة الكتاب أي سورة الناس "قل أعوذ برب الناس، ملك ناس ..".. فالإسلام ليس بالدين العنصري، و لا يمكن أن يكون سندا للتطرف و المتطرفين فهو دين الاعتدال والوسطية قال تعالى :"و كذلك جعلناكم أمة و سطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا.."، (البقرة الآية 143) الثانية: أنه إلى حد اليوم ليس هناك إجماع على توصيف الإرهاب و تحديد ماهيته، فهل مقاومة المحتل الأجنبي تعد مقاومة أم إرهاب؟ و الجرائم التي ترتكبها الأنظمة المستبدة في حق مواطنيها هل هي إرهاب أم مجرد أعمال السيادة ؟ فعبارة الإرهاب أصبحت فضفاضة و توظفها الدول و الأنظمة لخدمة مصالحها كلما دعت الحاجة لذلك، فغزو العراق و أفغانستان كان بحجة مكافحة الإرهاب، و تدمير سوريا و اليمن و ليبيا كان بنفس الحجة، و قمع التظاهرات السلمية و قتل المحتجين في مختلف ميادين العالم العربي يتم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، بل إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي" ، الديكتاتور المفضل للرئيس الأمركي دونالد ترامب، قال أمام هذا الأخير بأن المنطقة لن تستقر إلا بالقضاء على الإسلام السياسي... إن القضية ليس مجرد إساءة للإسلام و المسلمين و محاولة جادة لمحاربة الإسلام وتشويه صورته، فهذا بنظرنا غير ذي أهمية و لن ينجح في تحجيم الإسلام و الإضرار به، لأن الله تعالى تولى حفظ هذا الدين، وقيد له رجالا و نساء ربانيين يخدمون الإسلام ويدافعون عنه حتى يظل نبعه صافيا، بل إن هذه الهجمات ضد الإسلام و المسلمين خدمت الاسلام، لأن عدد معتنقيه في قلب العالم الغربي يتزايد بشكل كبير، و معتنقيه في الغالب من العقول المتعلمة التي أدركت المعاني و القيم السامية لهذا الدين.. و علمت علم اليقين أن النموذج الحضاري الغربي أصبح مصدر تهديد للبشرية جمعاء.. فعلى الرغم مما حققته الحضارة الغربية من تقدم مادي و تقني و تكنولوجي غير مسبوق، مكنها من السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لتطلعات الإنسان، لكن هذا التقدم كان على حساب تدمير إنسانية الإنسان.. فالحضارة الغربية التي أصبحت الأنموذج المتبع من قبل مختلف شعوب العالم خلقت العديد من المآسي الإنسانية: * فعلى المستوى الفردي سيادة إحساس بالغربة والضياع و غياب السكينة وعدم الاستقرار.. و هو ما جعل نسب الإدمان والانتحار و مختلف الظواهر الاجتماعية السلبية تنتشر في أوساط البلدان و الأفراد الأكثر رفاها... * و على المستوى الجماعي التفكك الأسري و سيادة الفردانية و الأنانية الجارفة و غياب العدل في توزيع الخيرات العامة و احتكار الموارد من قبل القلة وسيادة النزعة الاستهلاكية أو ما يمكن تسميته بعبودية الاستهلاك .. هذا على مستوى المجتمع الواحد ، أما على المستوى الدولي فإن الصورة أكثر سوادا فسجل الحضارة الغربية، مليء بالمساوئ و الجرائم فمن محاكم التفتيش و تصفية المسلمين بالأندلس، مرورا باستعمار المعمورة وإبادة ملايين الأفارقة و تحويلهم لعبيد، و إبادة الهنود الحمر وتدمير حضارة "الأنكا"، و إشعال فتيل حروب كونية مدمرة، و تفجير أول قنبلة نووية على شعب أعلن استسلامه ، و تشريد شعب فلسطين وتهجيره من وطنه، و إحلال يهود الشتات محل شعب امتلك الأرض و عاش في كنفها لقرون، و محاربة الإسلام و تشويه صورته و قصف البلدان الإسلامية وتدميرها تباعا تحت حجج مختلفة لعل أخرها مكافحة الإرهاب...هذه أهم ملامح الحضارة السائدة، والتي يسعى المسلمون أو بالأحرى حكام المسلمين اللحاق بركبها و تنفيذ أجندتها على الشعوب الإسلامية... فالعالم في حاجة إلى الإسلام و هذا ما لا يدركه غالبية المسلمين، فالإسلام دين الحرية و دين التسامح و العدل و الإخاء و المساواة دين رسالته السلام، فهو الدين الوحيد الذي يملك إجابات واضحة لتطلعات مختلف الناس فهو دين الفطرة، و لعل أبرز دليل على ذلك هو مؤشرات انتشار الإسلام فبالرغم من الحملة المسعورة ضد الإسلام والمسلمين إلا أن هذا الدين ينتشر كالنار في الهشيم، فبلدان بأكملها تتغير ديموغرافيتها لتصبح بلدان ذات غالبية إسلامية وقد كانت بالأمس مسيحية الديانة ..فالخلل ليس في دين الإسلام فهذا الدين لازال يحتفظ بصلاحيته لبناء حضارة إنسانية تكفل للإنسان الكرامة و الحرية والاستقرار المادي و المعنوي.. إن الخلل ليس في الإسلام و إنما في المسلمين، الذين فهموا الدين خطأ و جعلوا نطاق الدين يتمحور حول العبادات الفردية، وأهملوا حقيقة أن الدين الإسلامي هو نمط حياة يشمل الدنيا والآخرة و يغطي العبادات و المعاملات، و ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويحدد الوظيفة الاجتماعية للموارد المالية، في دعوة صريحة لمناهضة الاستغلال و الاستعباد و الدعوة للعدل و المساواة في توزيع الثروة الاقتصادية، وتحقيق التكافل الاجتماعي بما يضمن كرامة الإنسان و يوسع من خياراته.. فالتحدي الذي يواجه المسلمين ذا بعدين تحدي فردي و تحدي جماعي، فأما التحدي الفردي فعلى الفرد أن يفهم هذا الدين فهما صحيحا لا بالاتكال على وراثة الدين والعقيدة، فالله يعبد على علم، و الإسلام دين العلم و القراءة و على كل مسلم أن يدرس هذا الدين، و في ذلك فائدتين: الأولى التفقه في الدين سبيل للنجاة في الدنيا و الآخرة، والثانية سد الباب أمام الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام من قبل أعداءه، فالتطرف و الغلو في الدين هو نتاج للجهل بحقيقة الدين الإسلامي واتساع دائرة التطرف هو محاولة لتحريف حقيقة الدين في عقول المسلمين بعدما عجزوا عن تحريف النص،لأن الله تعالى هو من تولى حفظ هذا الدين قال تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون" (الحجر الآية 5). و التحدي الجماعي هو بناء مجتمعات منسجمة مع رسالة الإسلام القائمة على العدل و العبودية لله وحده، مجتمعات تحترم الإنسان وكرامته و حريته، مجتمعات يكون فيها الاقتصاد في خدمة الجماعة و غايته إشباع حاجيات الجميع و ليس اقتصاد القلة المسيطرة، مجتمع يكون الحكم فيه و التداول على السلطة بالاختيار الحر و النزيه من قبل عامة المسلمين، مجتمع لكل مواطنيه حتى أولئك الذين لا يدينون بدين الإسلام ، مجتمع تحركه عقيدة ورؤية حضارية عالمية، شعارها إخراج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، و لعل هذه بعضا من المسلمات التي على المسلم أن يدركها و يتمسك بها للرد عمليا ، على التصريح العنصري و العدواني للرئيس الفرنسي، الذي يريد تحقيق زعامة فرنسية على حساب دماء ومصالح المسلمين ...و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ...