تستند المحاكم العليا في تأكيد مصداقيتها في الدول الديمقراطية إلى حيادها وتجرّدها من الاعتبارات السياسية سواء في تنافس الأحزاب أو في القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها ضمن مبدأ فصل السلطات الذي استقاه الغرب من فكر القاضي والفيلسوف الفرنسي شارل لويس مونتسكيو (1689-1755)، والذي كرّس بعض أبحاثه لمعرفة أسباب عظمة الدولة الرومانية في العصور القديمة. وخلص في كتابه "روح القوانين" إلى أن أوّل محاولة متسقة لاستطلاع أصناف المجتمع البشري وتصنيفها ومقارنتها، وأيضا تحميص دواخل المجتمع تتأتّى من دراسة التفاعل بين المؤسسات. واليوم، تظلّ المحكمة العليا في باريس أو واشنطن أو لندن مثلا مؤسّسات قضائية متحرّرة من وصاية أو تبعية الدولة المركزية أو صلاحيات الرئيس أوتدخل رئيس الوزراء. وعلى طول هذا الخط الدستوري الفاصل، تمتد اجتهادات القضاة بعيدا في فلسفة القانون، وليس في تكريس حسابات السياسة أو مصالح مراكز القوة. يمثل قرار المحكمة الدستورية في المغرب بشأن إقرار الحق لعبد الرحيم بوعيدة في مقعده في البرلمان بارقة أمل في هذا الاتجاه. لكن لا يمكن للمرء أن يكون انطباعيا أو يعتد برمزيته فقط، وينسى أو يتناسى أهمية السياق المستتر خلف الكواليس، أو يتخيل أن مستوى "تجرّد" و"استقلال" قرار محكمة الرباط يتماهى مع مستوى الصفاء القانوني لدى المحاكم العليا في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وهذا ليس ضربا من التغريب أو الافتتان العاطفي أو الرومانسي بتفوق الغرب، وإنما خلاصة المقارنة بين السياقات القانونية والسياسية التي تحيط بسير المنظومة القضائية في كل من هذه الدول. هناك رأس خيط محوري ينبغي التقاطه في تفسير قرار المحكمة في الرباط، وهو سؤال التوقيت وهل هناك قرينة بين قرار ردّ الاعتبار لعبد الرحيم بوعيدة ومراعاة السياق السياسي العام في المغرب. عنصر التوقيت مهمٌّ للغاية لأنه المفتاح في تفكيك مغزى قرار المحكمة الدستورية من جهة، وتعثر أداء الحكومة وأزمة ارتفاع الأسعار وتنامي موجة الاحتقان الشعبي وحملة "أخنوش إرحل" وحالة القلق على صحة الملك خاصة بعد تأجيل احتفالات عيد العرش هذا العام. وتحمل نهاية أيلول في طياتها مدخلا منطقيا لمعرفة ما إن كانت هناك رافعةٌ سياسيةٌ في يد أهل الحل والعقد، أو من يعملون من خلف ستار، خلف هندسة القرار الذي أعلنته المحكمة. يفيد منطلق المقارنة بين القرار والسياق أيضا في مساءلة التزامن غير العرضي بين موعد الأمر القضائي لفسح الطريق أمام بوعيدة نحو مقعده في البرلمان والغياب السياسي والرمزي لأخنوش نفسه عن تسليم الكأس للفريق الفائز في المباراة النهائية لكأس العرش في المجمع الرياضي في الرباط. فقد توصّلت المحكمة الدستورية إلى أن "تغيير نتيجة الاقتراع، بموجب فارق الأصوات، يستوجب الإعلان عن فوز عبد الرحيم بوعيدة عضوا بمجلس النواب، طبقا للمادة 39 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية التي تنص، بصفة خاصة، على أن للمحكمة الدستورية،…أن تصحح النتائج الحسابية التي أعلنتها لجنة الإحصاء وتعلن، عند الاقتضاء، المرشح الفائز بصورة قانونية." سؤال آخر تثيره المقارنة: هل تطلب الأمر حقيقة عشرة أشهر كاملة لكي يكتشف قضاة المحكمة الأخطاء التي تمت في عملية احتساب البطاقات الانتخابية؟ هل هي عشرة أشهر فعلية تطلّبها التمحيص القانوني في الوثائق والمحاضر والنصوص أم أن الضرورات السياسية تتريث أحيانا وتستعجل أحايين أخرى حسب الحاجة السياسية لتخريجات وتحويرات مناسبة لتخفيف النقمة الشعبية وإدارة محنة حكومة أخنوش؟ وكان من الممكن أن تتريث المحكمة حتى الثامن من سبتمبر المقبل لإعلان القرار لصد من يشككون في الانتخابات. يقول المغني الفلسطيني عبد الله حداد في أغنية "التكتيك العربي": سمعت نغمة ازعجت مخّي سألت قالوا تكتيك يا جاهل إن رخوا نشدّ وان شدّوا نرخي هيك انشهرنا في المحافل… ! يبدو أنها صيغة مغربية من تكتيك "الشدّ" و"الرخي"، والتضحية بمقعد عضو واحد من حزب التجمع الوطني للأحرار من أجل تحوير الخطاب الشعبي الناقم على أخنوش بسبب ثلاقي ثلاث معضلات لا يستطيع التحلل منها بسهولة: أولغارشية المال الحگّار، وتيمقراطية سلطة الاحتكار، وميكيافيلية اختلاق الأعذار. هي ثنائية الشدّ والرخي من أجل أن تهدأ الأعصاب الغاضبة ويتغير الخطاب العام، ويتشبّع بسرديات "الإصلاح"، و"دولة الحق القانون"، و"دولة المؤسسات" ولو مرحليا. قد تمثل صورة جلوس بوعيدة في مقعد سلفه البرلماني "المُقال" أو "المضحّى به" طوق نجاة لأخنوش وحزبه وحكومته في الوقت الحاضر. لكن مفعول الصورة وزخم خطاب الإصلاح لن يستمر أكثر من شهرين بعد الترحيب ببوعيدة ضمن جلسات البرلمان في أكتوبر المقبل. قد يكون جرعة تهدئة الوجع مؤقتا في الجسد السياسي الأخنوشي العليل، ولكن لن تشفيه من عدة علل متداخلة: التعثر في هندسة سياسات عامة تشد عضد المواطنين في معركة ارتفاع الأسعار والتضخم، وتضارب المصالح في ملكية محطات الوقود والتحكم في أسعار البنزين. لكن ثمة علّة ثالثة مسكوتا عنها لدى أخنوش والطالبي العلمي وآخرين متعالين من خطباء الحزب، وهي داء العجرفة الخطابية، أو بلغة أسهل على فهمهم snobisme politique، الذي استشرى في مركب التعالي على ناخبيهم ومن يُفترضون أن يكونوا حكما على جدوى سياسياتهم العامة وأدائهم بعد عشرة اشهر من تولّي الحكومة. ولا يخفى مركب العجرفة والاحتقار في سلوك وتصريحات من يعتدون بقوتهم ومركزهم ويقولون في وجه مواطنيهم "خاصهم إعادة التربية"، أو ينعتون ب"المرضى" ممن سوّلت له نفسه بالسؤال النقدي أو تأييد حملة "أخنوش إرحل". قبل ثمانين عاما تقريبا، سألت الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف ذات يوم نفسها "هل أنا متعجرفة Am I a snob؟" ضمن خطاب ألقته في أحد الأندية الأدبية في لندن في أول ديسمبر 1936، وهي تسائل وعيَهَا الذاتي بمدى التناقضات النخبوية في مجتمعها، وسخريتها من ميلها إلى الإعجاب بالمكانة الاجتماعية والافتقار الواضح للوعي الذاتي للطبقة الأرستقراطية. فقالت إن "المتعجرف هو مخلوق ذو دماغ مترفرف وعقل أرنب قليل الرضى عن نفسه، وعندما يحاول تأكيد مكانته الخاصة، فإنه دائمًا ما يزدهر وجهه بالتذكير بلقب أو شرف في وجوه الآخرين حتى يؤمنوا به، ويساعده ذلك على تصديق ما لا يؤمن به حقًا: أنه بطريقة ما شخص ذو أهمية!" يبدو أن رئيس البرلمان رشيد الطالبي العالمي استلهم من خلاصة فرجينيا وولف، من حيث يدري أو لا يدري، عندما قال مفاخرا برئيس حزبه عزيز أخنوش بأن "له من الصفات ما يجعله إنسانا متميزا، لكونه صبورا، واستراتيجيا، وغير منفعل، ولا يهتمّ بالجزئيات التي لا فائدة منها، وناجح في حياته." لكن، تبين أن فريق أخنوش لا يملك الألمعية السياسية ولا البرغماتية في إدارة المرحلة. ولم تعد فزاعة العنف في سوريا تلهم المغاربة بأنهم في وضع مترف، أو أن تقلبات السوق العالمية تفرض مزيدا من التقشف. والأهم من ذلك، لم يعد هناك عازل حزبي أو شعبوي يمتص الصدمات ويساهم في تصريف جحيم المستضعفين في الأرض بحكم الأسعار الملتهبة، وهو ما ينال مما تبقى من راسمال المال السياسي لدى أهل الحل والعقد.