إذا جاز تشبيه الروايات في تنوعها الغني بالفواكه، فإن روايات الكاتب الأمريكي إرفين د.يالوم عبارة عن سَلَطة فواكه أعدت بما لذ وطاب من ثمار الأدب والفلسفة والتاريخ والعلوم. الكاتب الذي أصدر مؤلفات عدة، من بينها خمس روايات، تظل أشهرها الثلاثية الفلسفية التي عالجت حياة وفِكر ثلاثة من أهم الفلاسفة الأوروبيين، ويتعلق الأمر بروايات؛ "عندما بكى نيتشه" و"علاج شوبنهاور" و"مشكلة سبينوزا". وفي وقت خصص الروائي الآخر، التشيكي ميلان كونديرا، الوفير من كتاباته لإبراز فضل الرواية على سيرورتي استكشاف الوجود الإنساني وتأسيس الحداثة، واضعا إياها في ما يشبه "المنافسة" مع الفلسفة حول الأحق بانتساب ذلك الفضل إليه. إذ يقول في أحد مقالاته إن "الرواية تعاملت مع اللاوعي قبل فرويد، ومع الصراع الطبقي قبل ماركس، ومارست الفينومينولوجيا قبل الباحثين في علم الظواهر". أي إن الروائيين سبقوا، وفقا لكونديرا، الفلاسفة إلى أهم اكتشافاتهم ومواضيع بحثهم. نجد أن إرفين يالوم، من جانبه، غير معني بهذا "السجال"، فرواياته أراضٍ خصبة لإعادة إنبات تاريخ الفلسفة، وبناء إشكالاتها ومفاهيمها ومدارسها سرديا وفكريا في آن واحد. هوية سردية تنهل من هوية شخصية ولد يالوم سنة 1931 بالعاصمة الأمريكيةواشنطن، لأسرة يهودية، وهو بروفيسور للطب النفسي بجامعة "ستانفورد"، كما مارس العلاج النفسي ويعد من رواد مدرسة "العلاج النفسي الوجودي". ولا ريب في انعكاس هذه الفسيفساء المشكلة لهوية الكاتب على سردياته ومجمل أعماله، حيث يزاوج ببراعة فذة بين السرد والفلسفة الوجودية والتحليل النفسي والتاريخ. ليس هذا العامل الوحيد الذي يُضفي على متونه ثراء سرديا وفكريا، بل اعتماده على تقنية مزج الحقيقة بالخيال، يتجلى ذلك خصوصا على مستوى شخوص رواياته. إذ نجد في رواية "مشكلة سبينوزا" مثلاً تعايشا بين شخصيات حقيقية، من قبيل البطل "بينتو" أو باروخ سبينوزا، والزعيم النازي ألفرد روزنبيرغ والحاخام مورتيرا… مع شخصيات متخيلة مثل "فرانكو بينيتز" صديق سبينوزا، الذي يعترف الروائي في مؤخرة الكتاب بأنه مستلهم من شخصية حقيقية أخرى، لم تظهر سوى بعد نحو ثلاثة قرون من وفاة سبينوزا، ويتعلق الأمر بالمصلح الديني اليهودي "مردخاي كابلان". بالإضافة إلى شخصية "فردريك فيستر" المعالج النفسي ل"ألفرد روزنبرغ". وبتتبع خيوط السرد ضمن روايات يالوم، تتضح للقارئ الغاية الفنية من هذه الشخصيات المتخلية، أي خلق بنية روائية حوارية تروم الولوج لنفسيات وعوالم الأبطال الحقيقيين الداخلية. كما يجاور يالوم بين شخصيات تاريخية لم تحظَ بأي لقاء على أرض الواقع، كما هو الشأن بالنسبة لشخصيتي الفيلسوف الألماني "فردريك نيتشه"، والطبيب النمساوي "جوزيف بروير"، اللذين قارب يالوم بمجاورتهما في روايته "عندما بكى نيتشه"، تكامل أفكارهما حول النفس الإنسانية وما يعتريها من أعطاب، رغم اختلاف المجالات والمرجعيات. ينجز بالوم كل ذلك بمهارة عجيبة في إطلاق العنان للتخيل دون الخروج عن السياق الواقعي والتاريخي للأحداث. ومن الأمثلة على ذلك تعرض الفيلسوف باروخ سبينوزا، في الرواية المخصصة له، إلى ما يسمى في أدبيات الديانة اليهودية ب"الحرم"، أي الطرد من الطائفة والمنع من التعامل مع اليهود. وهو حدث حقيقي، جاء منسجما تماما مع أحداث الرواية المتخيلة. كما نلاحظ ذلك في رسائل فردريك نيتشه إلى محبوبته "لو سالومي"، وهي رسائل حقيقية، ظهرت في رواية "عندما بكى نيتشه" بشكل متسق مع أحداثها المتخيلة. تستحق مهارة الوفاء للتاريخ ضمن عمل تخيلي، بمفردها، أن تُسيل الكثير من المداد النقدي، لكن بشكل عام، يبدو أن يالوم يلجأ لتقنية أسميها ب"ملء الفراغات التاريخية بالخيال". أعني أنه يحاول دوما بناء الجوانب التي تجاهلها التاريخ من شخصيات رواياته، مستنداً في ذلك إلى كتاباتها الفكرية والفلسفية، التي تفصح الكثير عنها، لاسيما بالنسبة لمتمرس في التحليل النفسي كإرفين يالوم. وعلى مستوى المضمون، تنهل روايات يالوم مادتها من إشكالية "القلق الوجودي الإنساني"، وتجد فيها أرضا خصبة للبناء السردي. فبوصفه أحد رواد العلاج النفسي الوجودي، يشتغل يالوم في أعماله دوما على الاستدلال، روائيا، على فكرة أن المشاكل النفسية العديدة والمتنوعة التي نعانيها ونصادفها في حياتنا، من قبيل الهوس العاطفي والخوف واليأس والاكتئاب والتعصب والكراهية… لا تعدو أن تكون مظاهر قشرية أو "أقنعة" يختفي وراءها القلق الإنساني إزاء ثلاثة إشكالات وجودية كبرى هي: الموت، والعزلة وفقدان معنى الحياة. إشكالية الموت يبدو أن إشكالية "الموت" تمثل الاهتمام الأبرز لأعمال إرفين يالوم. ففي رواية "مشكلة سبينوزا"، نجد أصداء فلسفة الإغريقي أبيقور حول الموت، وكيف حاول هذا الفيلسوف، الذي أثرت فلسفته بشكل واضح على فلسفة باروخ سبينوزا، تخفيف سطوة الخوف من الموت على الناس، مدركا أنه في طليعة أسباب القلق الإنساني، التي تمنع عنا السعادة و"الطمأنينة" وتفسد حياتنا. وقد اعتبر أبيقور أن الأديان، وإن حاولت تخفيف وطأة الموت على النفس البشرية، عبر وعدها بحياة جديدة بعد الموت، إلا أنها فاقمت قلقنا إزاءه حين توعدت فئة من البشر بعقاب الآلهة وبالجحيم. ولذلك يُفضل أبيقور اعتبار الموت مرادفا للفناء والعدم، وأن التخلص من القلق الوجودي الذي تسببه الموت، يستدعي تصورَّها عودةً لحالة ما قبل الولادة، أي العدم المُريح. وأنها لا تلتقي بالحياة وبالوجود قط، كما تدل على ذلك مقولته البارزة: "حين أكون موجودا فإن موتي غير موجود، وحين يوجد موتي فأنا لا أكون موجودا". وفي رواية "عندما بكى نيتشه"، تَخلُص رحلة الفيلسوف الألماني في سبر معاناة صديقه الطبيب بروير من هوس عاطفي، موضوعه إحدى مريضاته التي تدعى "بيرتا ببنهايم"، إلى أن الهوس المُقنع بالحب، راجع لبلوغ بروير سن الأربعين، وشعوره باقتراب موته، سيما أن بيرتا تحمل نفس اسم والدته الراحلة، التي دأب بروير على زيارة قبرها، ما جعل مريضته تمثل، في لا وعيه، مهربا من الموت ومن النسيان. كما أدرك نيتشه أن الخوف من الموت هو ما يغذي المُعتقدات بشتى أنواعها، حتى تلك التي تأتي لتعويض المعتقدات الدينية، باعتبار أن بروير كان ملحدا، وأن البديل الروحي الذي كان ينقذه من الغوص في إشكالية الموت والفناء المرعبة، هو الهوس ببيرتا والاعتقاد في أن الهرب معها هو السبيل إلى حل مشاكله. إشكالية الدين والإله ومعنى الحياة تحتل إشكالية الدين والإله مكانة بارزة في روايات إرفين يالوم. ففي "مشكلة سبينوزا"، نتعرف إلى فلسفة الأخير السباقة إلى إعادة النظر في مفهوم "الإله". إذ اعتبر سبينوزا أن الإله، كما وصفته الديانات الإبراهيمية، هو "إله تجسيمي"، أي إنه يحمل صفات بشرية، دفعت سبينوزا لرفضه وتأمل مفهوم أرقى للإله. وقد انتهى سبينوزا إلى اعتباره – أي الإله – بدلا من كيان منفصل ومترفع عن الكون، جزءا لا يتجزء منه ومن مكوناته البشرية والطبيعية. وهي الأفكار التي أدت إلى اتهامه بالهرطقة وطرده من الطائفة اليهودية بأمستردام سنة 1656. أما في رواية "عندما بكى نيتشه"، فيتضح أن معاناة شخصية الدكتور بروير تفاقمت بسبب إلحاده، ما أفقده كل معنىً للحياة وحرمه من العزاء ببعث جديدة بعد الموت. فغرق بذلك في أزمة وجودية تحوم حول الفناء والنِسيان وعبثية العيش والأشياء، تجلت لديه على هيئة كوابيس وهوس عاطفي وعجز عن الاستمتاع بحياته رغم ترفها المادي. ويتوصل نيتشه في متم الرواية إلى أن الإنسان بحاجة ماسة للخضوع لدين ولإله ما، وأنه عاجز عن الاستغناء عنهما حتى لدى إلحاده، إذ يُقبل في هذه الحالة، وبشكل غير واع، على اتخاذ "آلهة" بديلة قد تكون امرأة أو معلما أو فنانا… إشكالية العزلة تبرز إشكالية العزلة في رواية "مشكلة سبينوزا"، حين يتعرض الفيلسوف المذكور إلى "الحرم" ويطرد من طائفته. وهو الذي كان لا يخشى في فلسفته وأفكاره لومة لائم، فيجد نفسه أمام أسوء هزة وجودية. ويشرع في تذكر والده المتدين، وطفولته حين كان يُتنبأ له بأن يغدو من كبار حاخامات اليهود، وتعود إلى ذهنه طقوس الديانة اليهودية، وتغمره السعادة لمجرد لقاء جمع من اليهود… كل ذلك بعدما أمضى ما تقدم من حياته ناقدا لتلك الديانة، متهما إياها بإشاعة الخرافة. ولم ينجح سبينوزا في تحدي تلك العزلة الوجودية العسيرة إلا بفضل صديقه "فرانكو"، اليهودي الذي خالف أوامر "الحرم" ومضى يتواصل مع سبينوزا، بالإضافة إلى أصدقائه الفلاسفة الذين ساعدوه على ترميم عزلته والمضي في حياته الفكرية. وفي رواية "عندما بكى نيتشه"، تعود إشكالية العزلة لتطرح لكن بمقاربة جديدة، فنيتشه يقول لبروير إنه "يكره من يحرمونه من العزلة دون منحه الرفقة التي يحتاجها"، أي إن العزلة ليست عدم وجود أشخاص في محيط المرء، بقدر ما هي "التواجد بين أشخاص لا يشاطرونه ما يحب" على حد تعبير الفيلسوف نفسه. روائي ومترجم مغربي