قرأت رواية ( تفاحة فاغنر ) لكاتبها يوسف الصروخ، فوجدت نفسي أمام كون جمالي باذخ ماتع. أمام تجربة ناضجة لها تميزها وخصوصيتها. تجربة ثائرة ترفض النمط وتسير خارج فضاء المعتاد، تجربة طموحة متمردة تستلذ ركوب المغامرة والمشي المستمر فوق صراط التجريب ومعاكسة مجرى التيار ومعانقة الاستثناء. والواقع أن مقاربة عمل هذا المبدع الثائر الساخر لا يمكن أن تتم إلا بوضع إبداعه ضمن السياق الرؤيوي الذي ينطلق منه، وهو سياق ثقافي حداثي شكلته كثير من العوامل والمنطلقات والميولات والقراءات. فهذا المبدع الشاب جاء إلى عالم الكتابة الروائية من عالم الفن الواسع. فهو فنان بطبعه.. بتكوينه، بل بشخصيته المرحة التي تكسر كل الحدود الفاصلة بين الناس، وتقصر المسافات بين القلوب، وتزرع البسمة وتسقي النفوس بمياه المتعة والفائدة. هو فنان متنوع: تشكيلي ومسرحي ومنشط ومصمم. يعيش في بحر من الفنون، وتحت أفق مشتعل بالجمال. والفن عادة هو خلق للجميل والجديد والمثير. والفن كذلك هو ملء للفراغات وتأثيث للخرائب، وهو أيضا تعويض للنقائص التي نشعر بها في هذا العالم، وهو تعبير جمالي عن قضايا الواقع وترجمة فنية لمعاناة الناس ورسم حالم لأفق ممكن للتغيير. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن هذه التجربة الروائية الجديدة جاءت بعد تجربة تجريبية سابقة موسومة بأماسين. ولاشك في أن الكاتب استفاد من تلك الباكورة السردية ليقبل على مغامرة إبداعية أكثر نضجا وأكثر ثورية و أكثر عمقا. في هذه الرواية تبرز ظلال شخصية الكاتب، وتطل علينا حمولته الفكرية واهتماماته الثقافية وحساسيته الفنية. فالكمّ الهائل من النصوص والكتب والنظريات والأسماء والمواقف والشذرات العلمية والمعرفية...كل ذلك يدلنا على كاتب موهوب ومتمكن وصاحب قراءات عميقة للساحة الثقافية ولكل ما يموج فيها من إبداعات ونظريات ومذاهب وتيارات. كما أن التنوع اللغوي ساعده على الانفتاح على ثقافة الآخر وعلى التأثر ببعض الأسماء من الفلاسفة والشعراء والكتاب. فخلال قراءة الرواية وفي ثناياها وبين صفحاتها نحس بروح يوسف تسري مسرى الحرير، ونرى صورته تلتمع، ونسمع صوته يطل علينا بين الفينة والأخرى. وعلى هذا الاعتبار أتجرأ وأقول بأن هذه الرواية يتداخل فيها الميثاق السير- ذاتي مع الميثاق الروائي، وبأنها تتميز في بعض مفاصلها بشبهة الكائن السيري. إشكالية التصنيف: تندرج هذه الرواية من حيث المذهب السردي ضمن الرواية الجديدة، رواية الحداثة أو ما بعد الحداثة التي فجرت البناء الكلاسيكي وأحدثت منطقا خاصا أو لامنطقا في توظيف العناصر السردية من محكيات وفضاءات وشخوص وبنية سردية ولغة سردية وأزمنة. وانتسابها إلى الرواية الجديدة تبرره وتدل عليه المظاهر التالية: تداخل الفضاءات الحكائية وتشعبها الاحتفاء بالأمكنة بشكل قوي حتى صار كل مكان قوى فاعلة مؤثرة عدم خضوع النص لبنية التسلسل والتعاقب. (من الحضور إلى الغياب إلى الحضور) تكسير الخطية الزمنية الزمن لولبي( ثورة على الزمن الخطي) تخلص اللغة الروائية من النثرية والإنشائية واستعارة النسق الشعري بصوره ومجازاته تعدد الأصوات في الرواية (إقحام العامية) تعدد الخطابات في النص تضمين الفانطازيا والعجائبية والثقافة الشعبية (السحر الشعوذة القوى الشريرة) هيمنة هموم الذات على أجواء الحكي استحداث عوالم سردية تخييلية مستفزة للقارئ( قصة العالم والديك والفأر) وأما من ناحية الرهان أو مقصدية الكتابة فهي رواية تنظر إلى الإنسان ليس باعتباره مركز الكون وسيده، بل تنظر إليه باعتباره آفة هذا الكون، باعتباره كائنا بائسا يعيش هشاشة قيمية ووجودية واجتماعية. كائنا متشظيا غارقا وسط دوامة حادة من التناقض والصراع. ذاك الإنسان الذي انسحب ولم يعد سيد الطبيعة ولا سيد التاريخ ولا سيد نفسه، حسب رأي ميلان كونديرا. ذاك الإنسان الذي يعيش فراغا حادا. يعاني من فقدان المعنى ومن انحطاط القيم وتفشي القبح، الشيء الذي ولّد في أعماقه الإحساس بالتمزق الداخلي، وزج به في سراديب اليأس والسوداوية والضياع، وأصابه بالانشطار والانفصام وفقدان الهوية. وفي هذا الإطار تقدم لنا الرواية سؤال الهوية ولغز الأنا وحالات الاغتراب والتيه من خلال صورتين متقابلتين وهما الصورة التي تعكس سيكولوجية الإنسان المغربي، و صورة أخرى تعكس سيكولوجية الإنسان الغربي. يمكن تصنيف رواية تفاحة فاغنر ضمن الرواية الفلسفية في تماس حثيث مع الحمولة الاجتماعية والنفسية. فإذا كان الكثير من الكتاب يتحاشون أو يخافون التعبير عن مواقفهم الفلسفية في أعمالهم الروائية، فإن يوسف الصروخ سلك مسلك الفيلسوف الصريح في هذا العمل السردي إلى درجة أننا يمكن أن نقول إن هذه الرواية هي عبارة عن نظرات فلسفية في قالب روائي، أو هي صناعة روائية بمادة فلسفية خام. وقد انحاز الكاتب إلى نوع الفلسفات الثائرة والشاذة كالوجودية والسريالية والتفكيكية. فلم يكن يتحرج من بسط مواقفه الجريئة والتعبير عن رؤاه وقناعاته بأسلوب سردي ماتع. ولم يكن يترك إنسانا أو حيوانا أو جمادا أو سلوكا أو موقفا أو حادثة أو مشهدا إلا وتفلسف في الحديث عنه. وعليه، يمكن اعتبار هذا المنجز رواية الأسئلة الفلسفية والوجودية، لأنها تحمل ما يحمل الكاتب من هموم، وما يعيشه من تجارب، وما يفكر فيه من أحلام وانتظارات، وما يؤلمه من قيم وظواهر واختلالات. وتضع على طاولة السؤال والمساءلة أهم القضايا التي تهم الإنسان المغربي المعاصر في علاقته بمحيطه القريب والبعيد.. انفتاح النص الروائي : الرواية هي أفق للكتابة المفتوحة والمتنوعة والمتعددة. فهي شكل تعبيري قادر على استيعاب كافة الأشكال التعبيرية الأخرى ومختلف الخطابات والمعارف. وهذا ما نلمسه في هذا النص على مستوى المحكيات. ويتمظهر هذا الانفتاح في المظاهر التالية: انفتاح على الخطابات المعرفية: تتقاطع في هذه الرواية العديد من الخطابات المشكلة للبنية المعرفية للمحتوي السردي، انفتاح على الأجناس الأدبية من خصائص هذه الرواية أن الكاتب مد جسورا بين أجناس فنية كثيرة، واستثمر العديد من الأنماط الكتابية والأشكال التعبيرية انفتاح على القارئ: تخاطب نمطين من القراء: القارئ الضمني الذي يستحضره الكاتب في كل مفاصل الرواية بعبارة (أيها القارئ الكريم) كمساهم او متعاون أو متواطئ في عملية الإنتاج. وهنا يمكن القول عن الرواية بأنها تميل إلى النخبوية. فهي تخاطب عينة من القراء ذوي الكفاءة القرائية والتحليلية والتأويلية والذين لديهم اهتمام بالفلسفة والنظريات التي تهتم بالوجود والخلق والزمن والإنسان. القارئ البسيط الذي يستهدف الكاتب إثارته بتحقيق (الإفادة والإمتاع)عن طريق سرد بعض المحكيات/ الطرائف/المواقف/ التجارب الشخصية/ .... قراءة في العتبات: العتبات أو النصوص الموازية موجّهات للقراءة، لها أهميتها في التحاور والتفاعل مع العمل الإبداعي. فالغلاف منطقة دلالية حبلى بالأسرار والإيحاءات المستفزة للقارئ، لا يقل متعة وإثارة وفلسفة عن ما يتضمنه الكتاب من درر فريدة وأصداف مغلقة محشوة بالمواقف والرؤى والإشارات. الصورة( اللوحة) أول ما يتوقف عنده القارئ ويتأمله. ومن الطريف أن اللوحة من إبداع الكاتب نفسه. وقد أشار في تدوينة فيسبوكية إلى أن هذه اللوحة تم تحويرها وتغيير بعض مكوناتها لتحافظ على شيء من الغموض الذي يحتاجه العمل الفني. معللا ذلك بأن وجود عنصر التفاحة باللوحة قد يوحي بغير ما ترمي إليه الرواية. وأرى أن حضورها أقوى تأثيرا في تلقي اللوحة فهي قد تؤسس أفقا تصوريا قبليا لدى المتلقي، ومع القراءة سيحدث له تكسير في أفق الانتظار. وهذا هو ما تنادي به مدرسة كونسطونس الألمانية ونقاد جمالية التلقي . وأنا لا أنفي أن الغموض الكامن في اللوحة يخلق هو أيضا هذه التصورات القبلية ويدفع المتلقي إلى المساهمة في التأويل وخلق المعنى. العنوان: تفاحة فاغنر عنوان مثير ومستفز للقارئ. وما من شك أن تساؤلات كثيرة أثيرت من طرف المتلقي عن سر اختيار هذا العنوان وعن ماهية تفاحة فاغنر. وهذا سيدفع المتلقي بالضرورة إلى البحث عن هذا العنصر ليؤسس أفق انتظاره الأولي قبل ممارسة فعل القراءة. وأظن أن السؤال الذي سيطرح بالضرورة. هل تفاحة فاغنر حقيقة أم مجاز؟ أما العنوان الفرعي(أظنها قصة حب) عبارة صيغت بمكر شديد وتضليل مقصود للقارئ ودعوة ضمنية إلى تأكيد هذا الظن أو نفيه بواسطة فعل القراءة. المحتوى السردي تعالج هذه الرواية إشكالا نفسيا وثقافيا وحضاريا طالما عبرت عنه الروايات العربية التي اهتمت بعلاقة الجنوب بالشمال وبمسألة الهجرة والآثار النفسية والثقافية الناتجة عن هذا اللقاء( موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح) (الحي اللاتيني لسهيل إدريس) (قنديل أم هاشم ليحيى حقي)(عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم).( اللانجري لمحمد نافع العشيري). وفي هذه الرواية تأخذ موضوعة الهجرة بعدا مختلفا فهي لم تكن بدافع الدراسة أو العمل أو الانبهار بالغرب بقدر ما كانت بدافع البحث عن متغيبة (أخت البطل). لكن هذه المغامرة لم تكن بالبساطة التي يمكن أن يتصورها السامع. وهنا لا أريد أن أتوسع في التفاصيل لأترك للمتلقي فرصة التحاور والتفاعل المباشر مع هذا المنجز. تتحول هذه الرحلة التراجيدية إلى سلسلة من المغامرات والإخفاقات النفسية، والصراعات الثقافية والاجتماعية، والسقطات الخلقية والدينية والسلوكية، لتنتهي بالبطل من باحث عن أخته إلى باحث عن ذاته. إلى كائن ممزق هش فاقد للمعنى. إلى شخص حالم هائم تحيط به الأسئلة الحارقة من كل جانب ويفتقد الإجابات. إلى إنسان تائه في دروب المجهول وفي سراديب الأحلام.. ترك الأهل والحضن والوطن والدراسة، فانهارت الحياة أمام عينيه، ولم يعد يرى من حقيقة سوى الموت. إنسان ارتمى في أحضان العبث، فطوحت به رياح الإخفاق وزوابع الفشل، حتى فقد الثقة في العقل والدين والمجتمع والإنسان، فعاش في الهامش صريعا في دوامة الحيرة والشك والسؤال. قد توحي الرواية بأن بطلها هو محور هذا العمل كشخصية مركزية نامية متطورة ومتحولة، ولكن الحقيقة أن الرواية جعلت القيم والأفكار المتناقضة والمتطرفة هي الأساس في هذا العمل السردي. تقدم الرواية لغز الأنا أو سؤال الهوية وإشكال الاستلاب والهشاشة والإحباط مدارات حقيقية في الاستراتيجية السردية. فالشخوص الروائية عوالم من الأفكار والاختيارات والمواقف والثقافات المختلفة. وأما الأماكن فهي فضاءات حية مؤثرة وقوى فاعلة ساهمت في توجيه البطل وفي رسم تفاصيل حياته وفي تغيير مواقفه وقناعاته. أما الزمن فقد أحدث الكاتب ثورة على الزمن.. ثار على البعد السطحي للزمن. تبنى الكاتب رأي بول ريكور الذي يقول" إنه لا وجود للبعد الأفقي للزمن". توهم الرواية بالتركيز على ثنائية الحب والجنس، ولكن بنيانها الدلالي أعمق بكثير من هذه الثنائية. فهي رواية اهتمت بالإنسان وعبرت عن أسئلته الوجودية ورسمت عوالمه الداخلية. فالشخوص المتواجدون بها ليسوا رموزا أو حالات خاصة، وإنما هم نحن /الإنسان. هذا الإنسان الذي يصارع الفراغ والمجهول والقدر والحظ واللامعنى والظلم والكبت والأقنعة والأمراض النفسية والتقاليد البالية والعقلية التحكمية والسلطة الدينية والأعراف الاجتماعية والعنصرية والطبقية والحياة والموت..... ومن بين ما تناولته الرواية من قضايا كتيمات فلسفية : الشك في القيم.. السخرية من العالم . القلق الوجودي. الاغتراب. الهشاشة الكينونية. الحب. العبثية. الالحاد. عبادة المتعة. التمرد على قيم المجتمع. لغز الوجود. الفردانية. ثنائية الخير والشر. الرمزية. الدوافع المادية للسلوك الإنسان. الوعي واللاوعي. التفكير. عشق الحياة. الحياة. الموت. العبقرية. السريالية اللامعقول. الجنون. الإيمان. الغريزة. الحلم. الأخلاق. الحرية. انسحاب الإله. الفوضوية. السخرية من بعض العقائد. تقدم الرواية هذه النظرات الفلسفية في قالب سردي تخييلي من خلال تجارب وحالات حالات إنسانية نفسية وسلوكية واجتماعية وسياسية و دينية... خاتمة (تفاحة فاغنر) رواية ناضجة على مستوى كل العناصر السردية.. المادة المحكية. البنية السردية. صناعة الشخوص. صناعة الفضاءات. التلاعب بالأزمنة. التلاعب باللغة السردية توجيه المتلقي واستحضاره ودفعه إلى التمسك بطوق السارد بقوة خلال عملية القراءة. إنها رواية الأسئلة الكبرى تتبنى موقف الفيلسوف الوجودي هايدجر الذي يدعونا إلى تأسيس وجودنا بواسطة الأسئلة. علما أن تاريخنا مليء حافل بالأجوبة الغامضة. ولم نجرؤ بعد على طرح الأسئلة، ولم تساهم برامجنا التربوية في دفعنا بالسؤال نحو الأمام لنسلك درب التساؤلات الحقيقية عن وجودنا. وما على القارئ سوى حسن استثمار الإشارات والرموز للتفاعل مع الرسائل القوية المضمرة في هذا العمل الماتع..