هذا هو السؤال المركزي الذي يتصدى للإجابة عنه الباحث المصري الدكتور أشرف منصور في أحدث كتبه الذي يحمل عنوان :" سبينوزا ونقد العقل الخالص: دراسة نظرية" الصادر مؤخرا عن دار رؤية بالقاهرة وللإشارة فإن أشرف منصور أستاذ بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية له مؤلفات وكتابات عديدة مثل :"الرمز والوعي الجمعي" و دراسات في سوسيولجيا الأديان" و"نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل" و"الأصول الكانطية للفينومينولوجيا" .. لقد عرف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بنقده للعقل في أبعاده الميتافيزيقية والأخلاقية والدينية والجمالية، وهو ماتعكسه كتبه الأساسية: "نقد العقل الخالص" و" نقد العقل العملي" ونقد ملكة الحكم" و" والدين في حدود مجرد العقل" . لكن أبرز هذه الكتب هو "نقد العقل الخالص" الذي يعد من أهم المؤلفات الفلسفية في العصور الحديثة وقد وضع فيه كانط الأسس الفكرية والفلسفية لنقد العقل بصفة عامة والعقل الفلسفي بصفة خاصة، حيث خصصه لدراسة القدرات والملكات العقلية التي تبحث في القضايا الميتافيزيقية، مبرزا حدود العقل البشري في التعاطي مع الأسئلة الميتافيزيقية حول طبيعة النفس والعالم والألوهية، وهي أسئلة تفوق هذه القدرات البشرية وتنتمي إلى مجال النومين (الشيء في ذاته) في مقبل الفينومين الذي يعبر عن ظواهر الأشياء. لذلك فإن تناول العقل لهذه القضايا والخوض في تفاصيلها يسقطه في المفارقات والتناقضات. لقد حاور كانط في سبيل التعمق في هذا الموضوع العديد من الفلاسفة من مختلف العصور وبمختلف اتجاهاتهم أمثال من طاليس إلى بيركلي ، لكنه لم يأت على ذكر باروخ سبينوزا الذي يعد م أهم وأخطر الفلاسفة في العصر الحديث. فلماذا سكت كانط عن التطرق لأفكار سبينوزا صراحة بالرغم من أنه لم يتخلص منها؟. إن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوز هو أحد قامات الفكر الفلسفي الحديث ويشهد تراثه المكتوب على ذلك، خاصة كتابه العمدة "الأخلاق" الذي هو كتاب في الميتافيزيقا وليس في الأخلاق باعتبارها فرعا من فروع الفلسفة حيث لم يتناول هذا الموضوع إلا في الجزئين الأخيرين من الكتاب، أما معظم أجزائه فتدور حول الإله والإنسان: طبيعته وطبيعة معرفته . لكن ربط الكتاب بالأخلاق يأتي من كون سبينوزا مقتنع بأن كل تأملات الفلسفة الميتافيزيقية وكل مايمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار أنطولوجية ليس له غاية نهائية إلا توجيه الإنسان في حياته من أجل هدف سامي لهذه الحياة الإنسانية وهو السعادة وسلامة الإنسان العقلية والأخلاقية. وهكذا يعود سبينوزا إلى التصور القديم للفلسفة الذي يربط فيها التأمل العقلي والنظرة المجردة بالسعادة الإنسانية.،كذلك كان يعتقد بأن أي مذهب أخلاقي لايمكن أن يتأسس على نحو صحيح مالم يتضمن حلا للمشاكل التقليدية حول العلاقة بين الإله والعالم والنفس والجسم والروح والمادة. يحاول أشرف منصور في هذا الكتاب كما يقول قراءة فلسفة كانط قراءة سبينوزية، أي وضع "نقد العقل الخالص" في إطار سبينوزي، متخذا في ذلك سبينوزا الأساس الذي ينظر منه إلى فلسفة كانط. فكانط نظر إلى فلسفة سبينوزا انطلاقا من فلسفته، ولذلك فالمؤلف يردي أن يعكس الآية ويقرأ فلسفة كانط قراءة سبينوزية. فهناك بالفعل حوار مضمر وخفيا مع سبينوزا يتضح في نقد كانط للنقائض الكوزمولوجية للعقل الخالص، وفي دفاع كانط عن نفسه في آخر صفحات الجزء الذي ينقد فيه علم اللاهوت العقلي بعد تفنيده لبراهين وجود الإله، وفي الفصل المسمى "انضباط العقل الخالص في استخدامه الدوغمائي" الذي ينقد فيه استخدام المنهج الرياضي في الفلسفة، الذي هو نقد مباشر لسبينوزا لكن دون التصريح باسمه كعادة كانط ومع كل مايخص أفكار ونظريات سبينوزا.وإذا كان سبينوزا هو المسكوت عنه في "نقد العقل الخالص" ،فإن المؤلف سيحاول أن يجعل من هذا المسكوت عنه يتحدث عبر استنطاقه وجعله يقول رأيه في كانط الشيء الذي سيؤدي إلى إعادة قراءة نقد العقل بروح جديدة تكشف حتما عن أمور هامة في هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس منذ ابتداء من العصور الحديثة إلى اليوم. وبالفعل فقد بين المؤلف عبر صفحات ممتعة وشيقة بأن كانط قد حاور أفلاطون منتقدا نظريته في المثل، ورفض مذهب أبيقور الذري، وضع أفكار ديكارت على محك النقد مثل أدلته على وجود النفس وخلودها وتمايزها عن الجسد وبساطتها وروحيتها، كما انتقد بقوة دليله الأنطولوجي على وجود الإله، وانتقد صراحة فلسفة لايبنتز ومفهومه الشهير المونادولوجيا الذي يتمحور حوله مذهبه الفلسفي وكذلك فحص تعريفاته الجديدة للأحكام التحليلية-التركيبية. وانتقل إلى نقد النزعة التجريبية عند جون لوك التي أضفت الطابع الحسي التجريبي على التصورات...لكنه لم يدخل في حوار صريح مع سبينوزا ، بل أجرى حوارا مضمرا لم يركزه في موضع واحد من نقد العقل الخالص بل جعله منتشرا وموزعا عبر "الجدل الترنسندنتالي" كله. كما أن رفضه لاستخدام المنهج الرياضي في الفلسفة هو حوار ونقد واضح لسبينوزا في "انضباط العقل الخالص في استخدامه الدوغمائي" لأنة كانط نظر إلى فلسفة سبينوزا على أنها دوغمائية وكعادته ينتقد كانط سبينوزا دون التصريح باسمه. ملاحظة : نشر يوم الأربعاء 5 يونيو 2013 بجريدة أخبار اليوم المغربية