الخلاف الذي وقع بين محمد يسف فقيه السلطة، وأحمد الريسوني فقيه الإسلام السياسي، يعكس بتداعياته وأبعاده أزمة العقل الإسلامي المعاصر، ومدى ما وصل إليه من ارتباك في استعمال الدين والعبث به، سواء في إطار المعارضة الأصولية الساعية إلى الاستيلاء على الدولة، أو في إطار دوائر السلطة الاستبدادية التي ما زالت تصرّ على اعتماد الدين آلية من آليات ترسيخ السلطوية وفرملة الانتقال السلمي نحو الديمقراطية. الرجلان معا وقعا في تناقضين يضعهما موضع تساؤل، فالسيد الريسوني دعا إلى ضرورة الترخيص ل"المسيحيين والشيعة والملحدين" على حد تعبيره، بإنشاء جمعيات وتنظيمات لهم لكي يعبروا فيها عن مواقفهم ورؤاهم، وهي فكرة ديمقراطية علمانية صميمة، لا نملك إلا أن نصفق لها، لولا أن التاريخ لا يرحم أحدا، وأن الذاكرة ما زالت تحتفظ بمواقف الشيخ المقاصدي الذي سبق له أن أعلن قبل عامين رفضه المبدئي التام والقطعي بإقرار حرية المعتقد في الدستور المغربي، بل إن الشيخ وجه كلامه إلى الملك محمد السادس مباشرة محذرا إياه من مغبة الاعتراف بحرية العقيدة دستوريا لأن ذلك من شأنه حسب منطوق الشيخ أن يؤدي إلى جعل أمير المؤمنين "بلا مؤمنين يحكم عليهم"، وهو ما يفيد أن الناس إن ظلوا مسلمين فبفضل انعدام حرية العقيدة وبفضل رقابة الدولة عليهم، والتي في حالة انتفائها سيهبون أفواجا حسب ما يُفهم من كلام الشيخ لمغادرة الدين الإسلامي إلى غيره. من جهة أخرى سارع الشيخ في الأيام الأخيرة إلى اتهام وزراء حزب العدالة والتنمية بعدم الاكتراث باستعمال المرجعية الدينية والإعلان عنها في سلوكهم السياسي وعملهم اليومي وتصريحاتهم، حيث أصبحوا حسب السيد الريسوني وزراء سياسيين مثل غيرهم. السؤال الذي نطرحه على السيد الريسوني هو التالي: إذا كنت تؤمن حقا بضرورة السماح للشيعة والمسيحيين بتكوين جمعياتهم، فلماذا سارعت إلى معارضة توفير الحماية الدستورية لهم ؟ كيف يمكن للمسيحيين والشيعة أن يعلنوا عن أنفسهم في بلد لا يعترف دستوره بالتعددية الدينية وبحرية العقيدة ؟ أليس الشيخ بصدد التحايل على الموضوع من أجل دفع المعنيين بالأمر إلى الكشف عن أنفسهم للانقضاض عليهم بعد ذلك والتحريض ضدهم والانتقام منهم ؟ هذا ما يمكن استخلاصه من تناقضات الشيخ، فلا يمكن الدعوة إلى حرية التنظيم والتعبير مع معارضة إقرارها الدستوري الذي يضمن حماية هذه الحريات في القانون الأسمى للبلاد. والذي يرفض أن يقرّ الدستور حرية المعتقد التي هي أم الحريات ليس من حقه بعد ذلك التظاهر بالتسامح مع المسيحيين أو الشيعة، لأن ذلك سيضعه موضع سخرية. من جهة أخرى فاتهام حزب العدالة والتنمية بالتقاعس عن تطبيق الدين واعتماده مرجعية في العمل الحكومي يتعارض مع المطالبة بإقرار التعددية الدينية في الحياة العامة، ذلك أن التعددية المذكورة غير ممكنة إلا في إطار دولة القانون المدنية وليس الدولة الدينية. فالوزراء الذين سيعتمدون دينا واحدا معينا دون سواء لا ينتظر منهم أن يحترموا الملحدين والشيعة والمسيحيين كما يزعم السيد الريسوني، لأن هذا يتعارض مع قناعاتهم الإيديولوجية والعقائدية الأحادية. يتضح أنّ الشيخ يتبنى أطروحات العلمانيين دون أن يؤمن بها، لأنها تتعارض مع النسق الفكري الذي ينطلق منه، هذا يجعلنا لا نرى في ما أدلى به الشيخ من تصريحات إلا سعيا إلى المزايدة على علماء السلطة وعلى إخوانه داخل حزب المصباح، الذين بدأ يعلن عليهم شغبه لتذكيرهم بوجوده. أما السيد يسف فقد وقع في تناقض أفدح وأعمق، ليس مع مواقف سابقة له لأن الرجل يظلّ منسجما مع نفسه ومع منطق "المخزن" العتيق، وإنما التناقض الذي وقع فيه هو مع الواقع اليومي للمغاربة الذين يتحدث باسمهم، فالرجل ينكر إنكارا تاما وجود المسيحيين والشيعة والملحدين وغيرهم من الذين يخالفونه في الرأي والمعتقد ونمط الحياة، ويصرح "لا أعرف مغربيا واحدا تنصّر" (كذا !)، ويعتبر الإحصائيات المعلنة "مشكوكا فيها"، ولسنا ندري كيف يمكن إقناع السيد يسف بوجود مسيحيين مغاربة، هل من الضروري أن يدقوا بابه ليثبتوا وجودهم الذي يتوقف على معرفة رئيس المجلس العلمي الأعلى بهم. يصرّ السيد يسف على ممارسة سياسة النعامة معتقدا أن ذلك ما يحفظ للبلد تماسكه واستقراره، والحقيقة أنّ استقرار البلدان وتماسكها لم يكن في يوم ما قائما على التجانس المطلق لسكانها، المفروض بمنطق القبضة الحديدية والرقابة الخرقاء، وإنما الذي يرسخ الاستقرار حماية التنوع ورعايته وتدبيره في إطار الديمقراطية بقيمها الكونية، وهو الاختيار الذي يجعل الناس يحترمون بعضهم بعضا ويتعايشون في أمن وسلام. نتفهم الموقف المرتبك للسيد يسف، فكون "علماء الأمة" قد "أفتوا" بضرورة قتل "المرتد" عن دينه وإهدار دمه، ولأنهم لم يستطيعوا تنفيذ ذلك حتى الآن ولن يستطيعوه في يوم من الأيام، فليس من حلّ أمامهم إلا إنكار وجود المسيحيين والشيعة والملحدين، وتجاهلهم بالمطلق، وهو أضعف الإيمان. الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه الواقعة الطريفة، هو أن العقل الفقهي التقليدي لم يعد يستطيع بآلياته القديمة وأسلوبه في التفكير أن يحلّ قضايا عصرنا هذا، وليس عليه إلا مراجعة نفسه أو الرضا بموقع المتفرج.