في الأسبوع الأخير، احتضنت المكتبة الوطنية للمملكة بالرباط يوما دراسيا حول استقلالية النيابة العامة نظمه منتدى الكرامة لحقوق الإنسان بتعاون مع اخبار اليوم المغربية و هي بادرة قيمة على أكثر من مستوى بدا من أهمية الموضوع و مرورا برمزية المكان و انتهاء بنوعية المتدخلين. منذ أيام شرعت المكتبة، على ما يبدو، في نبش الذاكرة الوطنية حين حاولت نفض غبار النسيان لمواقف أحد رجال الحركة الوطنية و نتمنى أن تسير على هذا النهج لتصبح مع مر الزمن فضاء للحوار و الفكر و المعرفة. في اليوم الدراسي حول القضاء تظافرت جهود تنظيم يعنى بحقوق الإنسان و جريدة التزمت بهم الوطن و التئم الجمع حول سؤال موقع سلطة الاتهام في المنظومة القضائية. بالأمس كنا نتساءل عن سلطة القضاء فذكرنا الفقهاء بان القضاء ليس سلطة بصريح نص الدستور و اعتبر بعض المهتمين آنذاك ان القاضي مجرد موظف يخضع لتنقيط رئيسه المباشر و في غالب الأحيان يأمره وزير العدل بمحض ارادته بالانتقال مؤقتا من مدينة الى أخرى دون اعتبار ظروفه الشخصية و العائلية، او ينقله من الرآسة الى النيابة العامة بجرة قلم في انتظار انعقاد المجلس الأعلى للقضاء قصد المصادقة عفى قرار الوزير. و من منظور سلطة القضاء الذي لم تكن لها مكان في الدستور السابق، انتقلنا الى سؤال استقلال القضاء، و سال مداد بغزارة حول هذا الموضوع الملتبس. و فتح النقاش على مصراعيه في معاهد العلوم القانونية و الجمعيات الحقوقية و في مقدمتها جمعية هيئات المحامين. و لو رجعنا الى توصيات مؤتمراتها في موضوع استقلال القضاء منذ تأسيسها لوجدنا من التوصيات الغزيرة و المتكررة حول موضوع الاستقلال و السلطة ما يشفي الوجدان و لا يشفي الغليل. ***** 2 ***** و اليوم ، لم نعد على ما يبدو، نتساءل هل القضاء سلطة او هل القضاء مستقل و انما ابتدعنا اسلوب التصنيف و أصبحنا نتساءل عن استقلال النيابة العامة و غدا قد نتساءل عن استقلال كتابة الضبط و بعد غد عن استقلال الشرطة القضائية و في مقدمتها الفرقة الوطنية التي ظفرت مؤخرا بصفة الشرطة القضائية رغم اننا لا نجد لها مكانا في المسطرة و هي احدى الألغاز التي يتعين فكها. لم يكن من قبل موضوع استقلال النيابة العامة يشغل بال الفقهاء و المهتمين بالشأن القضائي. و انما تعرفنا على هذه العبارة في ندوات اصلاح العدالة الجهوية التي اشرفت عليها وزارة العدل مؤخرا و يذكر المهتمون ان في ندوة اكادير على وجه الخصوص طفى على السطح سوء فهم ما بين احد وكلاء الملك الذي يشهد له الجميع بالكفاءة و الخبرة و وزير العدل و الحريات حول بعض جوانب مداخلته حيث اختلط في ذهن الوزير غريزة الرآسة التي لا مكان لها في المسطرة و مفهوم النزاهة الفكرية التي يجب ان يتحلى بها كل من حمل رسالة المعرفة. ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الصدد ان من المتدخلين في المكتبة الوطنية من يتوفر على خبرة ميدانية عالية و منهم من يجمع ما بين العمل السياسي في حلته الجديدة و النزعة الحقوقية على ما يبدو و صحفيون مصابون بهاجس العدل و الحرية. صحيح ان الدستور الجديد أتى بعدة اصلاحات من شأنها تعزيز السلطات الثلاث و في مقدمتها سلطة القضاء لكن أغلب هذه المكاسب الدستورية لن تعرف طريقها الى التطبيق لسببين : - أولا : حرص المشرع على وضع العديد من متاريس القوانين التنظيمية التي تحتاج الى وقت طويل و خبرة متناهية في مجال التشريع. - ثانيا : غياب الإرادة السياسية إن لم تكن الكفاءة الميدانية لتدبير الشأن العام التي غالبا ما لا يتوفر عليها الحكام الذي خرجت أسماؤهم من صناديق الاقتراع. و لتأكيد عجز تنزيل المكاسب الدستورية من طرف القائمين على شؤون العباد. نورد العينة التالية : ***** 3 ***** في الأسبوع الماضي ضرب عرض الحائط نائب رئيس محكمة تمارة قاعدة دستورية جديدة لا نظير لها في الدساتير السابقة. فانطبق عليه المثل الشعبي" الفقيه لكنترجاو بركاته ادخل لجامع ببلغته ". مهمة القاضي ببلادنا سواء كان واقفا أو جالسا في القضايا التي تتضارب فيها مصالح الكبار، يمكن مقارنتها في بعض الأحيان، بمهمة شرطي المرور حين يوقف صاحب السيارة المرتهلة بسبب أو بدون سبب و يتغاضى عن مخالفة صاحب المركبة الفاخرة. و لذلك أرى انه عوض البحث عن الضمانات الدستورية لاستقلال النيابة العامة، ينبغي البحث عن هذا الاستقلال في قلب المهام و بالتالي اختصاص المدعي العام و هي تحديدا إشرافه المباشر على مهام الشرطة القضائية و حثهم على التركيز على الآثار المادية للإجرام عوض تزكية الاستنتاجات النظرية التي لا مكان لها في عالم الإجرام. بين يدي قرار جنائي يقضي بوجود جريمة التزوير في محرر لا وجود له طيلة جميع أطوار المسطرة و حين تبحث عن دواعي المتابعة و الإدانة تجد رسالة عامل جعل منها المدعي العام صك المتابعة و بوأها القرار الجنائي مكان الصدارة و ما ينطبق على رسالة العامل ينطبق على جميع محاضر الشرطة. هذا النوع من المستندات نجده حاضرا بقوة في جميع صكوك الاتهام رغم افتقارها الى الآثار المادية للإجرام. عفوية مصادقة ممثل الحق العام لعمل الشرطة القضائية لا تضاهيها الا تلقائية القاضي الذي لا يحتاج في جلسة الحكم لمرافعة المدعي العام حين يتبنى جملة و تفصيلا ما جاء في محضر الشرطة. و هل يجدر، في هذه الحالة النبش في بنود استقلال النيابة العامة التي أتى بها الدستور الجديد أم حثه على فرض سلطته الفعلية في كل شبر من دائرة نفوذه الترابية و أمر الشرطة القضائية باستعمال أدوات البحث الحديثة دون إغفال إشراك أهل الخبرة قبل توجيهه لأية تهمة و بعد ذلك، ضرورة وقوفه في جلسة الحكم على قدم المواساة مع من قرر وضعه في قفص الاتهام للتعبير عن اقتناعه الصميم بالإدانة او البراءة إحقاقا للحق و ترسيخا لقيم العدل و الحرية. هذه بعض شروط القطع مع أي شكل من أشكال التبعية. ان ميزة استقلال المدعي العام لا تكتسب من التشريع بقدر ما تكتسب بالممارسة الفعلية لمهمته القضائية. لو أطلت اللجنة المكلفة بالاصلاح على بعض نماذج عمل النيابة العامة و كلفت نفسها أحيانا عناء الاطلاع عن كتب عن سير القضايا الجنائية التي يحيلها المدعي العام لوقفت بالملموس على قرائن التبعية و أدركت أن مصدرها هشاشة البراهين النابعة من النقص في الخبرة و التكوين لا في غموض النصوص و القوانين.