الشيء الوحيد الذي نجح فيه رئيس الحكومة ووزراء حزبه، حتى الساعة، وب"امتياز"، هو الظهور بمظهر المسؤولين "الراغبين" في إصلاح شؤون البلاد ولكن "العفاريت" لهم بالمرصاد. وإذا كان هناك من أحد له الفضل في هذا النجاح "العظيم" الذي حققه بنكيران وصحبه، فهو الملك محمد السادس وصلاح الدين مزوار وادريس لشكر وحميد شباط وجريدة محسوبة على الأجهزة المعلومة. وأما الملك محمد السادس فقد تجلى فضله الكبير على بنكيران عندما جلب إلى مربع حكمه "عفريتا" يشتبه في وقوفه وراء العديد من الأحداث السياسية والإدارية، قبل يوم 20 فبراير من سنة 2011، ما جعل الناس يصدقون بسهولة "أطروحة" بنكيران حول وجود "تماسيح وعفاريت" بل ويلتمسون له العذر عند تقييمهم لأدائه الحكومي. أما حميد شباط ، المشتبه به في استغلاله لنفوذه للحيلولة دون تنفيذ حكم قضائي صادر في حق ابنه نوفل شباط، المحكوم عليه بثلاث سنوات سجنا نافذا على خلفية "الإتجار بالمخدرات"، وادريس لشكر، المشتبه به في مقايضته لمطلب "الملكية البرلمانية" بحقيبة الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان في حكومة عباس الفاسي، و صلاح الدين مزوار، المشتبه به رفقة الخازن العام للمملكة نور الدين بنسودة في ملف "العلاوات"، فقد شكلت كل جملة مُسيئة صادرة عنهم في حق بنكيران بمثابة شهادة على كماله وعفته، انسجاما وقول الشاعر: إذا أتتك مذمتي من ناقص .. فتلك العلامة بأني كامل. في حين تجلى فضل الجريدة "المعلومة" على بنكيران وجماعته من خلال العناوين العريضة المُسيئة للحكومة، والتي ظلت الجريدة تقدمها على صفحاتها الأولى، منذ إعلان فوز بنكيران بانتخابات 25 نونبر، الشيء الذي أظهر بنكيران ك"ضحية" مستهدف في تجربته الحكومية، وأعطى مصداقية أكبر لحديثه عن "العفاريت والتماسيح" مادام القاصي والداني يعرف من يقف وراء تلك الجريدة "المعلومة" ولحساب أية "عفاريت" تشتغل؟ ولعل السؤال المحير الآن هو: هل كان خطأً من الملك أن يجلب إلى جانبه "عفريتا" مشتبها به من الناحية السياسية والإدارية في العديد من الأحداث قبل 20 فبراير من سنة 2011، إلى درجة جعلت عبد الإله بنكيران، وهو في المعارضة يطلب من الملك صراحة في مهرجان خطابي بإبعاد ذلك "العفريت" عن الحياة السياسية قبل أن يعود بنكيران نفسه، وهو على رأس الحكومة، إلى وصف "العفريت" بأنه "شخص لطيف ولبق" !؟ وهل كان صدفة أن يوجد على رأس ثلاث أحزاب أشخاص كلهم مشتبه بهم ويشتركون في عدائهم لبنكيران؟ إن الجواب عن هذين السؤالين يقتضيان منا العودة إلى شهر فبراير من سنة 2011، حيث كانت اللحظة المغربية بعد ظهور حركة 20 فبراير جزءً من اللحظة العربية؛ وحيث كراسي الحكام كانت هدفا لحراك الشارع، فكان طبيعيا خلق مسرحية سياسية لشد انتباه المغاربة إليها بدل أن يصرفوا نظرهم إلى كرسي حاكمهم، وهكذا قضت الخطة بصياغة خطاب ملكي "تقدمي" صاحبته حملة إعلامية غير مسبوقة تجلت في وصف أحدهم للملك ب"محمد الثائر" فيما ذهب خيال أحدهم أبعد من ذلك حين كتب بالبنط العريض "الملك أسقط النظام"، قبل أن تجري انتخابات 25 نونبر من سنة 2011، وتحمل إلى رئاسة الحكومة شخص يقول كلام في النهار ويتراجع عنه بالليل، كما اقتضت الخطة إطلاق نقاش مجتمعي حول طبيعة الوثيقة الدستورية ليتيه الجميع وسط سجالات ترسيم الأمازيغية، وطبيعة الدولة هل تكون علمانية أم إسلامية؟ قبل أن تحل مؤثمرات حزبية فيسمح عبرها بمرور أشخاص مشتبه بهم إلى رئاسة حزب "الأحرار" وحزب"الاستقلال" وحزب "الإتحاد الاشتراكي"، حتى اختلط الحابل بالنابل و كثرت الجلبة وانشغل الناس بالتعاليق والسخرية من هذه الأقدار السياسية العجيبة التي سلطت عليهم أمثال هؤلاء القادة "الكارتونيين". لقد أدرك الملك، مُبكرا، أن خطأ والده الحسن الثاني، كان عندما وضع الأخير نفسه وجها لوجه أمام رموز فصائل الحركة الوطنية والفاعلين العسكريين والحقوقيين والنقابيين، بل وحتى أمام الشعب المغربي، من خلال خطب الوعد والوعيد، والتي كان أشهرها خطاب 1984، عندما وصف الحسن الثاني جزءً من هذا الشعب ب"الأوباش"، وهو ما كلفه غاليا، وكاد أن يعصف بحكمه في العديد من المناسبات، الشيء الذي جعل الملك اليوم يتراجع إلى الخلف ويدفع ب "كراكيز" إلى واجهة الأحداث دون أن يتخلى عن خيط واحد من خيوط اللعبة، حتى إذا تعاظمت الأمور نحو الأسوء واشتدت الأزمات السياسية والاقتصادية ولاحت بوادر الانفجار الاجتماعي لا يجد الناس ما ينفجرون ضده سوى بنكيران وشباط ولشكر ومزوار و"في أحسن الأحوال" ضد الياس العماري وفؤاد علي الهمة ومنير الماجيدي. ولنا أن نتساءل مع الذين يتعاطفون مع بنكيران ويصدقون حديثه عن محاربة "التماسيح" لحكومته: هل تجرأ بنكيران إلى حد كتابة هذه السطور على اتخاذ قرار سياسي واحد يمس مصالح الملك الاقتصادية والسياسية؟ هل اتخذ بنكيران لحد الساعة إجراءً واحدا ضد "الباطرونا" ومالكي البنوك وكبريات المقاولات والمؤسسات التجارية العملاقة وكبار الملاكين العقاريين؟ هل طرح بنكيران إلى حدود كتابة هذه السطور مشروعا واحدا سواء في صندوق المقاصة أو صندوق التقاعد أو في التعليم أو الصحة أو الإصلاح الزراعي أو في أي مجال آخر وعارضته التماسيح والعفاريت كما يدعي؟ ألم يقل "السيد" بنكيران بعظمة لسانه "إن صاحب الجلالة اتصل بي وقال لي إذا اتصل بك مستشار وطلب منك إنجاز أمر يخالف روح الدستور فلا تلتفت إليه"؟! هل تطوع رئيس الحكومة أو أي وزير آخر إسلامي حتى الساعة للتخلي على جزء من راتبه تضامنا مع أطفال يموتون بردا ب"أنفكو" أو مع نساء تلدن في الشوارع أو مع أطر معطلة تهشم هراوات وزير الداخلية عظامها بشكل شبه يومي أمام البرلمان، ولو كالتفاتة رمزية فقط، في وقت نسمع فيه، مؤخرا، عن وزيران من "العدالة والتنمية" يشتريان "فيلتين" ضخمتين في إحدى الأحياء الراقية بالرباط ؟ وهل تعالى وتكبر وزير أول سابق على الصحافيين المغاربة بقدر التعالي والتكبر الذي أبداه بنكيران اتجاههم، عندما فضل الحديث إلى مختلف القنوات الأجنبية باستثناء الصحافيين المغاربة، في سلوك لم نعهده إلا من الملوك العلويين. بل وحتى عندما "حظي" صحفيا القناة الأولى والقناة الثانية فاطمة البارودي و جامع كولحسن بحوار واحد يتيم مع "السيد" رئيس الحكومة بعد أن جاء بطلب منه لتبرير جدوى زيادته في أثمان المحروقات، جلس الصحفيان أمام "السيد" رئيس الحكومة وكأنهما "تلميذين" داخل فصل دراسي، وليسا صحفيين، يتناوب على نهرهما أمام ملايين المشاهدين، إلى درجة أنه خاطب كولحسن بالقول: "أنت مجرد صحفي وعليك أن تعرف مع من تتكلم"؟ وهل يمكن أن يُلتمس العذر لمن رفعت حكومته دعوى قضائية ضد موظفين بوزارة المالية ذنبهما الوحيد أنه يشتبه بهما في تسريب وثائق إدارية هي في متناول الجميع؟ في حين كان أحرى ب"السيد" رئيس الحكومة باعتباره الرئيس المباشر لرئيس النيابة العامة أن يُشرف بنفسه على متابعة الأفعال الخطيرة الواردة في الوثائق المسربة، بدل أن ينتهج سياسة النعامة ويلوذ بالصمت، فقط لأن المشتبه بهما في تبديد الأموال العمومية المشار إليها في الوثائق المسربة، هما من علية القوم الإداري والسياسي؟ وعندما يقرر حزب "الاستقلال" الانسحاب من الحكومة، هذا لا يعني أنها مؤامرة ضد الحكومة، كما توهم قيادي حزب "العدالة والتنمية" عبد العزيز أفتاتي، بل هي مؤامرة ضد الوعي السياسي للشعب المغربي بأكمله، غرضها إيهام المغاربة بوجود عملية سياسية حيوية تستحق الالتفاتة إليها بدل الالتفات إلى الشارع وعبره إلى المعارضة غير المؤسساتية، مادام لاشيء جدي قد تغير حتى الساعة! ثم علينا أن ننتبه إلى أن المستفيد الأكبر من الأزمة الحكومية الحالية والصراع "المنحط" الذي وصل إليه حزبا "العدالة والتنمية" وحزب "الإستقلال"، هو حزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي تضررت صورته بشكل كبير بعد ظهور حركة 20 فبراير؛ حيث بدا حزب "البام" كما لو أنه حزب "الشيطان" الوحيد في المغرب، المسؤول عن كل الشرور التي وقعت في الحياة السياسية المغربية، مما يجعلنا لا نستبعد أن تكون ل"البام" ونحن نعرف وكلاءه داخل الحكومة يد فيما يجري اليوم بين شباط وبنكيران حتى يظهر حزباهما كحزبين تافهين، قيادتيهما منشغلتين فقط بصراعات شخصية وجانبية بدل انشغالهما بمصالح المواطنين الشيء الذي سيولد لدى الشعب الشعور بالقرف والسخط عليهما حتى إذا جاءت الإنتخابات الجماعية عاقبهما عبر التصويت لصالح حزب "الأصالة والمعاصرة". وإذا كان ليس مُفاجئا أن يقوم "البام" بما يقوم به اليوم وقبل اليوم، بالنظر لسوابقه وشروط ولادته، فإن المفاجأة الكبرى، التي كانت ولازالت وستظل مكتوبة بمداد العار على جبين بعض قيادة حزب "العدالة والتنمية" النافذة، هي تلك "الطعنة الغادرة" التي وجهوها لظهر الشعب المغربي، عشية ظهور حركة 20 فبراير، عندما تواطأوا سرا مع المخزن وحوارييه في عز الخناق الذي طوق رقبته، وكان بقليل من الشهامة والترفع عن إغاراءت كراسي الحكم مع الاصطفاف إلى جانب حركة الشعب: "20 فبراير"، أن يُفرض على المخزن بقوة الواقع ومعطياته، أداء مستحقات الانتقال الديمقراطي والتنازل مُكرها عن جبروته وتسلطه، خاصة وأنه لم يكن أمامه من خيارات أخرى غير الجلوس إلى طاولة المفاوضات المُفضية بالضرورة إلى ملكية برلمانية حقيقية حيث السلطة كاملة للشعب والملك لا تعدو وظائفه أكثر من وظائف رمزية، ولكن بنكيران وصحبه استسلموا لنزوات الحكم وفضلوا طريق المهادنة على طريق النضال، بعد أن قبلوا ركوب سفينة المخزن بدل أن يركبوا سفينة حركة 20 فبراير، بل ويا للفظاعة التي ما بعدها فظاعة، "السيد" رئيس الحكومة "سليل الشبيبة الإسلامية الثورية" سيصف نشطاء حركة 20 فبراير وأبناء الشعب الأحرار والبررة بأنهم مجرد "طبالة وغياطة" ! وإذا كنا قد خصصنا في هذا المقال كل هذه الانتقادات لحزب "العدالة والتنمية" ولم نوجه مثلها لحزب "الاستقلال" فليس لأن الأخير يقل سوءً عن حزب "العدالة والتنمية" بلفقط لأن حزب "الإستقلال" كان وسيظل دائما متهما منذ معاهدة "إكس ليبان" سنة 1956، حتى يثبت براءته. وعندما نتحدث بهذه القسوة على حزب "العدالة والتنمية" فلا يعني هذا أننا نضع كل أعضائه في خانة واحدة، بل نؤمن أن بينهم مناضلين شرفاء، إما "مغرر بهم" أو لا حيلة لهم، ولكن بينهم أيضا قادة نافذين جرى استقطابهم مبكرا على عهد وزير الداخلية الراحل ادريس البصري. وخاتمة القول: إن "العفريت" الذي سمح لأشخاص أمثال: امحند العنصر وادريس لشكر وصلاح الدين مزوار ونبيل بنعبد الله أن يمروا إلى رئاسة أحزابهم ما كان له أن يسمح بمرور عبد الإله بنكيران إلى رئاسة حزب "العدالة والتنمية"، حتى يحتاج اليوم إلى شباط أو غيره لينوب عنه في مواجهته، فلو كانت تخالجه ذرة شك واحدة في إخلاص بنكيران للمخزن وطاعته له، لما سمح له بالمرور حتى لو كلفه ذلك حل الحزب بأكمله بدعوى مخالفته لإحدى ثوابت الأمة! كما أن الحزب الذي قبل أعضاؤه إهانة تقليص ترشيح أعضائه في الدوائر الانتخابية سنة 2007، وقبلها سنة 2002، وقبِلوا إهانة أن تتدخل وزارة الداخلية سنة 2003، لترغمهم على تغيير رئيس فريقهم البرلماني الذي انتخبه نواب الحزب البرلمانيين داخل البرلمان، وقبلوا إهانة تعيين أمينهم العام كرئيس للحكومة في ميدلت، يمكنهم أن يقبلوا جميع الإهانات الأخرى، والذي يقبل أن يهان قد يقبل لعب جميع الأدوار، حتى الخسيسة منها!