لطالما أبانت أحزاب الإسلام السياسي بمختلف عناوينها عن فشلها في إدارة دفة الدول التي وصلت فيها إلى سُدّة الحكم،وأظهرت عن قصورها الكبير عن تطوير هذه الدول نحو الأفضل،أو تحقيق إضافة نوعية إلى المشهد السياسي ،أو إلى المشهد الكلي للدولة عموما..وذلك لأن هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية اعتادت على العمل دائما خارج السلطة،ولعب دور الضحية المطارد والممنوع من الفعل، ما يجعلها بشكل عام تصاب بصدمة السلطة كلما وجدت نفسها أمام مسؤولية تدبير شؤون البلاد والعباد. يعود هذا الارتباك في اعتقادنا إلى مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية،لعل من أهمها :التنوع المذهبي والإثني لمعظم الدول العربية، وغياب مشروع جاهز للتطبيق لإدارة الدولة لدى هذه الأحزاب والجماعات الدينية ،مما نتج عنه غياب رؤية واضحة للتعاطي مع المشاكل الاجتماعية و السياسية والاقتصادية.هذا بالإضافة إلى طغيان التفكير الغيبي على أطروحات هذه الأحزاب والجماعات وتعارضها مع الواقع الحالي لمعظم المجتمعات العربية.. لقد بدأت تجربة استلام المجموعات السياسية الإسلامية للسلطة منذ منتصف القرن الماضي، عندما استولت عائلة آل سعود على السلطة في الجزيرة العربية، وبدأت في تطبيق منهجها وفكرها المتشدد المرتكز على المذهب الحنبلي، وأفكار مجدده محمد بن عبد الوهاب، حيث قامت السلطة الوهابية منذ ذلك الوقت على قمع كل المذاهب الإسلامية الموجودة، والتضييق على كل الآراء السياسية المعارضة داخليا وخارجيا،ولما ازدادت إيرادات الثروة النفطية بشكل كبير، ازدادت معها المشاكل الاجتماعية و السياسية ،يقابلها اتساع دائرة الفساد في طبقة الأمراء،ما أدى إلى فساد الطبقات الأخرى، ولم تستطع المؤسسة الدينية فعل أي شيء،لأنها سلطة متسلطة وموالية للساسة وذوي النفوذ من الأمراء والشيوخ وأصحاب المال. وفي سنة 1979 تمكن أنصار الخميني من الإسلاميين من الوصول إلى السلطة ،بعد الإطاحة بنظام الشاه المتسلط رضا بهلوي.ليس بمجهودهم الخاص ، بل بمشاركة كل القوى الديمقراطية و التقدمية المعارضة للشاه آنذاك، وبمجهودات وتضحيات الشعب الإيراني ، غير أن الخميني وأتباعه استأثروا بالسلطة فيما بعد، وخاضوا في حلفاء الأمس السياسيين تقتيلا وتنكيلا،وفرضوا مبدأ " ولاية الفقيه" ،فسيق الكثير إلى السجون بسبب أفكارهم ومعتقداتهم السياسية وانتماءاتهم الإثنية،وهرب الآلاف إلى خارج البلاد نجاة بأرواحهم،بينما تنصرت أعداد كبيرة من الإيرانيين حسب ما توفر من معلومات عن تلك الحقبة البئيسة من حكم ذوي العمائم، الذين أضحوا المسيطر الوحيد والأوحد على الحياة العامة بإيران،ومن ثم دخلت البلاد في دوامة من المشاكل الداخلية التي لا يبدو لها حل في الأفق القريب، وأخرى خارجية ،تورطت فيها إيران في قضايا عدوانية وتجسسية وحدودية مع جوارها العربي بالخصوص، عدا عن صدامها المستمر مع الغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي فرضت على إيران عقوبات اقتصادية قاسية ، يدفع الشعب ضريبتها إلى الآن. أما في عراق ما بعد البعث،وصل الإسلاميون سنة و شيعة إلى الحكم على ظهر دبابات الغرب ، وبحماية من عسسه المدججين بأحدث أنواع أسلحة الدمار والخراب.. فماذا كانت إنجازاتهم على الأرض؟؟ . دولة تعاني من فقدان الأمن على جميع الأصعدة، نتيجة سوء إدارة الدولة،وتعميق الطائفية المقيتة،وسرقة ونهب مقدرات الدولة والشعب العراقي،الشيء الذي جعل العراق يحتل المرتبة الثانية على قائمة الدول الفاشلة بعد الصومال.كما أدى تسييس القضاء، وتدمير البنى التحيتة للبلاد إلى الدخول في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستمرة. وما مصر وتونس بأحسن حال مما سبق ، فقد ناضلت الأحزاب الإسلامية طويلا ضد الطغيان، وتكبدت جراء ذلك الكثير من التضحيات والمشاق. لكنها حينما وصلت إلى السلطة ،بدأت تتكشف عوراتها السياسية وضيق أفقها الفكري وهشاشة مرتكزاتها الأيديولوجية ، ما خلق لها نوعا من صدمة الحكم ، الذي وجدت نفسها فيه من غير ما تحتسب،الشيء الذي أربك حساباتها وتحكم في سلوكها السياسي ،هذا السلوك الذي تبقى من أهم سماته الارتجالية و العشوائية و التردد وضبابية الرؤية ، يبدو ذلك في ما شهدناه من قرارات متسرعة للرئيس المصري محمد مرسي ذو الخلفية الإخوانية في الكثير من المجالات الحيوية للبلاد، ثم التراجع عنها بسرعة مدهشة تنم عن سذاجة وطفولة سياسية ، كان آخرها الإعلان الدستوري الذي أثار ولا يزال كل التناقضات والصراعات التي تشهدها بلاد الكنانة الآن بين "الجبهة الإسلامية" المشكلة من الإخوان ومن يدور في فلكهم ،التي تحاول التفرد بالقرار ،وبين القوى المعارضة لفكر الإخوان وفي مقدمتها" جبهة الإنقاذ الوطني"..مما أدخل البلاد في دوامة لا تنتهي من سياسة شد الحبل ،التي تدفع كل مصر تبعاتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وكذلك الشأن بالنسبة لتونس في عهد حكم النهضة ومن معها،فالحالة لا تزال تتفاعل يوما بعد يوم، وتلقي بظلال قاتمة على مستقبل البلاد ، ما ينذر بدخولها في طريق مظلم من الصراعات الدموية لعل أولها كان اغتيال المعارض التقدمي شكري بلعيد،وما نشهده اليوم من مواجهات دامية مع التيار السلفي الجهادي الموالي للقاعدة ..هذا ناهيك عن التردي الكبير الذي آلت إليه الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية لعامة التونسيين. كما أن الحالة الليبية تسير في نفس المسار،حيث وصول المقاتلين الإسلاميين إلى الحكم، بعد صراع مرير مع الطاغية القذافي وكتائبه ،غير أنه بعد عام من حكمهم ، لا يزال الأمن من أهم مطالب الشعب الليبي ، حيث تحولت الساحة الليبية إلى حلبة صراع وإثبات الذات والنفوذ بين مختلف الكتائب المسلحة، وخاصة الإسلامية منها. نأتي إلى التجربة المغربية لحكم الإسلاميين الممثلين في حزب العدالة و التنمية،حيث جاء هذا الحزب إلى الحكم بعد الحراك الشبابي المغربي الذي قادته حركة العشرين من فبراير،وبعد الدينامية التي خلقها خطاب التاسع من مارس ، وما تلاه من تعديلات دستورية رغم محدوديتها.غير أن حزب العدالة و التنمية اضطر إلى التحالف مع أحزاب أخرى ، لاتجمعه معها أية روابط ، لا أيديولوجية ولا تاريخية ولا سياسية،أحزاب من اليمين وأخرى من اليسار وثالثة من الوسط .. مزيج غير متجانس ينم عن تخبط في الرؤية وغياب للتصور الذي يحكم العمل السياسي ،باعتباره تسطير لمشروع مجتمعي ،يرمي إلى حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. ورغم كل ما ذكرناه من معيقات موضوعية وذاتية، فقد أصرّ حزب العدالة و التنمية الإسلامي على قيادة هذا التحاف الهجين،رغم علمه مسبقا أنه لن يقدم للمجتمع أية مصلحة ،ولن يساهم في حل أي من المشكلات العالقة،لأنه لا يمتلك رؤية واضحة لحل تلك المشكلات من جهة، ولأنه لا يمتلك الأطر ذات الكفاءة للتصدي لهذه الملفات باحترافية ومهنية من جهة ثانية.لكن التهافت على السلطة أعمى أبصارهم ،وجعلهم يقبلون عليها إقبال المحب الولهان،دون اكتراث لما قد يجلبه عليهم إقبالهم هذا من خسارة شعبية وسياسية، وعلى الشعب من ويلات لا تزال تتناسل كالفِطَر. إن تجربة الإسلاميين في السلطة بالمغرب، تعتبر إلى حد الساعة من أسوء التجارب التي شهدتها البلاد،ابتداء بنقض العهود التي قطعها قادته على أنفسهم خلال حملتهم الانتخابية،وفي مقدمتها "محاربة الفساد" بكل أشكاله، والحد من سلطة محيط الملك وأعوانه، وكف أيديهم عن الاقتصاد الوطني ومقدرات الشعب المغربي التي تنهب ليل نهار دون حسيب أو رقيب..والتنكر لما كان قد وعد به السيد رئيس الحكومة المنحدر من جماعة الإصلاح و التوحيد الإسلامية،عموم الشعب بمحاربة الفقر وتحسين ظروف عيش المغاربة ، بدعم الفقراء وتخصيص منح مالية تصرف لهم شهريا، والرفع من الحد الأدنى للأجور،والالتزام بوقف الارتفاع الصاروخي في المواد الأساسية والأدوية، وتوفير فرص العمل للآلاف من العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات و و و.. وعود لم تف حكومة العدالة و التنمية بأدنى شيء منها، بل على العكس من كل ذلك،فقد شنت حربا غير مسبوقة على قدرة المواطنين الشرائية ،بالإعلان عن زيادات غير مسبوقة في مواد المحروقات،ما ترتب عنه زيادات في كل المواد المعيشية الأخرى. أما في المجال الحقوقي، فإن حصيلة الحكومة الحالية ذات الأغلبية الإسلامية، تبقى بعيدة كل البعد عن الحد الأدنى مما هو متعارف عليه عالميا،ويكفي لمن يريد إشباع فضوله أن يقوم بجولة أمام البرلمان ليرى بأم عينيه ما الذي تفعله قوات القمع بكل من سولت له نفسه الخروج الى الشارع أو التجمهر به و إثارة الانتباه لقضيته، أما إذا خرج منددا وشاجبا لسياسات الحكومة ومن معها،فمصيره إلى المعتقلات السرية،حيث يسام سوء العذاب وينكل به تنكيلا..ولسنا هنا في حاجة إلى التذكير بتقارير المنظمات الحقوقية الوطنية و الدولية التي تضع المغرب في أسفل القائمة بعد دول سيئة الصيت في هذا المجال . لقد أثبتت تجارب الأحزاب الإسلامية كلها في الوطن العربي أنها فاشلة وليس بمقدورها قيادة الأمة كما تدعي، وخاصة في هذا الظرف الدقيق، الذي يتطلب رؤية علمية واضحة، تراعي خصوصيات كل دولة على حدة، وقيادة تلقي السمع لنبض الشارع لتتعرف معاناته وأحلامه، والسير معه جنبا إلى جنب، في جو من الثقة و الصراحة و الوضوح،بكل جدية ومسؤولية ، بعيدا عن الهرطقات التافهة، والشعبوية المفضوحة التي أحالت الحياة السياسية إلى مجرد ساحة للتهريج والضحك على الذقون واسبلاد المواطنين باسم الدين تارة،وبحجة مطاردة العفاريت و التماسيح أحيانا أخرى. لقد اعتادت أحزاب الإسلام السياسي منذ زمن بعيد لعب دور الضحية، والعمل من خارج الحكم، غير أنها عندما وجدت نفسها فجأة أمام مسؤولية تسيير الشأن العام، بدا عليها الاضطراب و التردد والتخبط ،وأثبت أنها في حاجة إلى إعادة النظر في مجمل أطروحاتها ورؤاها حول الحكم ، كما هي في حاجة أيضا إلى مدة غير قصيرة للتأقلم والتطبع على ممارسة الحكم بشكل واقعي، يراعي مصالح الناس والوطن أولا، قبل مصلحة الجماعة أو الحزب.وبعيدا عن الديماغوجية الدينية السياسية ،واستغلال الميل الفطري عند الناس نحو الدين . أرفود 13 ماي 2013