خلصت في مقال " على ضوء الاتفاق المغربي – الصيني: مشروع "الحزام و الطريق" فرصة للتنمية الإقتصادية أم مجرد مصيدة للديون الصينية؟ إلى أن الشراكة التجارية مع الصين وفق الأسلوب السائد حاليا تعمق التبعية وتعيق التنمية، فالسياسة الصينية بعد سياسة الإنفتاح و التحرير توجهت بالتدريج نحو تغليب المصالح التجارية على المواقف الأيديولوجية، فمن من غير المهم أن يكون " القط أبيض أو أسود المهم أنه يصطاد الفأر" و هذه العبارة قالها مؤسس نهضة الصين و مهندس سياسة الانفتاح بعد 1978′′ دينج شيا وبينج"، في أعقاب جولة قام بها إلى اليابان و كوريا الجنوبية وسنغافورة. صحيح أن التوجه الرسمي الصيني هو توجه ينبذ سياسة القوة و التدخل في شؤون الغير، فالكتاب الأبيض للسياسة الخارجية، يغلب منطق التعاون على الصراع و الغاية القصوى للدبلوماسية الصينية هو التأمين السلس لتدفق المواد الأولية و الطاقية للاقتصاد الصيني، وتأمين ولوج السلع و الاستثمارات الصينية للأسواق الأجنبية.. وقد رأينا ان اتفاقية "خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق" ، تهدف للاستفادة من التمويل الصيني في إطار "مبادرة الحزام والطريق" لإنجاز مشاريع في المغرب..وتهدف الاتفاقية إلى تطوير الاستفادة من التمويل الصيني، الذي توفره مبادرة الحزام والطريق، لإنجاز مشاريع في المغرب..فالغاية بالنسبة للمغرب الحصول على التمويل وبعبارة أدق القروض الصينية… فقد بلغ حجم الدين الخارجي العمومي للمغرب في نهاية شهر يونيو المنصرم حوالي 373.26 مليار درهم، وهو مستوى يمثل 35% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد..ووفقا لبيانات صدرت من مديرية الخزينة والمالية الخارجية، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، يهيمن الدائنون متعددو الأطراف على هيكلة هذا الدين بحصة تبلغ 48.3 بالمائة، ثم الأسواق المالية الدولية والبنوك التجارية (28,8 في المائة)، وثالثا بلدان الاتحاد الأوروبي (15.8 في المائة) ثم بلدان أخرى (4.4 في المائة)، وبلدان عربية (2.7 في المائة). وبخصوص توزيع الدين الخارجي العمومي حسب العملة، يستحوذ اليورو على حصة الأسد ب59.4 في المائة، ومن ثم الدولار الأمريكي بنسبة 31.5 في المائة، والين الياباني ب2.8 في المائة. وبموجب الاتفاقية الجديدة ستصبح الصين المورد البديل للقروض، وسنحاول في هذا المقال و غيره تحليل هذا الموضوع، لكن سنعطي صورة موجزة عن حجم المديونية العالمية ومديونية الصين قبل إندلاع أزمة "كورونا"، على أن نستكمل باقي النقاش في مقال موالي… فقد أصبح من الواضح للعيان أن الصين قوة عظمى صاعدة ، و تأكد هذا التوجه منذ 2008 تاريخ إنطلاق الأزمة المالية العالمية، و ما صاحب ذلك من شح في السيولة و توجه عام لدى الدول الغربية المتضررة إلى التوسع في الإنفاق العمومي بغرض دعم الاقتصاديات المحلية و منع المؤسسات المالية و الصناعية من الانهيار و الإفلاس و في ظل هذا التوسع كان لزاما اللجوء إلى تبني أسلوب التمويل بالعجز و إصدار سندات دين متوسطة و طويلة الأجل، و كانت هذه فرصة سانحة للصين و التي تتوفر على إحتياطيات مالية ضخمة ، وظفتها لشراء سندات الدين الأمريكية و الأوربية و من تم أصبح لها اليد الطولى في التأثير على السياسات المالية و النقدية لأغلب البلدان المتقدمة و على رأس هذه البلدان أمريكا ، بل أصبح إستمرار هيمنة الدولار الأمريكي على النظام المالي و التجاري العالمي رهين بدعم و قبول ضمني من قبل الحكومة الصينية…كما عملت الصين على إطلاق مشروع عابر للحدود "طريق الحرير و منطقة الحزام" ، و حظيت هذه المبادرة بترحيب عالمي، إذ تم التوقيع على 118 اتفاقية بين الصين وأكثر من 100 دولة، وإقامة البنك الآسيوى للاستثمار في البنية التحتية بمشاركة 92 دولة، وقد تم تنفيذ نحو 28 مشروعا باستثمارات تتعدى 5.4 مليار دولار، ويمكن إجمال أهم إنجازات وتطلعات مبادرة "الحزام والطريق" في: – تهدف إلى إحياء طرق التجارة القديمة عن طريق إنشاء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن 21م، من أجل بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية لربط قارات آسيا بأوروبا وأفريقيا. – بناء شبكة كبيرة من خطوط السكك الحديد وصلت إلى 4 آلاف خط سكة حديد يربط بين الصين وبعض الدول الآسيوية وأوروبا، وكذلك مشروع الممر في باكستان، ومشروع ميناء بيرايوس في اليونان وغيرها. – تخطت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين الصين ودول الحزام والطريق سقف 70 مليار دولار، بينما تخطت التجارة البينية بين الصين وهذه الدول 5 تريليونات دولار. وتنطلق مبادرة الحزام والطريق من الأهمية الحيوية التي شكلها طريق الحرير كمحور عالمي لا غنى عنه في حركة التجارة الدولية طيلة الفترة السابقة لاكتشاف رأس الرجاء الصالح... لكن هناك مقولة شائعة تقول "أن الصين تفكر من محفظتها" ، هذه العبارة خير اختزال لسياسات الصين التجارية و الدبلوماسية، وحتى مواقفها تجاه القضايا الإقليمية أو الدولية نابعة من مراعاة المصالح الاقتصادية و التجارية، فهناك تغليب ظاهر للمصالح على الأيديولوجيا، لكن ينبغي التعامل مع ذلك بقدر كبير من التريث، فالصين قبل 1989 دخلت في أكثر من نزاع مسلح مع بلدان الجوار ، و اتهمت من قبل هذه الدول بالتدخل و محاولة فرض سيطرتها على آسيا، و هذا الاتهام يصعب تفنيذه، فصحيح أن الصين بعد 1989 ابتعدت عن منطق القوة الصلبة في فض المنازعات و اعتمدت سياسة سلمية تقوم على التعاون و التنمية، إلا أنها بذات الوقت تبنت منهجا سياسيا يقوم على تعزيز قوتها الناعمة، ومن ذلك تنصيب نفسها كقائدة للحضارة و الثقافة الكنفوشيوسية، و تعزيز نفوذها عبر توظيف "صيني ماوراء البحار"، خاصة وأن هؤلاء لهم نفود اقتصادي و تجاري بالغ الأهمية في العديد من بلدان آسيا… هذا التوجه الذي تبنته الصين، أصبح موضع جدل، وولد جملة من المخاوف الجدية، لدى الدول المتقدمة و النامية على السواء ، و من ضمن الأمثلة على جدية هذه المخاوف، الموقف الذي عبر عنه سابقا " محمد مهاتير" بعد عودته للسلطة سنة 2018 ، إذ قام بإلغاء ثلاث مشروعات إقتصادية عملاقة كانت ستمولها الصين، في إطار مبادرة "طريق الحرير و منطقة الحزام" ، وتم تبرير القرار بالتكلفة العالية التي قد ترهق البلاد فيما بعد في سلسلة من الديون التي لا يمكن تحملها، وتتمثل المشروعات الملغاة في مشروع خط سكك حديدية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي إضافة إلى مشروعي طاقة بقيمة 2.3 مليار دولار. وقد أوضح " محمد مهاتير" أن بلاده لا تحتاج لهذه المشروعات في الوقت الراهن، واعتبر أن الحكومة السابقة وافقت على دفع مبالغ أكثر مما تستحق تلك المشاريع، و هو ما فسر على أنه انتقاد للصين و سياساتها التجارية عندما حذر مما سماه " نسخة جديدة من الاستعمار"، و أيضا سياسة تكبيل بلدان العالم بالديون و هو ما أصبح يعرف ب"فخ الديون".. فبعد الأزمة العالمية وصل إجمالى الدين العالمى إلى مستوى غير مسبوق، و بحسب تقرير للصندوق النقد الدولي، فإن الدين العالمى عقب الأزمة المالية العالمية واصل الارتفاع حتى بلغ 225% من إجمالى الناتج المحلى العالمى مع نهاية 2015، حيث سجل 152 تريليون دولار بنهاية 2015، نحو 65 % منها ديون القطاع الخاص، أو قرابة 100 تريليون دولار، أما الحكومات فتبلغ ديونها ما يقرب من 52 تريليون دولار، وتأتي الولايات ، و على الرغم من أن أمريكا تملك أكبر و أقوى إقتصاد في العالم فهي أيضا تملك أكبر حجم ديون، إذ يبلغ حجم الديون الأمريكية أزيد من 19 تريليون دولار عند مطلع العام 2017 ، ومعظم هذه الديون تدين بها الولاياتالمتحدة لنفسها، بمعنى أن هناك 6 تريليون دولار ديون إلى الحكومة الفيدرالية، كما تدين الولاياتالمتحدة ب5 تريليونات للدول الأخرى منها 1.3 تريليون دولار للصين، و1.1 تريليون دولار لليابان. وكما أن الصين تملك الصين أكبر ثانى اقتصاد على مستوى العالم، فهي أيضا تملك أكبر ثاني حجم ديون، إذ وصل حجم الديون الصينية فى الربع الأول من عام 2016 إلى 25 تريليون دولار ليصل إلى 237% من الناتج المحلى الإجمالى بعد أن كان نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى عند 148% عام 2007.لكن أغلب الدين العام الصيني مصدره داخلي ، تم إقتراضه من بنوك تعمل في الصين ومن بعض المؤسسات الغير البنكية، أما الديون التي تم إقتراضها من دول أخرى فحجمها جد محدود… أما في المرتبة الثالثة فاليابان بدين إجمالي يتعدى 3.7 تريليون دولار أمريكى فى مطلع العام 2017. و قد سجل الدين العام الياباني إنخفاضا ملموسا فقد سجل في العام 2013 حوالي 10.46 تريليون دولار أمريكى ..وتدين اليابان بمعظم ديونها إلى بنكها المركزى، وبنوك محلية ومؤسسات يابانية غير بنكية… فالمديونية العالية و التمويل بالعجز لا يعد في كل الظروف مؤشر سلبي، و التوسع فيه، لايعني بالضرورة فشلا في السياسات النقدية أو المالية، فالقدرة على الحصول على قروض بنسب فائدة منخفضة و من جهات داخلية و خارجية يعني أن هناك ثقة في الاقتصاد المحلي، و لذلك لا ينبغي التعميم، فمن غير المعقول أو المقبول مقارنة الاقتصاديات المتقدمة بوضع الاقتصاديات في البلدان النامية أو الصاعدة، فالقدرة على الحصول على تمويل من السوق المحلي أو السوق العالمية رهين بجملة من المؤشرات المالية والاقتصادية و السياسية… ونحن إذ نشير للبلدان السابقة و بنية الدين العام لكل بلد، نلاحظ أن الصين و اليابان من أكثر البلدان المقرضة أو المستثمرة في سندات الدين الأمريكي، و في ذات الوقت فهذه البلدان تتوفر على مديونية عالية ، لكن مصدر أغلب هذه الديون داخلي ، أي بالاعتماد على الإدخار المحلي… و إذا تتبعنا مديونية أغلب بلدان العالم سنلاحظ تمايزا في حجم الدين و في بنيته..و الوضع في البلدان النامية و الفقيرة يصبح أكثر تعقيدا و تأثيرا على مسار التنمية و الاستقلال الاقتصادي و السياسي في وجه البلدان و الجهات الدولية صاحبة الديون… وإستمر هذا الصعود و الهيمنة المالية للصين و توظيفها الذكي للفوائض المالية إلى حدود انطلاق أزمة كورونا..و ما صاحب هذه الأزمة من أزمات صحية و توقف في عجلة الإنتاج و الدخول في دورة من الأزمات في أغلب بلدان العالم..و في ظل هذه الظرفية أصبح من اللازم على حكومات مختلف البلدان التوسع في الانفاق العمومي على القطاع الصحي و دعم جحافل العاطلين و دعم الأسر بفعل الحجر الصحي، و التوسع في الانفاق يقتضي توفر سيولة و موارد مالية عمومية…فأصبح من الضروري البحث عن مصادر للتمويل و كل بلد سلك طريقه، و أصبحت السيولة في زمن كورونا العملة الناذرة..هذه الحلقة الجهنمية تقود حتما إلى المزيد من المديونية و الصين واحدة من البلدان المانحة للقروض ، فبأي شروط يتم منح القروض؟ و هل هذه القروض تخدم مصلحة الصين؟ و لماذا علينا ان تعامل بحذر شديد مع هذه الديون؟ هذه الأسئلة ستكون محور المقال الموالي إن شاء الله تعالى .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون… إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة.