قبل أيام تلقيت دعوة للمشاركة في قناة فضائية عربية للتعليق على الاتفاق المغربي الصيني بخصوص مبادرة الطريق والحزام، ونتيجة لإصابتي بوعكة صحية بفعل فيروس كورونا وخضوعي الطوعي للحجر الصحي في بيتي، لم أتمكن من المشاركة و التعليق و تنوير الرأي العام بمخاطر و مثالب المراهنة غير المحسوبة و المدروسة للانخراط في مبادرة الحزام و الطريق الصينية.. فقد وقع كل من المغرب والصين يوم 05-01-2022، اتفاقية "خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق"، تهدف للاستفادة من التمويل الصيني في إطار "مبادرة الحزام والطريق" لإنجاز مشاريع في المغرب..وتهدف الاتفاقية إلى تطوير الاستفادة من التمويل الصيني، الذي توفره مبادرة الحزام والطريق، لإنجاز مشاريع في المغرب. وتبحث الصين عن تعزيز ولوج صادراتها لمختلف دول العالم، من خلال ضخ استثمارات في البنى التحتية وقطاعات النقل، عبر خطة "مبادرة الحزام والطريق" التي تعرف أيضا ب"طريق الحرير" للقرن الحادي والعشرين، والمبادرة أطلقها الرئيس الصيني عام 2013، وهي عبارة عن مشروع يهدف إلى إنشاء حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى إفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي، بكلفة إجمالية تبلغ تريليون دولار.. والمبادرة خطة صينية لتوسيع الممر التجاري لبكين، وتعزيز الروابط التجارية ونقل السلع والبضائع بين آسيا وأوروبا وإفريقيا بضخ قروض لإقامة شبكة من البنية التحتية تربط بين القارات الثلاثة، وتشمل عدد من الطرق البرية والبحرية بما في ذلك مرافئ وسكك حديدية ومطارات في مناطق مختلفة. وعلى الرغم من مرور أزيد من 8 سنوات على إطلاق المبادرة لا تزال تفاصيلها تعاني من ضبابية شديدة، على الصعيدين النظري والتنفيذي، حيث يطغى على معظم أخبارها الطابع الدعائي والترويجي… و قد إزداد هذا التعتيم و الضبابية مع تفشي وباء "كورونا"، و الذي ألحق ضررا اقتصاديا و معنويا بالصين.. فمن دون شك، أن القوة الناعمة للصين أصبحت على المحك ، و الصين مطالبة بترميم صورتها التي تضررت، نتيجة للدعاية الغربية عموما و الأمريكية خاصة، التي جعلت الفيروس مرتبط بالصين " الفيروس الصيني".. لكن في نفس الوقت يمكن أن يكون هذا المشروع طوق نجاة للصين، في ظل الهجمة الغربية الشرسة التي تعرضت لها طيلة عام 2020 ، و أيضا في سياق النزعة الحمائية التي انتهجتها العديد من البلدان الغربية، التي كانت مهدا للتحرير الاقتصادي و إلغاء الحمائية… فالصين اليوم في أمس الحاجة إلى مشروع "الطريق و الحزام" ، لأنه سيمكنها من التحكم في فضاء سياسي واقتصادي، يمتد على قارات العالم القديم ويعيد تعريف شكل التحالفات المقبلة وطبيعتها… و في سياق تنفيذها لهذا المشروع راهنت الصين على الدول الفقيرة والمتعثرة للقبول بقروضها السخية، فأنشأت شبكة طرق في "باكستان" ومحطة قطارات في "كازاخستان" وميناء بحري في "سريلانكا" وصولاً إلى إنشاء جسر جديد في لاوس …كذلك، حرصت الصين على إغراء دول تعاني كثافة سكانية كبيرة، وعجزا في التنمية الاقتصادية والبنى التحتية، فوسعت من استثماراتها على مساحة جغرافية تضم نحو 63% من سكان العالم عبر مشاريع كبيرة ومعقدة تحاول بناءها في دول من مناخات سياسية واقتصادية صعبة…لذلك فإننا نعتقد أن الشراكة مع الصين في ظل الظروف و الشروط الراهنة لا تخدم التنمية بالبلدان النامية المشاركة في مشروع "الطريق و الحزام".. و قد سبق لي ان تناولت هذا الموضوع بتفصيل في مقالاتي و محضاراتي و كتبي ، و إعتمدت في تحليلي على طرح السؤال التالي هل مشروع "الحزام و الطريق" فرصة للتنمية الإقتصادية أم مجرد مصيدة للديون الصينية؟ فالتكلفة التقديرية لمشروع " الحزام و الطريق " تتراوح ما بين 900 مليار دولار و1.5 تريليون دولار، تتوزع تلك الأموال على شكل قروض لتمويل استثمارات في البنى التحتية تنفذها شركات صينية، وتنحصر هذه الاستثمارات في مشاريع لربط خطوط التجارة بين الصين وبقية دول العالم، كخطوط النقل وإنتاج الطاقة وتبادل المعلوماتية… لذلك، فإن الدول النامية لا تستفيد بما فيه الكفاية من هذه المشاريع ، و ذلك من خلال العناصر التالية: * في تشغيل الأيدي العاملة المحلية في تلك المشاريع التي تقام على أراضيها، وبتمويل عمومي محلي، لأن القروض الصينية سيتم دفعها لا محالة.. * كما أنها لا تستفيد من نقل الخبرة أو المعرفة التقنية و توطينها محليا، على خلاف الصين التي كانت تفرض على الإستثمار الأجنبي الغربي، نقل التكنولوجيا و تشغيل اليد العاملة المحلية في مشاريع الاستثمار الأجنبي … * كما أن مشاريع "الحزام و الطرق" تحول أغلب البلدان المشاركة إلى مجرد نقاط عبور للبضائع الصينية و ليس قاعدة للتصنيع و هو الأمر الذي سيقود إلى مزيد من الاستهلاك للبضائع ذات المنشأ الصيني ، و من تم الإضرار بالإنتاج المحلي، وبالتالي رفع معدلات الفقر والبطالة.. * بخلاف دول كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تضع الصين معايير إنسانية أو أخلاقية لمنح القروض المالية، فعدد كبير من الدول التي منحتها الصين قروضًا تعاني من أنظمة حكم شمولية ينخرها الفساد ويزدهر فيها هدر المال العام، ناهيك عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان… لذلك، فإن رأس المال الصيني لا يتردد في ولوج حتى الدول التي تشهد نزاعات مسلحة أو تعاني أزمات سياسية واقتصادية، فالمشروع الصيني لا يهدف إلى تحقيق التنمية والاستقرار في تلك الدول، ولا يعنيه بأي حال من الأحوال تمكين الدول النامية من مواجهة تحديات الفقر والبطالة، بل هو سعي لاستغلال فساد بعض الحكومات، وحاجة حكومات أخرى لجذب استثمارات لا تسهم في التنمية بقدر ما تطيل من عمر الفساد و الاستبداد.. وبناءا على ما سبق، فإن الشراكة التجارية مع الصين وفق الأسلوب السائد تعمق التبعية وتعيق التنمية، و الواقع أني أجد نفسي مضطرا إلى إعادة التأكيد على أن الصين "تفكر من محفظتها " فالسياسة الصينية بعد سياسة الإنفتاح و التحرير توجهت بالتدريج نحو تغليب المصالح التجارية على المواقف الأيديولوجية، فمن من غير المهم أن يكون " القط أبيض أو أسود المهم أنه يصطاد الفأر" و هذه العبارة قالها مؤسس نهضة الصين و مهندس سياسة الانفتاح بعد 1978′′ دينج شيا وبينج"، في أعقاب جولة قام بها إلى اليابان و كوريا الجنوبية وسنغافورة..صحيح أن التوجه الرسمي الصيني هو توجه ينبذ سياسة القوة و التدخل في شؤون الغير، فالكتاب الأبيض للسياسة الخارجية، يغلب منطق التعاون على الصراع و الغاية القصوى للدبلوماسية الصينية هو التأمين السلس لتدفق المواد الأولية و الطاقية للاقتصاد الصيني، و تأمين ولوج السلع و الاستثمارات الصينية للأسواق الأجنبية.. لكن السياسة التجارية للصين ينبغي الحذر منها، فالصين تتبع سياسة تجارية ماركنتيلية، قائمة على تحقيق فائض مطلق في الميزان التجاري، فالصين تحقق فائضا تجاريا ضخما مع مختلف بلدان العالم، و هي بذلك تعمق عجز الميزان التجاري لباقي الدول، و دعامتها في ذلك تبني سياسة نقدية تقوم على خفض قيمة العملة و وضع قيود على سعر صرف عملتها مع توسيع إحتياطي البلاد من العملة الصعبة ، و توظيفه في تعميق مديونية شركاءها عبر منح القروض او الاستثمار في سندات الدين العمومي في البلدان المختلفة و إضعاف موقفها التفاوضي، أو توظيف القروض و المساعدات و حتى الاستثمارات للهيمنة على الموارد الأولية في البلدان النامية ، ومن ذلك البلدان العربية و الإسلامية.. و إذا نظرنا إلى حجم المبادلات التجارية بين المغرب و الصين سوف نلاحظ أن الصين تحقق فائضا مطلقا في ميزانها التجاري مع المغرب، وقد ونمت التجارة البينية بين الصين والمغرب بنسبة 50 بالمئة خلال السنوات الخمس الماضية، من متوسط 4 مليارات دولار في 2016 إلى 6 مليارات بحلول 2021..أما المبادلات التجارية بين العالم العربي و الصين فقد بلغت في العام 2017 أزيد من 200 مليار دولار من ضمنها حوالي 130 مليار صادرات صينية و الباقي صادرات عربية و معظمها من البترول الخام...و إذا نظرنا إلى بنية الواردات العربية من الصين سنلاحظ في الغالب أنها سلع استهلاكية عادية و بعضها هامشي كلعب الأطفال مثلا، وهذه السلع يمكن تصنيعها محليا و توفير فرص عمل و الحد من العجز المزمن في الميزان التجاري مع الصين، فالصادرات الصينية تنافس المنتج المحلي ، و تتبنى أسلوب إغراق يصعب ضبطه ، فحتى منظمة التجارة العالمية عاجزة عن إثبات وجود إغراق، لأن الصين تعتمد أساليب نقدية وتجارية لغزو الأسواق بالسلع الصينية و حتى بالباعة المتجولين و تجار التجزئة من الصينيين..وذلك فيه خطورة على التنمية و إضرار بالصناعات المحلية، و لاتنمية ولا شغل بدون توفر حماية للصناعات المحلية ، ووضع ضوابط لحمايتها من المنافسة الشرسة للصادرات الصينية...ومهما يكن إعجابنا بالتجربة التنموية الصينية، إلا أننا و من دون تردد نغلب مصالح بلداننا العربية والإسلامية، و ضمان حقها في التنمية والنهوض الإقتصادي ، و بنظري أن أفضل خيار لمواجهة الغزو التجاري الصيني هو تقوية التعاون و التكامل الاقتصادي و السياسي بين البلدان العربية و الإسلامية، ووضع سياسة موحدة للتعامل مع الصين و غيرها من القوى الدولية، و سنحاول في مقال موالي تفصيل هذا التوجه و توضيح مخاطر الديون الصينية على مستقبل البلدان النامية و من ضمنها بالطبع المغرب و باقي البلدان العربية ...والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة ..