ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى الذكرىَ 530 لسقوط آخر مَعاقل الإسلام في الأندلس غرناطة
نشر في لكم يوم 07 - 01 - 2022

في الثاني من شهر يناير الجاري 2022 مرّت الذكرى 530 عاماً على تسليم السلطان أبي عبد الله الصغير مدينة غرناطة التي شكّلت آخر معاقل الإسلام في الأندلس للملكيْن الكاثولكييْن فرناندو وإيسابيل، كلما حلت هذه الذكرى تثير ردودَ فعلٍ متباينة بين مؤيّديها ومناهضيها، ففي هذا التاريخ من كل عام يتمّ الاحتفال التقليدي الذي يقام بهذه المناسبة في مدينة غرناطة ليعيد إلى الأذهان ذكرى سقوط هذه المدينة عام 1492 ،.وتحرص السلطات المحلية بالمدينة على عدم السماح للمشاركين في هذه الاحتفالات باستعمال الشعارات العدائية، واللاّفتات العنصرية، ورفع أعلام المناطق الإسبانية الجهوية المطالبة بالانفصال،وكلّ ما من شأنه أن يحثّ على العداء والكراهية والمواجهة .
الاحتفالات بين مُؤيّدٍ ومُعارض
وتباينت الآراء والمواقف بين السياسيين المحليين بين مؤيّدين ومعارضين لهذا الاحتفال وجدواه أو عبثيته؛ وكان فرانسيسكو كْوِينكا ( العمدة السابق لغرناطة من الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني) قد صرّح في هذا القبيل انه ضد هذا الاحتفال فأشار بالحرف الواحد: " هذا الإحتفال لا يقدّم لنا أيَّ قيم ديمقراطية، بل تستغلّه جماعات متطرفة موغلة في الحقد المجّاني، ومدينة غرناطة لم يتمّ استرجاعها أبداً، بل تمّ تسليمها في أجواء سلمية للملكيْن الكاثولكييْن، والاتفاقيات التي أبرمت خلال هذا التسليم بين الطرفين لم تُحترم ولم تُطبّق أبداً" وتمّ خرقها منذ البداية .وكانت قد تعالت أصوات مناهضة لهذه الاحتفالات وتمّت تلاوة بيان مفاده أنّ: "هؤلاء الذين أُبْعِدوا وطُردوا وأُخرِجُوا من ديارهم في هذا التاريخ وبعده لم يكونوا عرباً أو أمازيغ، بل كانوا غرناطيين مثلنا.. إننا لم نأت لإضرام الضغائن، وتأجيج الأحقاد حيال التاريخ بل لنعترف، ونعالج جروح الماضي بيننا لإقامة مزيدٍ من التقارب، والتفاهم، والتثاقف، والتحاور، نريد أن نقرأ التاريخ ونستخرج منه العناصر الصالحة لنا جميعاً".
أنطونيُو غَالاَ وضياع غرناطة
يرى الكاتب والشاعر والرّوائي الإسباني المعروف "أنطونيو غالا": "إنّه في مرحلة بداية إراقة الدّم في إسبانيا؛ أي في نفس يوم 2 يناير من عام 1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكيْن فرناندو وإيسابيل من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبي عبد الله الصّغير، أصبحت إسبانيا فقيرة، ومنعزلة، وهرمة لمدّة قرون، بعد أن أفلت شمس الحضارات السّامية العربية فيها، عندئذٍ انتهى عصرُ العِلم، والحِكمة، والفنون، والثقافة الرّفيعة، والذّوق، والتهذيب، وتمّ مزج كلّ ما هو قوطي وروماني بالمعارف العربية البليغة، وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر، ممّا جعل الاسبانَ يسبقون عصرَ النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير 1492 انتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع، وخبَا ذاك الشّعاع، وتداعت إدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب والبربر فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة، ومغمومة، ومخذولة ".
ابكِ مُلكاً مُضَاعاً
ويذكّر "غالا" في هذا القبيل أن : "مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة مدينة الزّهراء التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلّد، وقد أحرقها (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكانٍ يُسمّى باب الرّملة بمدينة غرناطة، (ما زالت هذه الساحة تحمل الاسم العربي القديم) فاختفت العديد من الوثائق، والمخطوطات، والمظانّ، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماءُ أجلاّء في مختلف فروع المعارف في الأندلس ". ويُقال إنّ الجنود الذين كُلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذّهب والفضّة، آية في الرّونق والبهاء، ويا لعجائب المُصادفات وغرائب المتناقضات؛ ففي المدينة نفسها التي نُقل إليها ما تبقّى هذه الذّخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) نجت من الحرق، وهي مدينة "قلعة النهر" (ألكَالاَ دِي إيناريسْ)، وتمّ إيداعها في الجامعة نفسها التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسُه بها، وفي هذه المدينة سيولد في ما بعد الكاتبُ الإسبانيّ العالميّ "ميغيل دي سيرفانتيس"، صاحب رواية "دون كيشوت" الشّهيرة المُستوحاة في غالبيتها من التراث العربي، كما يؤكّد معظم الدّارسين الثقات في هذا القبيل.ويشير "غالا" أنّ أبا عبد الله الصغير قد أصبح في عيون الباحثين والمؤرّخين والناس مُخادعاً، مُتخاذلاً جباناً، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذلّ فتقول: "وافق السلطان أبو عبد الله الصّغير على شروط التسليم، ولم يكن في مقدوره إلاّ أن يوافق، وتنازل عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلمّا مرّ موكبُ الملكيْن الكاثوليكيْين (فيرناندو وإسابيل) تقدّم فسلّم لهما مفاتيحَ المدينة، ثم لوى عنانَ جواده مولياً، ووقف من بعيد يودّع مُلكاً ذهب، ومجداً ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه".وكانت كلمات أمّه خيرَ ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: "ابكِ مثلَ النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرّجال"!، وما زالت الرّبوة، أو الهضبة أو الأكمة التي ألقى منها آخرَ نظرةٍ على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تُسمّى باسمه حتى اليوم Suspiro del Moro..!.
أبو عبد الله الصّغير مُنقذ قصر الحمراء!
الكاتبة الإسبانية "ماغدالينا لاَسَالاَ" ترى من جهتها أنّ "أبا عبد الله الصّغير على العكس من ذلك كان رجلاً شجاعاً، كان بمثابة الحَجرة الأخيرة في طريق كان لابدّ له أن يتلاشى. كان يعلم بأنه يمثل نهاية حقبة، وبأنه لا يستطيع منافسة أو مواجهة تقدّم الإعدادات العسكرية القشتالية الهائلة. كان يعلم أنّ أيامه معدودة و كان يدرك تمام الإدراك، ويعي تمام الوعي كيف كان فرناندو الكاثوليكي الأراغوني لا يقف شيء أو عائق في طريقه، فقد أخضع في جميع غزواته السابقة مختلف المدن التي مرّ بها بعد حصارات دمويّة طويلة ،ولهذا فإن تسليمه للمدينة يُعتبر إنقاذاً لها ولمعلمة الحمراء.إذ إنه لو لم يكن قد سلّم مفاتيح المدينة للملكيْن الكاثوليكيْين لاقتحمت جيوشُهما القصور، ولمَا كان اليوم في وقتنا الحاضر وجود للحمراء".
محاكم التفتيش الفظيعة
ويؤكد " غالا" : بعد الملوك الكاثوليك الذين تمّ الاحتفال بهم وباستلامهم لمدينة غرناطة، جاءت محاكم التفتيش الفظيعة في أعقاب ما سمّي ب: "حروب الاسترداد" التي كانت في الواقع حروباً للاستعباد والاستبداد، والتي تركت جروحاً عميقة في الجسم الاسباني (وهذه الجروح لم تلتئم حتى اليوم). فإسبانيا ظلت هي ذَنَب أوروبا غير المسلوخ، هي أوروبا كذلك ولكن بطريقة أخرى، فهناك جبال البرانس التي توصد الأبواب بيننا وبين العالم الأوربي، وهناك البحر الأبيض المتوسّط من الأسفل، فإسبانيا وكأنها تشكل قدراً جغرافياً، وهي ممرّ أوروبا نحو إفريقيا.ولإسبانيا اليوم سفارتان كبيرتان ينبغي لها أن توليهما أهمية خاصّة، وهما العالم العربي، والعالم الأمريكي. فقد أورثها التاريخ هذه المهمّة الصعبة، وهي (أي إسبانيا) إذا لم تضطلع بهذا الدور، فإنما تخون نفسَها وتخون شعبَها والتاريخ"..
أجمل المعاني والأشياء
يشير أنطونيو غالا : أنه خلال قراءاته المتنوّعة العديدة، أو عند كتابته لأيّ مؤلّف جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كلّ يوم حقائق مثيرة تدعو إلى التفكير والتأمّل والإعجاب حقاً. "فأجمل المعاني والأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية الإسلامية، بل إنّ أجمل المهن وأغربها وأدقّها وأروعها، وكذلك ميادين تنظيم الادارة، والجيوش، والفلاحة، والملاحة، والطبّ، والاقتصاد، والعمارة، والبستنة، والريّ، وتصنيف الألوان، والأحجار الكريمة، والمهن المتواضعة، كلّ هذه الاشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية وحضارتها، وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الاعتباط، فالعرب والبربر أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، وظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم، وطردهم من شبه الجزيرة الأيبيرية، فكيف يمكن للمرء أن يُحارب نفسَه؟ ذلك أن هذه الحضارة المتألقة كانت قد تغلغلت في روح كلّ إسباني، فبدون هذه الحضارة لا يمكن فهم إسبانيا، بل لا يمكننا أن نفهم حتى اللغة الإسبانية ذاتها."
حضارة أبهرت العالم
يقول "غالا ": "إن الذي حدث في إسبانيا ليس اكتشافاً أو استعمارً مثلما هو عليه الشأن في أمريكا، فالذي حدث هنا كان فتحاً ثقافياً جليّاً، إنه شيء يشبه المعجزة التي تبعث على الإعجاب والانبهار اللذين يغشيان المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب والبربر إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي الفوّاح الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين والإغريق، وصل العرب بذلك العطر الشرقي والبيزنطي، ووجدوا في الأندلس ذلك العطر الرّوماني حيث نتج فيما بعد أو تفتّق وانبثق عطر أو سحر جديد من جرّاء الاختلاط، والتجانس، والتنوّع، والتمازج الذى أبهر العالمَ المعروف في ذلك الإبّان ".
ويضيف "غالا": "هنا يكمن الفرق بين الذي ينبغي لنا أن نضعه في الحسبان للإجابة عن ذلك التساؤل الدائم: لماذا لم تلتئم القروح، ولم تندمل الجروح بعد في أمريكا اللاتينية حتى اليوم؟" ويتعجّب "أنطونيو غالا" من إسبانيا اليوم "التي تقف في وجه كل ما هو أجنبي وتنبذه وتصدّه؛ فالشعب الاسباني تجري في عروقه مختلف الدّماء والسّلالات، والأجناس، والأعراق، والاثنيات، ومع ذلك ما زالت إسبانيا تظهر اليوم بمظهر العنصرية وتدّعي أنّها براء من أيّ دم أجنبي".
ويشير "غالا"، بسخرية مبطّنة لاذعة، إلى أنّ "أيّ إسباني من مملكة قشتالة لم يكن في مقدوره أن يقوم بأيّ أعمال يدوية بارعة، كما لم يكن في إمكانه زراعة الأرض مترامية الأطراف أمامه بحنكة ومهارة، وهذا هو السّبب الذي أدّى أو أفضى إلى اكتشاف أمريكا، أو ما سُمّي فيما بعد بالعالم الجديد. فجميع هؤلاء الذين لم يكونوا يحبّون القيام بأيّ عمل كان عليهم أن يذهبوا وينتشروا في الأرض مكتشفين، وكان الاسبانيّون شعباً محارباً، فهم يتدرّبون منذ ثمانمائة سنة، وكانوا باستمرار ينتظرون ويتحيّنون الفرصة المواتية للانقضاض على الغنائم بعد هذه الحروب الطويلة الضروس، ومن هنا ذهبوا بحثاً عن أرض بِكر تعجّ بالغنىَ، والثراء، والثروات، وكانت هذه الأرض هي أمريكا".ويرى "أنطونيو غالا" أنّ إسبانيا في البلدان التي "غزتها" اتّسمت بالعنف، والتنكيل، والجبروت، والقهر والغِلظة، ولم تعتبر الشعوب فيها شعوباً مسيحية بالمعنى الصحيح للكلمة، وقد نزعت عن هذه الديانة كلَّ صفةٍ للرّحمة والرّأفة والشّفقة، وهكذا "أصبحت الكاثوليكية اليوم في هذه الأصقاع النائية من العالم أبعدَ ما تكون عن رسالة السّيد المسيح".
الأندلس هل هو فِرْدَوْسُ مَفْقُود..؟!
هل يحقّ لنا ويجوز- والحالة هذه – أن نسمّي (الأندلس) "بالفردوس المفقود"!؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا، بل إنّه هنا موجود، حاضر الكيان، قائم الذات، إنّه هنا بسِيَرِه وأسواره، وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره، إنّه هنا بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنّه هنا في البريق المشعّ، في المدائن، والضّيع، والوديان، في اللغة والشّعر، والعلم والأدب، في لهجة القرويّ النّائي، والفلاّح المغمور، إنّه هنا في الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ، وإخوانَهم الأمازيغ الصّناديد الأحرار الذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام في أوروبّا دهرئذٍ، إنّه هنا في النّخوة، والإباء، والحزازات القديمة، التي ما تزال تفعل في ذويها فعلَ العُجْب !
الأندلس.. أيُّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا؟ أيّ سحر أنت تائه في طيّات الألسن، ومخادع القلوب؟ يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأماراتُ السُّؤْل، كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت سنابكُ خيولهم المُسوّمة بقيادة طارق أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر، وأن تُقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية ازدهاراً وتألّقا، وسطوعاً، وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف في ذلك الإبّان؟
يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ، أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟ وتزداد حيرتُهم، ويتفاقم ذهولُهم، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى في إيوانه؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح، ووطأة السلاح، وثقل الصّفاح؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً، عتاةً، جفاةً، كما وُهِموا، بل إنهم مُبشّرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً، ثمّ سرعان ما خبت الضّياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة في عقدٍ من جُمان، مُرصّعة في جيد الزّمان، كيف وهنت قلادُتها؟ وتناثرت حبّاتُها، وانفرط عقدُها؟ وتحوّلت إلى عَبَرات حرّى تبكي العهدَ والجدَّ والدار؟!
هكذا كانت البداية ثمّ أفلتت الشمسُ بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق، ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشعّ قويّ نفّاّذ، تراه في هذه الأعين النّجل، والحواجب المُزجّجة ذات الملامح العربية والأمازيغيّة الأصيلة، والمولّدة، والقسَمات الدقيقة، التي تحملك في رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية.
الشاعران ابن زمرك ولوركا والمؤرّخ إيبانييز
شاعر الحمراء ابن زُمْرُك العاشق، الهائم، والمتيّم في الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس، وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس، وعمران الأندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور، وحصون الأندلس، خطّ على حاشية مرمر مسنون، وذهب موضون ببهو الأسود هذه الأبيات التي يقول فيها:
يذوب لجين سال بين جواهر / غدا مثله في الحُسْن أبيضَ صافيَا
تشابه جار للعيون بجامد / فلم ندر أيّاً منهما كان جاريَا
ألم تر أنّ الماءَ يجرى بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المجاريَا
كمثل محبٍّ فاضَ بالدّمع جفنُه / وغيض ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا
قال الشاعر "فيدريكو غارسيا لوركا": "بضياع الأندلس ضاعت حضارة رائعة، لا نظير لها، ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة، لا مثيل لكلّ ذلك في العالم أجمع".وقال "بلاسكو إبانييز": "كانت الأندلس في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بحرية تامّة ومن غير تعصّب، وعندما كانت دول أوروبا تتطاحن، وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون في سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة، فزاد سكان البلاد، وارتقى فيها الفنّ، وازدهرت العلوم، وأسّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّة سوداء، وكانت شعوبها تعيش في أحقر المنازل والأكواخ".
**********************************
* كاتب ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.