لقد شكل النسق السياسي المغربي مختبرا لعدة نظريات في عدة حقول معرفية ، وخاصة بعد استقلال البلاد السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك لاعتباره من طرف الباحثين نموذجا ملائما لاختبار عدة نظريات انتربولوجية وسوسيولوجية تم بناؤها خصيصا لدراسة المجتمعات غير الغربية أو الماقبل دولتية بمعنى ما، إنها تلك المجتمعات "القبلية " التي كانت موضوعا للأنتربولوجيا منذ ولادتها في أحضان الاستعمار، لدراسة الآخر "البدائي" أو الماقبل رأسمالي... ومن النظريات الانتربولوجية المشهورة في هذا الباب، نجد النظرية الإنقسامية والتي حاول الباحث الامريكي جون واتربوري تطبيقها في دراسته لسلوك وثقافة النخبة السياسية المغربية غداة الاستقلال . وتعتبر هذه النظرية من النماذج التفسيرية الأكثر تماسكا منطقيا ، عندما يتعلق الأمر بفهم المجتمعات "القبلية " عموما ، إلا أن فعاليتها العملية تبقى موضع نقاش. وبه نتساءل: ما الخصائص العامة للنظرية الانقسامية ؟ وما أصولها ؟ وما هو تصور جون واتربوري حول المجتمع والنظام السياسي المغربيان ؟ تعود النظرية الانقسامية تاريخيا الى "عصبية " " ابن خلدون "، و تنظيرا إلى السوسيولوجي الفرنسي "إميل دوركايم" ، فقد تحدث مؤسس علم الاجتماع في كتابه " تقسيم العمل الاجتماعي" حول ما سمّاه " بالتضامن العضوي" الذي يسود المجتمعات التراتبية أي الطبقية أو الغربية عموما ، و" التضامن الالي" ، وهو الذي يميز المجتمعات المساواتية ، حيث يغيب تقسيم العمل وتنعدم التراتبية الاجتماعية، وحيث التماسك الاجتماعي ينتج عن "التشابه " و"الإختلاف"، لأن تشابه " القسمات" الإجتماعية يجعلها تتحد بينما اختلافها يجعلها تحافظ على استقلالها وعدم ذوبان بعضها في بعض.والأهم هنا هو أن دوركايم يعتبر أول من تحدث عن المجتمعات الانقسامية لما كان يصف نمط التضامن الاجتماعي لبعض القبائل الجزائرية محددا إياه كمقابل ليس " تاريخي" فقط، بل " ووجودي" للمجتمع الفرنسي والغربي عموما ، حيث الفردانية والليبرالية والرأسماية توجد في شكلها الأنضج. وبعد ذلك سيحاول الأنتربولوجي البريطاني "ايفانس بيرتشارد " تطبيق هذا النموذج النظري لتفسير أسس استقرار المجتمع القبلي النويري بالسودان وقبائل برقة الليبية.لقد أصبح التساؤل المطروح بكل بساطة هو : كيف تضمن المجتمعات الماقبل دولتية ، أو التي تغيب فيها سلطة مركزية الاستقرار وإعادة انتاجها لذاتها ؟؟ يجيبنا بيرتشارد من خلال خلاصاته ، أن هذه المجتمعات تخضع لما سماه بآليتي " الإنشطار والإنصهار" ، وهي تسمية جديدة لما عناه دوركايم بالتشابه والتباين والذي يعود إلى الانجليزي "سبنسر" وحديثه عن "التجانس واللاتجانس" بين أعضاء الخلية الحية التي شبّه المجتمع بها.إن آلية الانصهار تخضع لأسطورة "الجد المشترك" ،وهذا يعني أن المجتمع الانقسامي هو مجتمع " نَسبي"، أي أن رابطة الدم تشكل الأساس الأول للتضامن الاجتماعي، بينما يؤدي التوتر والصراع المستمر إلى الإنشطار بما هو بحث دائم عن الاستقلال. فضلا على أنه تعبير عن الصراع حول السلطة والنفوذ والموارد. يتشكل المجتمع الانقسامي حسب رواد هذه النظرية من عدة " قسمات" ، أي جماعات اجتماعية تشبه الدوائر الداخلة في بعضها البعض من أصغر وحدة، والتي تمثل الفرد، إلى أكبرها والتي تمثل "القبيلة" ، وهي أرقى تنظيم اجتماعي وسياسي يعرفه هؤلاء "القبليون أو البدويون"، وهنا نلاحظ ارتباط الانقسامية بالمجالات القروية أساسا . أما " اللف" فهو مجرد تحالف مؤقت بين القبائل لمّا تتعرض لتهديد حيث يتلاشى في غيابه.إن الصراع على مستوى أدنى إذن لا يمنع من تحوله الى تحالف على مستوى أعلى. وهكذا داخل نسق انقسامي ما ، لا يمنع النزاع بين عشيرتين داخل نفس القبيلة من تحالفهما لمواجهة تهديد قبيلة مجاورة ، ولعل أحسن ما تلخص به الانقسامية هو المثل العربي الذي يقول " أنا ضد أخي ،أنا وأخي ضد ابن عمي، أنا وأخي وابن عمي ضد العالم الخارجي". وما فتئت النظرية الانقسامية أن وصلت إلى المغرب، حيث عمل الباحث الانجليزي "إرنست كلنر" في منتصف الخمسينات على تجريب ذلك النموذج في دراسته حول " صلحاء الأطلس"، وحيث سيتوصل إلى خلاصات مؤيدة ومطورة لما توصل إليه سلفه من الانقساميين.إن المجتمع الانقسامي بنيويا والهامشي مجاليا ، وحيث يغيب تقسيم العمل ، وتسود إيديولوجية " الجد المشترك"، يحافظ على الأمن والاستقرار بل ويعيد إنتاج نفسه حسب غلنر عبر ما سمّاه " توازن الرعب أو العنف" القائم بين القسمات ، مما يؤدي إلى استحالة " احتكار العنف" من طرف جهة ما تفرض سيطرتها على الجميع، والنتيجة هي استحالة التحول الى دولة مركزية !!! ما دمنا نفترض بأن هذا النسق يتواجد خارج التاريخ ومفعولاته. وما دام العنف لا يُخضع إلا الأجساد ، فإخضاع العقول والقلوب للتوازنات المفروضة يقتضي وجود آلية للتحكيم ، خاصة إذا ارتبطت بوظيفة "رمزية " شبه "مقدسة " أدّاها ، " أولياء الله " و "الصلحاء" ،وخاصة منهم ذوو النسب الشريف وأصحاب "البركة ". هذا عن البنية الاجتماعية القبلية في المغرب كما تراها الانتربولوجيا الانقسامية، فماذا عن النسق السياسي؟؟ لإعداد أطروحته في العلوم السياسية ، قضى الباحث الامريكي جون واتربوري سنتان بالمغرب في منتصف الستينات من القرن العشرين ، وتعتبر تلك الفترة حاسمة في تاريخ المغرب الراهن على مستوى بناء أسس الدولة من جهة ، وتموقع النخب السياسية الموروثة عن الماضي وتلك التي تزامن ظهورها مع الاستقلال ضمن مواقع الحقل السياسي المتاحة لها حسب توازنات النسق من جهة أخرى. وبالعودة للفصل الثالث المعنون ب " السياق الاجتماعي" من الباب الثاني المعنون ب"محاولة في التأويل في كتابه " أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية المغربية"، نجد بأن الباحث يقدم نظريته المستلهمة من النموذج الإنقسامي الذي أشاد به ، بل واعتبر أن حالة المغرب تعتبر نموذجية للدراسة والتعميم على مجتمعات مشابهة. بنيويا، يتشكل المجتمع المغربي حسب واتربوري من ثلاث" فصائل انقسامية أساسية ، وذلك طبقا لانتمائها إما لقبيلة ما أو لدين ما أو لمجال جغرافي كالقرية أوالمدينة أو الحي . ويتجاوز واتربوري مقولة المخزن / السيبا... وباقي المقولات الثنائية العزيزة على قلوب الكولونياليين بمختلف تخصصاتهم، وذلك لتواجد حماة للقبائل داخل القصر نفسه ، يعتبرون أداة إدماج لتلك القبائل ضمن إطار اللعبة السياسية وصراع المصالح. كما يلعب الدين ضمن هذا النسق دورا محوريا ، فهو مشرعن ومبرر للسياسات ، وبه يحتل العلماء وصلحاء الزوايا والشرفاء موقعا مهما ضمن النسق السياسي والاجتماعي عموما.وما دام المجتمع المغربي انقساميا ، فالصراع لا يحدث بين العشائر فحسب ، بل قد يحدث بين مدن أو بين أحياء داخل نفس المدينة، بل وحتى داخل نفس الاسرة ، وهذا ما يفسر الانشقاق الأول في " كتلة العمل الوطني" !!! وإضافة إلى هذه الفئات التي اعتبرها الباحث أساسية يتحدث عن "الفئات المختلطة " ، وهي الجماعات التي توحدها أهداف مادية ، وبه قد تكون جماعة في إطار علاقة الولاء ضمن "عصبية قروية" تدافع عن حقوق خاصة بالرعي أو الماء أو " سلالة سوسية " تنافس تجاريا في مدينة ما... إنها فئة اتباع بناء على مصلحة ما وهي قليلة العدد. أما الفئة الثالثة فهي " الفئات ذات المصالح المتآلفة " كالأحزاب والنقابات ، إنها فئات أتباع نتاج لتأثير ثقافة الأجنبي ،امتلكت سلاحه لمقاومته به من جهة، ثم التنافس من خلالها على الحكم والموارد من جهة أخرى. إن الأهم هنا هو أنه ما من فئة من فئات الاتباع السابق ذكرها تحدد أهدافها على أساس طبقي أو إيديولوجي ، إذ رغم ادعاء النقابات عكس ذلك فقادتها من الميسورين. أما وظيفيا، أي دراسة ووصف سلوك المغاربة السياسي سواء كأفراد حاكمين أو محكومين ، أو كجماعات منظمة ، أي كأحزاب أو كنخب سياسية بمعنى عام ، فواتربوري يستخلص بأن المغاربة غالبا ما يتبنون سلوكا دفاعيا ما دام أن الحكم لا يُتصّور إلا كأداة للمحافظة والمدافعة والوقاية ضد الآخرين. وبه فسواء تمت على أساس القرابة أو على أساس أهداف بعيدة، تهدف التحالفات إلى الدفاع الحذر الواعي بنسبية كل انتصار أو صداقة أو عداوة ، وذلك لأن كل شيء مؤقت وظرفي، وبه يؤكد انشقاق حزب الاستقلال سنة 1959 أن المغاربة لا يتصرفون كأفراد أحرار بل هم " جماعيون" ، إذ رغم إمكانية الانتماء الحر للفئات، إلا أن هذه الحرية تسهل ظهور الحيل والدسائس كفن مغربي في الحياة السياسية، مثل استخدام الديون التجارية في الصراع السياسي.كما يدل تأسيس " الفديك" سنة 1963 لحصد أغلبية موالية للعرش حسب واتربوري على هيمنة السلوك التقليدي في المجالين الاجتماعي والسياسي، وذلك رغم مظاهر التحديث والعصرنة المتمثلة في وجود الاحزاب والنقابات. إن المغاربة يلتحقون بهذه التنظيمات "الحداثية" ، التحاق الأتباع "بالأمغار" !!! كما أن اختيارات الأفراد السياسية غالبا ما تكون أبوية. وهو ما حول الاحزاب السياسية إلى وضعية عجز مزمن عن المبادرة ، خاصة أنها" تتفرق لكي لا تحكم"، وهو الوضع الذي يعمل الملك بوصفه أميرا للمؤمنين ، يتموقع فوق الأحزاب و يتعالى على المصالح ،على إدامته والحفاظ عليه وضمان إعادة إنتاجه. إن الملك وعبر آلية "التحكيم" يمثل دور حكم مبارة كرة القدم !!! والذي يستغل سلطته وصلاحياته لكي يحول دون تحول التوتر الملازم للنسق الى تهديد بانفجاره ، وبه تعمل الملكية على ضمان استقرار النسق من جهة، وإعادة انتاجه لنفسه من جهة أخرى. وختاما فإن "الثبات والسكون" الذي يسم النسق السياسي المغربي يتضمن "التوتر والصراع" على الموارد وعلى السلطة والنفوذ، ويستدمجه في إطار سيرورة إعادة الانتاج المتعالية على التاريخ وهي الخاصية التي تتصف بها "القبيلة" كتنظيم اجتماعي وكثقافة.وتوضيحا لفرضيته أكثر يؤكد جون واتربوري في طبعة الكتاب الفرنسية المنقحة ،أن النخب السياسية المغربية تتشابه تصرفاتها السياسية مع سلوكات القبائل ضمن النسق القبل دولتي في أربعة عناصر أساسية ، فهوية كل فرد تتحدد تبعا لوضعيته ضمن جماعة ما، وبه تبعية الهوية للوضعية من جهة، وغياب مفهوم "الفرد" من جهة أخرى. ونتيجة لذلك فأنه لا صداقة ولا عداوة دائمة ، وبه تتعدد التحالفات حسب تغير الأوضاع ، فرجل السياسة المغربي مهيأ لكل الاحتمالات ، وأخيرا فالسلوكات المتهورة والمغامرة وبال على صاحبها ، والدفاع هو الاكثر معقولية ، وتجدر الاشارة إلى أن هذا التدقيق لأوجه الشبه بين النخب السياسية المغربية والقبائل الانقسامية قد دقق به الباحث تصوره الذي قال بأنه أُسيء فهمه ، لذلك استغل ترجمته إلى الفرنسية ليعلق على انقلابي السبعينات ويدقق بعض الأفكار. وفي الأخير نشير إلى أن قيمة أطروحة جون واتربوري تكمن أساسا في مساعدتنا على فهم آليات اشتغال النسق السياسي لمغرب الستينات ، وخاصة وصف وتفسير سلوك النخبة السياسية الحضرية ، أي الأحزاب، في علاقتها ببعضها من جهة وفي علاقتها بالملكية وبأمير المؤمنين من جهة أخرى. إضافة إلى مكانة هذا الأخير ووظيفته في المحافظة على استقرار واستمرارية النظام السياسي ، وبه عدم تحول التوتر الملازم له إلى انفجار يهدد بقاءه.