شباب رأوا فيه قائدا جديدا إلى زمن عجيب، وشيوخ وأرامل ضمنوا رحلة الشرف الأخيرة إلى النور المتفجر، خلفه يحملون رايات بيضاء ومن لم يجدها حملها صفراء ومن لم يجد رفع يداه، كأنهم خلف نوح جديد سيرحل بهم من أرض الخطيئة إلى أرض الطمأنينة. سنفترض أن يلّنور( أو إل النّور الهسكوري) باسمه هذا الذي حمله معه بلا ذكريات أو ماض، غادر قريته الصغيرة غير مُلتفتٍ إليها بعد محنة شخصية فَقدَ فيها أمه أو كافة أهله، وذلك حوالي سنة 1073م، بعدما كان راعيا في محيط تلك القبائل التي اختلف المتحدثون عنه، حولها، بين هسكورة وهزميرة وأغمات في المرحلة الأولى التي امتدّت لست وعشرين سنة ، امتهن فيها الرعيَ حوالي عشرين سنة. ثم ترك كل شيء، وقد صار شابّا ناضجا بقامته الطويلة وجسمه النحيل والضارب في سواد مثل ليل النّاير الماطر، راميا خطوته والواسعة إلى مرحلة ثانية، ولعله أدرك أمرا في نفسه فأخفاه وساح على وجهه لا يرى بشرا أو يعمل عند أحد، غير مبتعدٍ عن مجاله الجغرافي. اختار صعود الجبال المُطلة على تمليل قرب دمنات لعشرين عاما سائحا لا يأوي إلى معمور ولا أحد يعرفه. فَتَلَ من الدوم لباسه الذي بدا مثل حصيرة، وعلى رأسه شاشية من عزف، وبات معروفا بلغة أمازيغ تلك المنطقة بكنية أبو وگرتيل، أو بوگرتيل أو بوجرتيلة، أي بوحصيرة،وهو اسم من لا يعرفون له اسما أو من لا يخالطهم وليس له عندهم تقدير. واستعاض عن الأكل المعلوم لدى الجميع بتناول الجُمار ونبات الأرض؛ وكانت الأسُود والطيور تأوي إليه في سياحته، وتتآنس بمجاورته. وقد عرف المغرب، في ذلك الزمن ولاحقا شخصيات في المجتمع السفلي باسم "السايح" و"المجدوب" و"الهداوي" و"العيساوي"، وجميعها صفات للرجل الذي ترى فيه العامة إنسانا هائما على وجهه، لا يقربونه وربما يتبركون منه، لا مأوى له، ويُطعمُ نفسه مما يجده في الأرض. عشرون عاما قضاها يتأمل في كل الاتجاهات من شرفة نفسه المتحررة، فتحوَّل إلى خبير في النباتات الصالحة للأكل والمداواة، كما عايش الحشرات والحيوانات وبات صديقا للطبيعة بنباتها وأشجارها وطيورها وحشراتها وحيواناتها المفترسة مُدركا لطبائعها ومفاتيح تطويعها وترويضها. عاش، كل هذه الفترة خفيا في باطنه، متحدثا إلى عقله ونفسه وروحه، يمتحنهم جميعا، وفي آن، بالاحتجاب والوحدة والزهد والتأمل، كأنها خلوة طويلة للانتصار على الأوهام والرغبات العالقة في أهداب الزمن، لبلوغ تلك المعرفة الأولية المُصفّاة؛ فأدرك علم فن العيش من فهم سر الطبيعة وسر ذاته، ثم سر المجتمع في تلك اللحظات الجريحة والمنتشية في آن. قرر – كما رَوى عنه من كان قريبا منه – الانحدارَ إلى المرحلة الثالثة، عام ثلاثة وتسعين وألف للميلاد، وهو في السادسة والأربعين من عمره تقريبا، وهي الاختبار الأصعب، لأن الذات فيها لن تكون أمام ذاتها والطبيعة فقط، ولكنها وسط شيوخ لهم مقاماتهم وأحوالهم وأسانيدهم وحكاياتهم، بل لهم منطق انتظم بعنف الواقع الحرون الذي لن يجد المرء من سبيل لعبوره سوى الخيال في أعلى مستوياته أو أدناها. كانت جروح تامسنا المصمودية ما زالت حيّة يُسمع أنينها ومروياتها الطريّة عن مشاهد القيّامة التي لم تشهدها من قبل أو من بعد، فاختار الطواف في أطرافها، في أرض الأسُود والأولياء وشجعان بورغواطة الذين كان صدى أحلامهم يترقرق بلا توقف. في هذا الفضاء التامسي الممتد على الساحل الأطلسي، سيقيم سائحا ثمان عشرة سنة "خدم فيها أربعين وليا". انتقل يلّنور من الجبل في الحدود الجنوبية لتامسنا، من الصمت والوحدة والتأمل إلى الساحل والسهل وسط تامسنا للخدمة والتربية والتعلم والتجربة، مع رجال صلحاء متفردين ومختلفين يختبرون يوميا نواياهم الغائبة في المطلق على أرض كأنها العنقاء. أربعون وليا في تامسنا ودكالة راعيا وخادما لهم بتفان، وفي نفس الوقت ناسكا وزاهدا. وكما اكتسب في كل مرحلة وسيلة ووظيفة وطريقا، فقد دخل في هذه المرحلة بحرا يفركُ فيه ذاته حبّة حبّة كأنها سُبحة من حبّات سوداء لامعة ولامحدودة من جهة، ويتعلم وسائل أخرى للإدهاش من جهة أخرى.. حيث كان عصره عصرا منبثقا يبحث عن زمن آخر نورُه تائه في ظلمة ممتدة، وسط صراعات وحروب وتقتيل وفقر ومجاعات. كان الواقع قد تحرّر من حقائقه السريعة واختار الخيال فانزلق نحو التراجيديا التي من شفافيتها لم تعد تُخفي أسماءها الأخرى مثل الخرافة والسحر والدجل وكل أنواع الحيل والكذب والزيف إلى جانب وجود مُصلحين وفقهاء وعلماء وثوار يحملون مشاريعهم الأصيلة والمنسوخة. إلى هذا العالم، هبطَ يلّنور تاركا أبو وجرتيل في الجبل ينظر إلى السماء، وجاء إلى الأرض وناسها فكان عليه التخلي عن اسمه القديم الذي لم يكن من اختياره، ورضيَ باسمه الجديد "بو وَنَلْكوط" الذي نعتوه به بعدما رأوه يأكل من النبات ما يعاف أكله الإنسان والدواب، وواصل طوافه على الأولياء والصلحاء كل واحد بطريقته، فخدمهم جميعا وارتوى من وجوده بالقرب منهم، كما عاش تجاربهم الروحية والدنيوية المختلفة، وربما نفذَ إلى أسرارها وكيفية بناء منطقها. عاش مع من ساحوا ومع من رابطوا بالزاويا، فعاصر أسماء شامخة في عصرها من أمثال: أبو شعيب السارية وأبو ينور عبد الله بن وكريس، وأبو عبد الله أمغار،عبد الجليل بن ويحلان، وأبو الحسن علي بن حرزهم، وأبو العباس السبتي، وأبو مدين شعيب.. والمئات من الأسماء الأخرى التي سجل أسماءها المناقبيون وكُتّاب التراجم. وسيختار في السنوات الأربع الأخيرة من سياحته بالساحل، شيخا له هو أيوب بن سعيد الصنهاجي،الشهير بمولاي بو شعيب السارية، وكان حديث العهد بالاستقرار في أزمور، بعدما وفد إليها من بلاد عبدة، وكان في أول أمره يُعلم الصبيان ببلدة بيلسكاون مجاورا شيخه أبو ينور عبد الله بن وكريس بمشتراية في دكالة، وعبد الجليل بن ويحلان بأغمات ومحمد بن أمغار برباط تيت نفطر والمنصور بن ابراهيم المسطاسي بأزمور. [حاشية: سافر أبو سعيد الصنهاجي( مولاي بو شعيب السارية) إلى فاس والأندلس طلبا للعلم، قبل أن يعتزل بأزمور ويذيع صيته، بحكايات كثيرة ارتبطت بصورته وليا، منها طي المسافات وطرد الأسود بالدعاء. ولم يكن على وئام مع عامل المرابطين بالمنطقة، وحينما حكم الموحدون المغرب، استقدمه عبد المومن الكومي بمراكش سنة 1147م من أجل اختبار نواياه واستنطاقه في شأن مسألة التوحيد، فلم يخش الاختلاف مع عقيدتهم المهدوية وعاد إلى أزمور بعدما أخلى سبيله]. اختار يلّنور "بو وَنَلْكوط" ملازمة شيخه مولاي بوشعيب السارية والتعلم على يديه العلم والعمل مع البسطاء في فضاء أزمور المفتوح على الساحل الأطلسي ونهر أم الربيع، ولم يسجل رواة أخبار (أبي يعزى) من الأربعين وليا إلا شيخه أبو شعيب السارية والذي لم يحفظوا من علاقته معه سوى بحدثين اثنين مختلفين: الأول، حكاية خدمته له، وتقول بأنه كان يخدمُ أبا شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي الزموري السارية، ودخل عليه يوما فرأى على وجهه التغير والقتر، فسأله، فقال له إن زوجته سألته بضرورة استقدام أمَة تخدمها، وليس عنده ما يشتري لها به الأمَة. فقال له: أنا أخدمها على أني لا أراها ولا تراني. فكلم أبو شعيب زوجته التي قبلت الشرط. فكان يلّنور يطحن ويعجن ويكسكس ويسقي الماء بالليل، ويتفرغ بالنهار للعبادة. وبقي على تلك الحال عاما كاملا. وجرى أن تكلّمت زوجة الشيخ مع بعض صُويحباتها من النساء، وقالت لهن: لي مملوكة لا أراها بالنهار أبدا، وكل ما أحتاجه تصنعه لي بالليل، وزوجي إذا مكث ليلا ساعة عندي يخرج ولا أدري أين يغيب. قلن لها: لعله يذهب للأمَة فيُكمل ليلهُ عندها، إذ هي إلا جاريته. فلما أقام أبو شعيب على عادته للقيام، إذ كان يقوم الليل لا ينام منه إلا القليل، فصبرت ساعة، وقالت في نفسها أن تذهب إلى موضع الأمَة، فإن صدَقن ستجده عندها. فلما أطلَّت عليه؛ إذا بها تُبصرُ الرّحى تدور وحدها، ويلّنور (بو وَنَلْكوط) واقفٌ للصلاة دون أن يشعر بها كما أنها لم تر من يكون، فرجعت مذعورة خائفة، ولما عاد الشيخ أبو شعيب أخبرته بما رأت من الرحى ومن المملوكة التي كانت تصلي. فقال لها حينئذ بأنها ليست بمملوكة وإنما هو يلّنور أبو ونلكوط الذي يخدمها. فقالت له: والله لا خدمني أبدًا بعد هذا، ولأخدمنَّ نفسي. فجعلت تخدم نفسها منذئذ. ثم دخل المسجد على يلّنور وهو يبتسم، فقال له يلّنور: ما لك تبتسم؟ فأخبره بما كان بينه وبين زوجته، فقال له : لِمَ أخبرتها؟ هلا تركتني أخدمها، كما كنتُ. أما الحدث الثاني مع شيخه، فبعدما غادره واستقر وذاعت شهرته، سيرسل إليه رسالة يدعو فيها أبا يعزى إلى الكف عن مشف أسرار الناس الخفية. وكانت الحكاية الأولى هي "الجواز" الذي منحه الشيخ لمريده للعبور إلى حياته الجديدة، وقد شاع وتداولته العامة والخاصة في السهول وتادلا وبالرباطات والزوايا. حكاية مهّدت له الطريق للانتقال إلى المرحلة الرابعة من حياته. انتهت مرحلة أدرك بعدها أن أزمور لا تحتمل اثنين يقفان على أرضها، فاستأذن شيخه للرحيل وكان ذلك في بداية ربيع سنة 1111م، وقد بلغ من العمر أربع وستين سنة، وهو في كامل قوته، زاهدا في الأكل مما يأكل غيره،بنفس لباسه وشاشيته، وقد امتلأ تجربةً وخبرةً بالطبيعة والنفس الإنسانية، فسار في اتجاه نهر أم الربيع، وكان قد ذاع صيته بين قبائل تامسنا ودكالة وعبدة وركراكة وأهل فاس وسبتة ومراكش. سار وكأنه يبحث عن نبع النهر الكبير وسر الحياة في مسيرة ستة أيام عبَرَها جُلها في بلاد تامسنا. وفي طريقه، عابرا الدواوير المتناثرة كأنها بقع جروح متبقية على جسد يرفض الانهيار، كان رَكْبُه في مسيرة لم تشهدها المنطقة من قبل، يكبر بالملتحقين من نساء أرامل فقدنَ أزواجهن وأبناءهن في حروب الغادرين، ومن شباب رأوا فيه قائدا جديدا إلى زمن الشغف، ومن شيوخ ضمنوا رحلة الشرف الأخيرة إلى النور المتفجر. في اليوم السابع، دخل بلاد تادلا راكبا حماره وقد تدلت رجلاه حتى لامستا الأرض، وبدا لأتباعه متعجلا وهو ينظر إلى الشمس في كبد السماء كأنها رحى صفراء كبير تدور. يصعد جبلا ثم يهوى منه مُلتفتا إلى صفوف الرجال والنساء خلفه، يهمس لهم بما يسمعونه جهرا يتردد صداه ثلاثيا: * هل من الضروري انتظار الليل لنروي له ما جرى هنا وهناك بالنهار؟ أكبروا وصاحوا كل بما في صدره ثم واصلوا السير خلفه يحملون رايات بيضاء ومن لم يجد حملها صفراء ومن لم يجد رفع زمنه المعلق.سائرون وهم قادمون كأنهم خلف نوح جديد سيرحل بهم من أرض الخطيئة إلى أرض الطمأنينة. وصل جبل إيروكان أو ما عُرف بجبل تاغيا، فجاءت الدواوير القربية بالذبائح وأشعلوا النار وهللوا. يقول الحسن الوزان عن تاغية، بعد ثلاثة قرون من زمن وجود أبي يعزى فيها، إنها"مدينة قديمة بناها الأفارقة بين جبال الأطلس، بردُها قارس وأراضيها الزراعية هزيلة وعرة، والغابات الرائعة المحيطة بها عرين لأسُودٍ كاشرة. لا ينبت القمح في هذه البلاد إلا قليلا، لكن يكثر فيها الماعز والعسل. وهذه المدينة بسيطة جدا مبنية بناءً رديئا دون جير"(ص204 205).ويروي الوزّان، أيضا، في موقع آخر قائلا: "وقد كان أبي يأخذني معه ، من فاس، لزيارة ضريح أبي يعزى ببلدة تاغيا. ولمّا بلغتُ مبلغ الرجال، ذهبتُ إليه مرّات للوفاء بنذور نذرتها عندما تعرضت لخطر الموت بسبب الأسود"(ص162).