ليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها أحمد عصيد جدلا,بخصوص ما يطرحه من أفكار وما يجترحه من آراء,فالرجل ظل عنوانا خلافيا داخل المرجعيات الايديولوجية المغربية بما فيها تلك التي أطرت حضوره الأول كفاعل أمازيغي-أقصد الحركة الثقافية الأمازيغية-,لكن ما تناوله أخيرا في سياق مداخلة له بالندوة التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الانسان حين افتتاح مؤتمرها الأخير,يبقى الحدث الأبرز,لما أثارته المداخلة من نقاشات وما أفرزته من ردود فعل ناقمة,بلغت حد زندقته وتكفيره,ثم التلويح برفع دعاوى قضائية ضده, في مداخلته ,تحدث الأستاذ عصيد عن الكوني والخصوصي,النسبي والمطلق في القيم,جاعلا من ذلك مدخلا للحديث عن كونية حقوق الانسان,هذه التي تشكل منظومة متكاملة,هي أرقى ما انتهى اليه العقل الانساني,ما يستدعي تحصينها والدفاع عنها,وعدم السماح بانتهاكها بدعاوى الخصوصية,حتى ولو كانت خصوصية دينية. وحفزا لتطوير النقاش حول ترسيخ هذه المنظومة الكونية بالمغرب,دعا عصيد الى ضرورة تشجيع فقه اجتهادي يتجاوز الفقه التقليدي الذي يمثل غذاء راجعا للاستبداد,ثم ضرورة مراجعة الايديولوجيا المؤطرة للمنظومة التربوية,هذه المنظومة التي تكرس حسب عصيد فقها يناقض في جوهره قيمة أساسية ,هي قيمة الحرية وضمنها حرية المعتقد,ممثلا لذلك بكتاب الجذع المشترك في مادة الاسلاميات والذي يحوي نصا تهديديا ,ارهابيا'' أسلم تسلم-,ويتساءل عصيد كيف يدرس هذا النص العنيف الذي فرضه زمن انتشار الاسلام بالسيف,في زمن صار فيه المعتقد ,اختيارا حرا''. أشير بدءا الى أني أخالف السيد عصيد في الكثير ممايذهب اليه,ومن ضمن ذلك ما أشار اليه في هذه المداخلة,سواء حين حديثه عن الكوني والخصوصي,وانتصاره للكوني كما يسوق له,حتى وان أتى هذا الكوني على كل الخصوصيات الثقافية والفكرية والدينية,ذلك أني أرى أن هذه الكونية المتغنى بها ليست في حقيقتها سوى خصوصية''تكوننت''انها خصوصية المجتمعات الغربية التي تسوق نمطا خطابيا يستقوي بكل مقومات حضوره الثقافي والاقتصادي ,والتكنولوجي, في سياق عولمي يفرض رؤية أحادية للوجود و للانسان. نعم نتفق على أن عدم احترام حقوق الانسان في البلاد العربية وبينها المغرب هو سبب من أسباب شقائها,ومدخل حقيقي لاستشراء الفساد والاستبداد,لكن ذلك كله لا يعني قبول كل المواثيق الدولية بما فيها تلك التي لاتراعي خصوصياتنا وعلى رأسها خصوصيتنا الدينية,فنحن في مجتمع مسلم,يزن فيه المرء ممارساته وسلوكاته بميزان الدين- أقصد الدين كنص أول,قرآني وحديثي-. وليس بالفهم الذي يذهب اليه عصيد حين يضم الى الدين مدونة فقهية وآراء تشكلت في تاريخ الاستبداد. وهو الفهم الذي سوغ له الخلط بين العالمية والعولمة, فحسب الأستاذ عصيد الاسلام في زمن قوته كان عولميا,هو أيضا سعى الى نشر منظومة قيمية هي أرقى ما وجد في زمنه.لكن الذي غاب عن الأستاذ عصيد هو أن الفرق بين الاسلام وبين النمط القادم من بلاد العم سام, أن اللأول لم يلغ خصوصيات الثقافات التي انفتح عليها,بل جعلها رافدا من روافد تحقق فهومه, ومن ثم كان عالميا,عكس المنظومة التي تقدم نفسها الآن في سياق عولمي,فهي تقسم العالم تقسيما مانويا,معنا,فأنت حر حداثي,,,ضدنا فأنت ارهابي متخلف بربري,,,,,انها نزاعة الى الالغاء والتنميط,محاربة لكل تعدد. ومن النقط التي أشار اليها الاستاذ عصيد,والتي أرى أنه جانبه الصواب فيها, اشارته حين حديثه عن الحرية الى أن الاسلام لم ينتصر لحرية الانسان ,فالعبودية استمرت على امتداد التاريخ الاسلامي,وأنه لم يوجد نص يحرم العبودية بالمطلق.وبالمناسبة هذا الكلام ليس جديدا,فهذه الدعوى عرض لها كثيرون,كما حاول تفنيدها وابراز سقمها كثير من الفقهاء وحتى بعض المشتغلين بنقد االخطاب الديني,ولعل الاشارة الى نصر حامد أبوزيد في هذا السياق تكون أنفع,ففي قراءته الجديدة التي يقترحها للمقاصد الكلية للشريعة,والتي يحصرها في مبادئ ثلاثة رئيسة هي العقلانية والحرية و العدل يؤكد أبو زيد أنه'' لايمكن الاعتراض على كلية مبدأ الحرية'' في النص الاسلامي بالاعتراض السقيم الذي فحواه ان الاسلام لم يلغ العبودية من حيز النظام الاجتماعي ,ومع ذلك فان مناقشة هذا الاعتراض تكشف عن بعد احترام الاسلام لقوانين الواقع والتاريخ وذلك بتجنبه المجازفة بالوثب فوقها وتجاهلها. ان الدين الذي حرم الخمر على ثلاث مراحل تدرجا في التشريع ,والذي نسخ بعض الأحكام واستبدل بها أحكاما أخرى في فترة الوحي لهو دين واقعي انساني يؤكدأن الفعل الالهي اذا تحقق في التاريخ يجري على سنن التاريخ,''الخطاب والتأويل ص 205.ثم يذكر كيف قامت دعوة الاسلام تحرر العبيد بدءا بالمساواة بين العبد والحر في الأحكام, وفي معايير الثواب الأخروي,ثم التخفيف عن العبيد في أحكام العقاب الدنيوي في مجال الحدود بصفة خاصة. مراعاة للضغوط التي يتعرضون لها ,فتجعلهم أقرب الى الوقوع في الخطأ. ناهيك عن فتح الاسلام في كثير من أحكامه باب التحرر , علاوة على جعله الزواج من الأمة المسلمة خيرا من الزواج من الحرة المشركة ,والزواج من العبد المسلم خير من الزواج من الحر المشرك. وينتهي أبوزيد الى أن ''كل هذه التغيرات على مستوى الأحكام ارتبطت بتأكيد نسق للقيمة بفتح الباب للحرية والتحرر من العبودية كما فتحته للتحرر من عصبية الدم والعرق تماما.لكن الأهم من ذلك والأخطر اطلاق الاسلام لمبدأ حرية العقائد وممارستها من جهة ,واطلاق مبدأ حرية الاختيار للانسان الفرد من جهة أخرى,وفوق ذلك كله فقد دشن الاسلام مفهوما للانسانية الحرة الطليقة بأن أعلن رسالته خاتمة الرسالات والكلمة الأخيرة من السماء الى الأرض. وهذا معناه الاقرار بأن الانسانية قد تعدت مرحلة ماقبل النضوج ,التي تتطلب الوصاية الدائمة الى مرحلة الرشد الكاملة.'' المرجع نفسه ص 206. ان المتأمل في الأحكام التي قضى بها الاسلام في اتجاه تحرير العبيد,لا شك يكشف أن الاستراتيجية كانت هي الوصول الى التحرير الكلي,لولا تقاعس الفقه المحنط على الاجتهاد,وانبطاحه لمنطق التسلط,واستعباد الخلق.وفي هذا أشير الى أن دعوة عصيد الى ضرورة تشجيع فقه تجديدي,هي دعوة مشروعة,بل أصيلة حتى بمنطق الدين نفسه, فقه يعيد قراءة النص في ضوء مستجدات واقع متحول,يتعالى على أحداث التاريخ ,تلك التي سيجت مدونة فقهية يراد اعادة انتاجها من جديد,في حركة نكوصية تحكم فقهاء القرون الأولى في كل قضايانا الراهنة,وتجرم كل فعل اجتهادي,وتبدع أهله.- طبعا مع الاشارة الى أن الاجتهاد ليس بابا مشرعا للكل يخوض فيه بما شاء وكيف شاء,بلا معرفة ولا حجة فصل'', أما عن ''أسلم تسلم''وهي الفكرة التي أثارت كل هذا اللغط,واستدعت تحفز الكثيرين لشحذ سيوف الترهيب والتكفير,فأشير بدءا الى أن كلمات عصيد حملت أكثر مما تحمله,فأنا أرى أن ما أشار اليه عصيد,كذلك ليس جديدا فدعوى أن الاسلام نشر بالسيف'هي دعوى قديمة اجتهدت كل النصوص المتناولة للدين الاسلامي قراءة ونقدا في دحضها,بل وبيان تهافتها,فهي لا ترتكز الا على اثنين جهل بين,أو حقد دفين, وما دمت لا أميل الى تفتيش النوايا فاني سأعاملها على أساس أنها رأي جانبه الصواب,وكم وددت لو أن كل الذين ردوا على عصيد,حتى وان كانوا يحملون له قليل ود,تعاملوا معها كذلك- رأي جانبه الصواب-,ذلك أن السير في اتجاه زندقة الرجل والتحريض عليه,لن يعود الا بضرر علينا جميعا, سيزيد في تعميق الشرخ بين فرقاء هذا البلد,في وقت هم في أمس الحاجة الى التقارب ووضع كل الخلافات على الطاولة واعمال منطق الحوار.,تفويتا الفرصة على المتربصين بوحدة الصف الرافض للفساد والداعي الى اسقاط الاستبداد.ناهيك عن كون الاستمرار في اتجاه التحريض قد يدفع الى اشاعة ثقافة هي غريبة على المجتمع المغربي,فنحن لانرغب في تكرار فرج فودة ثانية. وأنا أقرأ كل الردود التي أعقبت تصريحات عصيد,وجدت أن أغلب الذين انتقدوه, سواء على صفحات الجرائد الالكترونية أو عبرمواقع التواصل الاجتماعي, لم يعودوا الى مداخلته -وهي موجودة على اليوتوب-,فأغلبهم أخذ بحماسة الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم, من خلال ما تلقفته أذنه من انتقادات للرجل دون أن يكلف نفسه عناء العودة الى المداخلة,وهو أمر خطير في حقيقته اذ انه يترجم سيادة ثقافة السماع التي تتغذى على فرض الكفاية- استمع اليها الشيخ فلان ,ذاك يكفي فهو مصدق عندنا في كل مايقول-. وهي ثقافة عربية بامتياز,في المشرق كما في المغرب,يتساوى فيها الاسلاميون والحداثيون. فرغم ترديد الكل لمقولة أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره,وتصوره لا يكون الا بمعرفته,تجد الجميع ينتصر لمقولة'' انا سمعنا''ويحاجج بها,بل وينتهي الى اغتيال الآخر رمزيا من خلالها,,,, لن أعود الى مناقشة ما أعتقده خطأ فيما ورد على لسان عصيد بخصوص هذه القضية, فقد كفاني ذلك عدد من المقالات التي دبجت فيها,والتي اجتهد أصحابها في تبيان سياق ورود مقولة ''أسلم تسلم'', كما وضحوا أن المقصود منها لم يكن تهديدا ولا ارهابا,بل ان '' أسلم تسلم'' هي دعوة رحيمة من النبي صلى الله عليه وسلم وحرص منه على المقصودين بدعوته, وعلى سلامتهم في دنياهم وأخراهم باعتناق الاسلام والاهتداء به,وهو قول صادر ممن أثنى عليه ربه بقوله''وما أرسلناك الا رحمة للعالمين'' فحاشاه السفك والترهيب,وحاشا دعوته تكون توسلت السيف لفرض نفسها على العالمين. وهي دعوة لا تناقض أبدا حرية المعتقد التي سطرها القرآن بكلمات واضحة يفهمها العربي والعجمي,ف'' لا اكراه في الدين'','' فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر'' هي نصوص تكشف أن الاسلام يجعل العقيدة اختيار. وقد أعلى من شأنه وثبته في أعلى مصادر التشريع ,ولم يتركه نزاعا بين الفقهاء,كما ترغب في ذلك الايديولوجيا السلطانية. ولئن كنت أفهم السياق الذي ورد فيه كلام الأستاذ عصيد,الا أني أجد أن المثال قد خانه.وأن التعارض الذي أشار اليه بين حرية المعتقد باعتباره حقا كونيا,وبين نص ''أسلم تسلم'' هو تعارض موهوم. أما المنظومة التربوية واختلالها في كل شئ فلا أحسب المغاربة يخالفونه الرأي,بل اني لا أجد المغاربة يتفقون على شئ قدر اتفاقهم على فشل هذه المنظومة وارتباكها المزمن. ................................ عموما يبقى الكلام حمال أوجه, يستطيع كل انسان أن يفهم منه ما يشاء ويقرأه كما يريد,وهو أمر مشروع,لكن الخوف كل الخوف,أن يأخذ بعضنا بعضا بنوايا مبيتة, وأن يكيد بعضنا لبعض بمداخل مختلفة,تذكي حربا أيديولوجية بين أبناء الوطن الواحد, حيث يهرع كل الى ''قبيلته''فيشحذ سيوف الجهل والجهالة, يكره الناس ليكونوا ''علمانيين'' أو يكرههم على أن يكونوا مومنين. حتى وان توسل ذلك بالمزايدات الرخيصة ,أوباستقواء أرعن ألا لا يجهلن أحد علينا,,, فنجهل فوق جهل الجاهلينا فلنتذكر أن دروب الجهل والجهالة مظلمة.