لقد شكل الموقف الأمريكي الأخير من قضية الوحدة الترابية للمملكة صدمة لكثير من الباحثين و المتتبعين و الرأي العام الوطني بصفة عامة، و من جهة أخرى يعتبر هذا الموقف منعطفا خطيرا و استراتيجيا في مسار المواقف الأمريكية تجاه المغرب. فإذا كان المغرب الرسمي ما فتئ يتغنى بكون العلاقات المغربية الأمريكية تعد علاقات متينة و متجذرة في التاريخ ، بحيث أن المغرب يعتبر أول بلد مسلم اعترف بالولاياتالمتحدةالأمريكية، في عهد السلطان محمد بن عبد الله سنة 1774 م ، و إدا أخدنا بعين الاعتبار المعطيات التاريخية و الجغرافية و خضوعه للاستعمار الأوربي والفرنسي و الإسباني مما خلق نوع من الارتباط التاريخي و الحضاري بالمنظومة الغربية و حتى العاطفي في بعض أبعاده. من هذا المنطلق كان المغرب معتزا دائما بأنه كان شريكا في النصر الذي حققه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على النازية و الفاشية بعد امتزاج الدماء المغربية بنظيرتها الفرنسية في معركة تحرير فرنسا من الاستعمار النازي، كما أن الولاياتالمتحدة كثيرا ما أعجبت بالتجربة المغربية الديمقراطية، خصوصا الطريقة التي قيل بأن المغرب تجاوز بها ربيعه الديمقراطي فيما بات يعرف بالاستثناء المغربي، كما أن الموقف و السلوك المغربيين في قضية محاربة الإرهاب في الساحل و الصحراء وصف من قبل الخارجية الأمريكية بالبناء و المتعاون،كما أن مجلس الأمن طالما رحب بالمقترح المغربي حول الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية. فما سر هدا الانقلاب الأمريكي الخطير على حليفهم الإستراتيجي المغرب؟ خصوصا و أن البلدين قد انخرطا مند أكثر من سنة في مناقشات تهدف إلى إقامة شراكات إستراتيجية على الأصعدة الاقتصادية و الأمنية و السياسة ، و اجتمعت لنفس الغاية عدة لجان مشتركة من البلدين، فما الذي استجد لتفسير هذا التحول الأمريكي الدراماتيكي؟. إن الحقيقة التي يجب أن نقر بها هو أن الموقف الأمريكي و الغربي بشكل عام عرف تغيرات كبيرة في الفترة الأخيرة و تحديدا الانتقاد الشهير للسفير الأمريكي "كابلان" لما أسماه تعثر وبطئ الإصلاحات السياسية بالمغرب ووجود جيوب مقاومة تحول دون تحول ديمقراطي حقيقي به، حيث كان هذا الانتقاد علنيا عبر المنابر الإعلامية، مما أثار حفيظة كثير من السياسيين المغاربة و الذين اعتبروا تلك التصريحات المثيرة للجدل تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية للمغرب، و يمكن القول أن هذه التصريحات شكلت أولى بوادر التحول في الرؤية الأمريكية تجاه المغرب، و قد استنتجت النخبة السياسية المطلعة أنداك أنه ثمة تحول كبير في الموقف الأمريكي و الغربي عموما تجاه قضية الوحدة الترابية للمملكة. وإذا كان الكثير من المحللين السياسيين والدارسين في محاولة منهم لفهم هذا التحول المفاجئ في الرؤية الأمريكية يعزون ذلك إلى ثلاث محددات رئيسية؛ يتعلق الأول منها بالصراع الفرنسي الأمريكي على مواطئ النفوذ بالقارة الإفريقية عموما وفي شمال إفريقيا على وجه الخصوص والتي جعلت الولاياتالمتحدة غير راضية ربما على كثير من المعاملات التفضيلية وخطوات التقارب الاستراتيجي بين المغرب وفرنسا وكذا الاتحاد الأوربي. أما المحدد الثاني في هذا التحول يمكن إرجاعه إلى ملف حقوق الإنسان بأقاليمنا الجنوبية الذي ما فتئ تستخدمه بعض الدوائر الغربية من منظمات حكومية وغير حكومية للضغط على المغرب وابتزازه سياسيا واقتصاديا وأمنيا، في ما يمكن إدراج المحدد الثالث في ضعف الدبلوماسية المغربية والذي بلغ أوجه خلال السنة والنصف الأخيرة بعد وصول العدالة والتنمية إلى الحكومة حيث التخبط بدا واضحا في الأداء الدبلوماسي المغربي الذي كان من نتائجه إلغاء اتفاقية الصيد البحري مع الإتحاد الأوربي بسبب نزاع الصحراء. يمكن القول من الناحية الجيوستراتيجية أن هذه المحددات وبالرغم ما يمكن أن تتضمنه من بعض جوانب الحقيقة فإنها لا تسعفنا في فهم خلفيات وحيثيات الموقف الأمريكي للأسباب التالية: إن ما يسمى بالصراع الفرنسي الأمريكي لا يعدو كونه عملية لتوزيع أدوار متقنة وتكاملية بين القوتين الدوليتين العضوين والمؤسسين لحلف الشمال الأطلسي والمنتميتان للمنظومة الجيوسياسية الغربية التي تلعب فيها الولاياتالمتحدة دور الريادة والقيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الضعف الفرنسي منذ وصول ساركوزي إلى السلطة وإلحاق فرنسا بشكل مطلق بالولاياتالمتحدة وهو الوضع الذي لم يستطع خليفته هولاند من تجاوزه. أما في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان بالصحراء فإن تقرير عمر عزيمان عن التجاوزات الحقوقية بالمغرب أثبتت أن هذه التجاوزات أكبر بكثير في الشمال منها في الجنوب، فلماذا التركيز على الجنوب من قبل الدوائر الغربية؟ ! خصوصا أن كثير مما يمكن وصفه تجاوزات هو مجرد ضجيج إعلامي ساهم فيه إنفصاليوا الداخل عبر خلق معارك حقوقية وهمية وقد جسدت ما يسمى "قضية أميناتو حيدر" هذا اللغط الحقوقي ناهيك على أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بسجلها الحقوقي الأسود هي آخر دولة يمكن أن يقبل منها، أخلاقيا و إنسانيا الحديث و الدفاع عن حقوق الإنسان و لعل عجرفتها و سجل قمعها للدول و الشعوب و الأفراد المليء بالخروقات و الاضطهاد و القمع و السجن و التعذيب و الابادة مبررا قويا لذلك، و أكثر خروقاتها لحقوق الانسان و الشعوب طرواة هي ممارستها في العراق و أفغانستان ، دون الحديث عن تدخلاتها القمعية في أمريكا اللاتينية و الهند الصينية خلال السيتينيات و السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي ، و من دون الحاجة الى ذكر تاريخ الاستئصال و الابادة التي قام بها الانسان الابيض الأمريكي في حق شعوب الهنود الحمر الأصليين في القارة الأمريكية الشمالية مند القرن السادس عشر الى نهاية القرن التاسع عشر. يبقى المحدد الدبلوماسي أبرز نقاط ضعف في ملف قضية وحدتنا الترابية في ظل غياب رؤية استراتيجية دبلوماسية واضحة للتعامل مع قضية وحدتنا الترابية. اما الجواب عن سر الانحياز الامريكي الى موقف الجزائر والبوليزاريوا فهو راجع الى عدة عوامل تتعلق بالمصالح الامريكية بالدرجة الاولى الاتي تبقى المحدد الاستراتيجي الوحيد للسياسة الخارجية الامريكية والتي من جملتها الشراكة الاقتصادية القوية بين صناع القرار الرسمي الجزائري وخاصة منهم الجنرالات والمؤسسات العسكرية الامريكية فنسب التسلح الجزائرية خلال السنتين الاخيرتين من السلاح الامريكي هو الاول افريقيا والثالث شرقا اوسطيا لذلك فلا غرو ان نجد الشركات الامريكية العملاقة والمؤثرة في السياسة الداخلية والخارجية الامريكية لها علاقة بتغير الموقف الامريكي من قضايا عدة في العالم ومنها قضية الصحراء ، فالطفرة البترولية التي تعرفها الجزائر ودورها المحوري في محاربة الارهاب في الساحل والصحراء والعلاقات الكبرى التي بدأت تربط الرئيس الجزائري مع صناع القرار لدى منظمة ايباك الدولية التي هي اكبر مؤثر في السياسة العالمية والامريكية تحديدا يجعلنا لا نفاجئ اكثر عندما نرى تغيرات كبرى في المواقف الامريكية والأوروبية لصالح الجزائر والبوليساريو ، اما الاعتبار السياسي الاخر وهو صعود جون كيري الى سدة الخارجية الامريكية وهو المعروف بعلاقاته الوطيدة مع الحكام في الجزائر ومع مؤسسة ابنة كنيدي الداعمة الرسمية للبوليساريو وسفيرتهم لدى الولاياتالمتحدة ، كل هذه الاعتبارات يمكن ان تفسر بعض من التغير في الموقف الامريكي في قضية الصحراء ، لكن هل الولاياتالمتحدة وحدها من غير الموقف ؟ لا ننعتقد ذلك، ففرنسا كذلك وبريطانيا غيرت من لهجتها الديبلوماسية اتجاه المغرب رغم التصريحات الديبلوماسية البرتوكولية لفرانسوا هولاند امام البرلمان المغربي خلال زيارته الاخيرة للمغرب ودليلنا على ذلك ان اغلب النواب الفرنسيين لدى البرلمان الأوروبي لم يكن موقفهم حازم في عدد كبير من مشاريع توصيات قدمت من لجن المجلس وكانت ضد المغرب ومصالحه الاقتصادية والسياسية ، ان الديبلوماسية المغربية تجتاز مرحلة فتور وتراجع خطيرين بفعل تكلس الخطاب الديبلوماسي المغربي وتعيين سفراء لا يقومون بالادوار الكافية لدى عواصم القرار الدولي وبفعل اقصاء المجتمع المدني والسياسي المغربي من القيام بادوار طلائعية في الديبلوماسية الثقافية والفكرية والجمعوية لان المجتمع الاوروبي والامريكي لم يعد يثق في السياسات الرسمية المغربية والمغاربية منذ اندلاع ثورات الربيع الديموقراطي والتي اعطت للعالم اجمع دروسا كبيرة في عدم التعويل كثيرا على ما يروج له الاعلام في هذه الدول لان ما تحت الاكمة اكثر من ذلك واعمق. إن قراءة متأنية للمشهد السياسي الرسمي المغربي، خصوصا في شقه المرتبط بالأداء الدبلوماسي لا بد أن يخلص إلى ثلاث ملاحظات أساسية طبعت هدا الأداء: أولا: تركيز الدبلوماسية المغربية على منحى واحد و أوحد في تعاملها الخارجي، و ارتباطها بمجموعة من الدول التي تنتمي ثقافيا و أيديولوجيا إلى نفس المنظومة الفكرية و المصلحية. ثانيا: إهمال الدبلوماسية المغربية لمنحى اللعب على التوازنات الدولية، و عدم الانفتاح على منظومات أخرى مختلفة وذات ثقل دولي سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي. ثالثا: عدم انتهاج الدولة المغربية و تشجيعها لسياسة الدبلوماسية الموازية، و المتمثلة في المجتمع المدني في أبعاده الثقافية و الحقوقية و الرياضية. بناء على هذا التفكيك للسلوك الدبلوماسي المغربي، و بغض النظر عن الظروف و الملابسات المتحكمة في بنية العقل الدبلوماسي المغربي ، و حتى تكون أكثر فاعلية و ركيزة قوية في الدفاع و حماية المصالح العليا للدولة المغربية، لا بد من خلق حركية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الدينامكية التي تعرفها العلاقات الدولية و التحولات الجذرية لموازين القوى في العالم و التي تتسم بصعود قوى جديدة على المسرح الدولي لتنافس القوى التقليدية و تساهم في تحول النظام الدولي من نظام أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث بات من اللازم الارتكاز على سياسة الانفتاح على هذه القوى خصوصا دول "البركس" و دول أمريكا اللاتينية إضافة للدول الأفريقية و عدم وضع كل البيض المغربي في السلة الفرنسية أو الأمريكية. و بالتالي فإنه من الضروري خلق مراكز أبحاث إستراتيجية وطنية و رصينة و خلق آلية تنسيق و تعاون بينها و بين الجهاز الدبلوماسي و السياسة الخارجية المغربية. من جهة أخرى لا مناص من تشجيع "الدبلوماسية الموازية" و الاستعانة بالمجتمع المدني في هذا المجال، و الذي يمتلك مداخل و إمكانات و آليات مهمة لا تتوفر للدبلوماسية الرسمية، و التي بمقدورها إسداء خدامات جليلة للمصالح الوطنية عموما و للقضية الوطنية على وجه الخصوص. و في هدا الإطار فإن الاهتمام بالقنوات الشعبية و المدنية المتنوعة المشارب و الاهتمامات، وتشجيع الجمعيات و الفعاليات المغربية المقيمة بالخارج يعد مدخلا أساسيا، لخلق مثل هده الفعالية في الدبلوماسية المغربية. باحث في العلاقات الدولية