رغم وجود منطقة منزوعة السلاح DMZ بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، لم تمت الدبلوماسية يوما، ولم تتجمد الحدود في ما يعتبر أخطر منطقة في العالم. ورغم القطيعة بين بيونغ يانغ وواشنطن بسبب تداعيات الحرب الكورية منذ 1953، تتحرك الدبلوماسية من حين لآخر ضمن بعثات وساطات من قبل بعض الشخصيات مثل الرئيس الأسبق بيل كلنتون لإطلاق سراح صحفيين كانوا محتجزين في بيونغ يانغ. غير أن وضع شبه الجزيرة الكورية لا يتفوق على بدعة جديدة متنامية حاليا في منطقة المغرب الكبير. فقد ذهب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أبعد مما تنزع إليه راديكالية الحروب الباردة، ويتمسك اليوم بأن "الجزائر لا تقبل أي وساطة مع المغرب، ورفضنا إدراجها في المؤتمر الوزاري لجامعة الدول العربية." هي حلقة أخرى في سلسلة التنكر لواقع الجوار الجغرافي والارتباط التاريخي وبقية الروابط الثقافية والمجتمعية وحتى القواسم المشتركة في تحديات التنمية في البلدين. هناك قرار قطع العلاقات مع المغرب، ومنع الطيران المدني والعسكري المغربي من التحليق في الأجواء الجزائرية في الأسابيع القليلة الماضية. ولكن تشبع الرئيس تبون، ومن خلفه أعضاء المجلس الأعلى للأمن، بهذا الرفض لأي مبادرة عربية لرأب الصدع في العلاقات الجزائرية المغربية لا يدل على حكمة سياسية وطنية أو بعد نظر دبلوماسي، ولا عن حس استراتيجي يحفظ ماء الوجه، بقدر ما ينمّ عن تشنج وانفعال غير عقلاني بسبب ما يبدو صدمة كبرى متخيلة منذ عقود. يبرّر الرئيس تبون قراره وأد أي وساطة عربية بأنه "لا يمكن المساواة بين الجلاد والضحية، ونحن قمنا برد فعل على عدوان متواصل منذ استقلالنا عام 1962، ولسنا السبب في ذلك". ويبدو أن القيادة الجزائرية لم تعد تتعامل بموضوعية الوقائع، وإن كانت هناك تظلمات جزائرية مع المغرب، وأخرى مغربية من الجزائر، سواء بسبب حرب الرمال عام 1963، أو طرد 45 ألف مغربي من الجزائر صباح عيد الأضحى عام 1975، أو بقية المنحدرات والمرتفعات في علاقات الجوار خلال العقود الستة الماضية. وهذه أمور متوقعة في علاقات أي دول متجاورة في الزمان والمكان. ولكن حسابات الرئيس تبون اليوم تستثمر في سردية "العدائية الكبرى" في منحاها التخيلي وشيطنة المغرب بكافة التهم الجاهزة، وتجمح في هذا الاتجاه دون تريث أو تقدير نحو عصبية التطرف السياسي. تتحوّل ذكريات حرب الرمال عام 1963 لدى الرئيس تبون وجل القيادات العسكرية إلى شماعة سياسية وصدمة نفسية عابرة للأجيال. وفي الوقت ذاته، يعمد الرئيس تبون إلى زيادة صفقات الأسلحة التي فاقت 92 مليار دولار بمحاولة اقتناء معدات روسية مثل طائرات سوخوي 57 و34 من روسيا بقيمة 7 مليارات دولار خلال زيارة قائد القوات المسلحة سعيد شنقريحة إلى موسكو قبل ثلاثة أشهر وسط مساومات حول سماح الجزائرلروسيا بالتمركز في منطقة الساحل. في المقابل، اقتنى المغرب نظام الدفاع الجوي باتريوت الأمريكي الصنع، الذي يشمل نظام صواريخ أرض-جو متوسط المدى مصمم لتحييد التهديدات الجوية. ويعزو المغرب هذا التسلح إلى احتراسه من كون الجيش الجزائري يملك منظومة S-300 الروسية. تصبح الجزائر ثاني الدول الأفريقية إنفاقا في مجال التسلح يليها المغرب في المرتبة الخامسة. وثمة قصة تصعيد مغيبة بين تزايد التسلح لدى الدولتين الجارتين وقرار الرئيس تبون قطع الطريق على أي دبلوماسية عربية للوساطة لتجاوز القطيعة مع الرباط. ولا يمكن تجاهل شبح المواجهة المحتملة وإن كان الرئيس الجزائري يقول "نحن شعب جربنا الحرب ونميل إلى السلم، لكن لن تتسامح مع من يعتدي علينا". لا يتنكر رجال السياسة عادة لأهمية الدبلوماسية حتى في أحلك الفترات المتأزمة. وثمة دوما قرينة عضوية بين تدبير العلاقات الدولية والمنحى الدبلوماسي كخيار طبيعي واستراتيجي في المحصلة النهائية إذا أخذنا بعين الاعتبار تداعيات المواجهة المسلحة على كل الأطراف. لكن الانجراف نحو القطيعة الدبلوماسية وإغلاق الباب على أي وساطة عربية محتملة لا يجسدان الحكمة أو التفكير المتنور ببرغماتية السياسة وعقلانية الدبلوماسية، أو كما تقول العرب: ما هكذا تورد الإبل.. ياسعد ! * أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأممالمتحدة.