لاشك أن الكثير من المواطنين العرب تابعوا وبإشفاق كبير، إن لم نشأ إستعمال كلمة لذة، خطابات الديكتاتوريين المترنحين هذه الايام. إن المتتبع الحاذق رأى بكل تأكيد وجود نوع من النمط الخطاب الذي يمكننا أن نسميه بالنمط الديكتاتوري في الخطاب. هذا النمط الخطابي لم يعر فقط الفقر الفكري، وغياب الكاريزما والزعامة السياسية لدى هؤلاء بل بين أيضا أنهم خريجو نفس المدرسة، بل ويمكن الجزم بأنهم تدربوا على أيدي نفس الأساتذة الرذيئين. فلأول مرة في التاريخ العربي يتاح للشعوب أن ترى الحقيقة الفكرية لمن يحكمونهم ويستمتعوا بالضحالة اللغوية في محاولات عدمية لاسترجاع هيبة كسرتها المظاهرات أو كرامة مرغتها الشعوب، بإرادتها الحرة، في التراب. إذن ما هي القواسم المشتركة بين خطابات الزعماء العرب حتى الآن وكيف يمكننا أن نستشف منها الكثير الأفكار التي ستفيدنا في المستقبل لدراسة وتحليل سلوك الديكتاتور؟ إن نشوة الانتصار التي يشعر بها المواطنين العرب هذه الأيام لا يجب أن ينسينا الانتباه إلى طبيعة الخطاب الذي يوظفه الديكتاتور في خداع الشعب. فنحن نعيش في زمن حرية تداول المعلومات والإعلام الحر والتدفق السريع لصور، ومن السهل جدا أن تفوتنا بعض العناصر المهمة لفهم تفكير الديكتاتور في لحظات السقوط. لذلك يجب الحرص على التفكير في الخطابات التي يلقيها الديكتاتور في اللحظات الحرجة بنفس درجة حرصنا على مشاهد المتظاهرين المسالمين في ميادين التحرير ضد الكبت والديكتاتورية. فهذه الخطابات تحوي ثروة مهمة من المعلومات قد تساعدنا في التنبوء بإستراتيجية الزعيم قبل فراره أو إطلالته الأخيرة على الشعب. وأنا أشاهد خطابات بن علي ومبارك لاحظت وجود العناصر المشتركة التالية بين خطاباتهم: أولا: التهديد والوعيد. يطلع سيادة الرئيس وفي وجهه وجوم ورغبة جامحة في قتل كل الشعب. فالسيد الرئيس هو الشخص الوحيد القادر على التفكير في مصالح الشعب. لذلك، وبعد سبات دام ثلاثين سنة، يستيقظ السيد الرئيس ويخبر الشعب أنه لن ينساق وراء المجرمين والعابثين بأمن البلاد والعباد. فالسيد الرئيس متمسك بحقه في أداء المهام التي يكفلها له الدستور ولن يفرط في ذرة صغيرة من كرامة وأمن الوطن. هذه النقطة بالذات تخلق نوعا من الالتباس بين الدولة والفرد وتجعلنا نسائل الديكتاتور أين كان عندما كان الدستور والقانون يوظفان لتحقيق مكاسب ذاتية للمحطين به وبطانته الفاسدة. اين كان السيد الرئيس عندما كان نفس الدستور يستعمل لحماية المرتزقين والمرتشين وليس لحماية مصالح الشعب؟ ثانيا: الاقرار بالحاجة إلى الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. فلأول مرة متذ عقود يقر الديكتاتور بأن بلاده ليست جنة الله في أرضه وأنه يشعر بألآم الشعب. فالديكتاتور على ما يبدو لايستطيع الاحساس بمعناة شعبه إلا بعد أن تراق الدماء ويقتل الناس وتشتعل النيران. فمادام الديكتاتور وأسرته بخير فكل الناس بخير. لكن الديكتاتوريكتشف فجأة أن رعاياه يحتاجون إلى وظائف ورعاية صحية وغيرها من البرامج الاستعجالية الاصلاح أوضاعهم المعيشية. فالشعب احتاج مئات القتلى وألآف الجرحى لكي يحس في ركن قصي من قلبه بأن الشعب يتعذب ويحتاج من جنابه التفضل بمساعدته. فهذه النظرة الاختزالية لنضال الشعوب في الخبز والماء يدل على تكلس فكر الديكتاتور وعدم قدرته على الابداع السياسي.فالشعوب أثبتت أن خيالها أكثر خصوبة وارتباطا بالواقع من هؤلاء الموميات الذي تكلست أمخاخهم وفقدوا كل قدرة على الخيال والابداع. ثالثا: محاولة فرض معادلة أنا أو الفوضى. هذه الفكرة التي لا تخلو من كثير من الغطرسة والاحتكار للشعب، تلعب على وتر حساس لدى الانسان العربي و المسلم ألا وهو الأمن والطمأنينة نظرا لأهمية الشرف والدم في الثقافة العربية.. فهذه الفكرة التي حاول البعض تأصيلها فقهيا بالقول بأن سلطانا جائرا خير من فتنة تدوم، يحيلنا أيضا على قصور فظيع في إدراك معنى الأمن باعتباره حاجة وضرورة اجتماعية يوفرها أفراد المجتمع لبعضهم البعض. لقد أكتشفنا أن كلام الرئيسين يحتوي طلاسيم ورموزا إلى الساهرين على إعداد الخطط لترهيب الناس واغتصاب النساءو سلب الاموال والممتلكات في محاولة لإظهار أهمية الرئيس في تأمين المجتمع. فالرئيس عندما يقرن وجوده بوجود الأمن، وانهيار نظامه بانهيار الأمن يتحول إلى زعيم من زعماء الجريمة المنظمة. فلا نستطيع أن نتبين الفرق الموجود بين زعيم مافيا وبين رئيس دولة بوليسية يحث قواته على ترعيب المواطنين بغية الحصول على مكاسب سياسية. رابعا: تصوير المتظاهرين على أنهم إرهابيون. فالمصري الحقيقي والتونسي الحقيقي لا يدمر البنية التحتية ولا يعتدي على ممتلكات الغير، ولكن العناصر الإرهابية المندسة في التظاهرات هي التي تقوم بهذه الافعال، حسب الرئيسين. هذا الخطاب العاطفي يهدف أولا إلى إظهار الرئيس الديكتاتور في مظهر الأب والعاطف على شعبه والمحترم للمواطنين؛ يشكل في الحقيقة قمة البلادة السياسية على اعتبار أنه يسعى في المقام الاول إلى نزع الشرعية عن الشعب ورغبته في التغيير. إذا سلمنا أن العناصر الارهابية والخارجة عن القانون هي التي تقتل الناس وتعبث بالممتلكات فإن هذا يفترض أن كل السياسات الامنية للأنظمة الديكتاتورية فشلت في استئصال المجرمين والخارجين عن القانون، إلا إذا اعتبر الشعب كله خارجا عن القانون، وهذا الذي يجب فهمه من خطاب الديكتاتور. فالشعب حمل وديع، تضربه ويسكت، تداعبه فيفرح وتضمه إلى صدرك بكلمات جميلة منمقة فيطاوعك، حتى لو كان يعاني من كل الآفات الاقتصادية والاجتماعية ويئن تحت غياب الديمقراطية. فخطاب الديكتاتور فيه دعوة صريحة إلى نزع صفة الوطنية عن كل من يقول لا. فالمواطن الحقيقي هو الذي لا يتظاهر، المواطن الحقيقي يبقى في بيته ولا يهتم بالشأن العام وإذا حدث أن شارك في مظاهرة أو احتجاج فإنه يخل بإحدى مقومات المواطنة الا وهي الطاعة المطلقة لارادة الديكتاتور. خامسا: هناك قاسم مشترك آخر بين هذه الخطابات ألا وهو إظها ر الديكتاتور في صورة إنسان شعبي يحس بنبض الشارع. يمكن أن نفترض أن إظهار هذا الجانب من الديكتاتنور يندرج في سياق مدروس الهدف منه تكسير تللك الصورة الصارمة التي ألفها الشعب عندما كان يراه في التلفاز. فبن علي تحدث بلغة الشارع بعدما كان يرطن بالفرنسية ويقرأ الخطب المنمقة، ومبارك سار على نفس النهج بل وحاول إظفاء مسحة من الشباب على كلمته ناسيا أو متناسيا أن الشباب لم يعد يتأثر بالكلمات الشاعرية بل يبحث عن أجوبة دقيقة ومحددة تجيب عن تساؤلاته وتبدد قلقه حول العديد من القضايا المصيرية بالنسبة له. سادسا: بعد فشل كل محاولات دغدغة مشاعر الشعب المتزامنة مع القمع البوليسي يلجأ التلفزيون الرسمي إلى بث بنض عريض يخبر عن أمر ها سيتم بثه بعد قليل. لأول مرة تستعمل كلمة الشعب بمعناها المتداول بين شعوب الأرض، لأول مرة يحس الشعب أنه موجود أو يسمع له لأن الخطاب موجه إليه ويحمل بشرى سارة. الشعوب معتادة على أن تخاطب متى يشاء الديكتاتور، في الأوقات التي تحلو له، في الظروف التي يراها مناسبة له و التي غالبا ما تقرن بأعياد شخصية لاعلاقة بتاريخ وأمجاد الشعب بها. يطل سيادة الرئيس على التلفزيون، يعلن إقالة الحكومة، يعلن أن مستشاريه غلطوه ويعلن أنه كان يعيش في زمن ومكان غير الزمن و المكان الذين يعيش فيهما الشعب. يعلن الديكتاتور أنه لن يترشح للإنتخابات القادمة ، أنه لن يورث الحكم لأحد من أسرته. يعلن أنه لن يترك شعبا عظيما تركة لأحد لأن الشعوب لا تورث بل تستحق قيادتها. نلاحظ أن الديكتاتور في هذه اللحظات يستعمل كلمات مثل الشعب العظيم والجليل والسلمي. كلمات كلها كانت مختفية في قاموسه ولكنه يعيد إحياءها للمناسبة ولكن لا يجب الانخداع بها فالديكتاتور ديكتاتور بطبعه. سابعا: نحس في خطاب الديكتاتور بنوع من الاستجداء. فبعد السنوات الطويلة التي قضتها الشعوب في خدمة الرئيس الباني، الموحد، الشجاع الوحيد، الشاعر والكاتب الوحيد، مشرق الشمس ومغربها، كبير الفنانين، القطب الأوحد، السد المنيع، صانع المعجزات و قطب الاستقرار؛ فبعد كل هذه السنين التي قضاها الشعب في عبادة الشخص يقف مشدوها أمام التلفاز لايصدق نفسه. فكل الصفات السابقة تختفي من قاموس الديكتاتور وكل ما يرجوه هو أن يكمل ولاية أو يترك يموت في بلده. فكل ما يرجوه الديكتاتور هو أن ينجو بجلده ويحافظ على كرسيه أو يبحث عن مخرج آمن للتمتع بالثروات المنهوبة في بلد عربي في الصحراء ولن يحلم بأوروبا والغرب لأن المحاكم ستكون بانتظاره. تحس بالدموع في عيونه ولكن قلبه جف من كثرة الجلوس على الكرسي، فالدموع ترفض أن تتغرغر من عينيه لأنها ترفض أن تستعمل لإقناع الشعب. فدموع الديكتاتور تبرأ منه وترفض أن تطاوعه في الاحتيال على الشعب مرة أخرى. نعلم يقينا أن ديكتاتورا إذا بكى أمام الشعب فلربما سامحه، لذلك ترفض الدموع أن تسقط لأن الديكتاتورية شيء ضد الطبيعة البشرية. سادسا: اكتشفنا ضحالة فكرية لدي الديكتاتوريين العرب وعدم قدرتهم على استيعاب التغيرات الحادثة أمامهم. فعندما يطالب الشعب برحيل الرئيس يبدأ هذا الاخير بتقديم تنازلات كان الاجدر به أن يقدمها منذ سنين طويلة. فالمتعلم المبتدئ في مجال السياسة يعلم أن هناك سقفا زمنيا وثمنا لكل المطالب التي ترفع في علاقتها مع الواقع على الأرض. فهؤلاء الذين يحكمون الشعوب لم يبينوا فقط عن ضعف فكري بين بل عن تخبط وعشوائية في تدبير النزاعات مع مواطنيهم. فالشعب يطالب برحيل الرئيس والاخير يجيب بتغيير الوزير الاول أو تعيين نائب للرئيس وكلها إجراءات علاجية ترقيعية لاترقى إلى مستوى المطالب الشعبية. فالضحالة الفكرية للقادة والزمرة المحيطة بهم تبدت للشعوب وأظهرت أن الشعوب تطورت أكثر من حكامها باعتبار أنها تتكلم من صلب الواقع في حين أن الزعيم يتكلم من منطق المتجرد من هذا الواقع. هذه إجمالا بعض الخصائص التي تبدو لي مشتركة في خطابات الديكتاتوريين العرب. فسقوط ديكتاتوريات أخرى أو إضطرار رؤسائها غير الشرعيين إلى توجيه خطابات لاستحداء الشعوب سيبين لنا طبيعة وبنية خطاب الديكتاتور عندما تحتضر سلطته. فعندما يكتشف الناس أن الديكتاتور ما هو إلا رجل مفتول العضلات يفتفد إلى القدرة على الفوز في الحلبة، يلجأ الديكتاتور إلى أقوى الأسلحة تأثيرا في العظماء ألا وهي النحيب واستجداء الشعب، ولن نتفاجأ إذا لجأ أحدهم إلى الشعر العربي لذكر مناقب العرب القدامى من الحلم والكرم و إجارة المستغيت ولكن لن يذكر من بينها الدود عن العزة والكرامة ولن يذكر الشجاعة، لأنها تقض مضجعه ويتمنى لو يزيلها من القاموس. *باحث مغربي