تعتبر الظاهرة السياسية من اشد الظواهر الاجتماعية تعقيدا في الدراسة ، فبالرغم من تطور الدراسات و الابحاث نتيجة تطبيق المناهج العلمية المنتقلة من حقول معرفية علمية اخرى ، حتى صارت السياسة مع هدا التطور علما قائما بذاته ، غير ان الظاهرة السياسية لا تزال صعبة الادراك للباحث والدارس ، وذلك راجع لسر الفعل الانساني . الاهتمام بالموضوع راجع أولا الى شغل طبيعة وشكل نظم الحكم لحيز كبير في ادبيات الفكر السياسي منذ الزمن اليوناني وحتى يومنا ،ثانيا، ما خلقته الدينامية الاجتماعية والسياسية في البلدان العربية ومنها المغرب بعد 20 فبراير ، وافرازتها السياسية والفكرية الفلسفية بعد سقوط انظمة وزعزعة اخرى وملحاحية السؤال الذي طرح حول طبيعة الحكم وشكل الدولة المجتمعية المنشودة. سبب اختيار موضوع المقال وعنونته ب " الاستبداد الناعم" والذي سيخلق لا محالة تشويشا فكريا وموقفا سياسيا لدى البعض كيف يكون الاستبداد ناعما !!!! ،يعود لتميزه وتفرده بخصائص وأساليب عن حكم " المستبد المستنير" dictature éclairéeوكذلك ايضا حكم " المستبد الظالم " او الظلامي وفق التعبير الفرنسي dictature obscurantiste .فهذا النوع من الانظمة السياسية، الذي يضع عناوين في الواجهة، ويدعي انتماؤه الى مقولات ومفاهيم من انتاج مدرسة الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات واحترام الحقوق الاساسية للحياة الكريمة . ( الانتقال الديمقراطي ،حرية الرأي والتعبير ، الانتخابات ، استقلال وفصل السلط ، التعددية الحزبية ، التنمية البشرية ، ثقافة الاختلاف والحوار ... ) في حين ان الحياة السياسية والوقع اليومي المعاش ابعد ما يكون من هذا . مما يولد حالة من السلبية والتيه لأفراد المجتمع، على مستوى الفهم والمشاركة في تدبير الشأن العام،وذلك عبر اليتين متوازيتين : الاولى افقاد المواطنين للثقة في عملية المشاركة المباشرة من خلال نتائج الانتخابات التي تحافظ على الوضع القائم ،وكذلك من خلال السيطرة على السلطة التنفيذية والتشريعية مما يفقد للمشاركة الشعبية والحزبية لكل معنى . وفي ذات الوقت كآلية ثانية يتم منح مساحة للتعبير والرأي بل والحØ �كة احيانا من خلال مساحة الحرية الممنوحة للإعلام والأحزاب كمنفذ للتنفيس عن حالة الانفجار والانتفاض الشعبي القوي والكلي . المحللين والباحثين السياسيين يصورون التطور الديمقراطي على انه رسم بياني تصاعدي، يبدأ من النظم السلطوية وينتهي بالنظم الديمقراطية ، ويضعون النظام الاستبدادي الانتخابي والذي سميناه "بالناعم "في نقطة خارج هذا الخط من اسفل . مؤكدين على ضرورة العمل على تحريك هذه النقطة لتدخل في اطار الخط البياني، حتى يكون النظام قابلا للتطور نحو الديمقراطية ، كمفهوم يتشكل في الواقع عبر تفاعل ثلاثة دوائر أساسية الأولى هي نظام ديمقراطي في قوانينه الحاكمة وتشريعاته، يولد مؤسسات ديمقراطية تسمح بحرية الرأي والتعبير وصولا الى تداول السلطة ، والدائرة الثانية، هي معارضة تعمل على تغيير الوضع القائم وتمتلك رؤية للتغيير تتفاعل من خلالها مع جمهورها ، والدائرة الثالثة، ترتبط بالثقافة المجتمعية التي تؤمن بالديمقراطية والتعددية . ولعل ما احالنا لوصف مثل هكذا انظمة سياسية بالاستبداد الناعم، الاثر الذي احدثه مفهوم القوة الناعمةSoft Powerكمفهوم جاء به عالم السياسة الأمريكي جوسيف ناي Joseph Nye ، في حقل السياسة الخارجية وعلم العلاقات الدولية ، ويشير المفهوم إلى استخدام الأدوات غير العسكرية للترويج لسياسات وأفكار الدول في محيطها الدولي، إذ إنها تمثل أحد جوانب الدبلوماسية التي تنطوي على جهود الحكومة لتقديم ثقافتها الوطنية إلى الرأي العام الأجنبي بهدف تحقيق فهم أفضل لمثلها العليا ومؤسساتها الوطنية. اي ان ما كانت تحققه القوة العسكرية اصبح يحقق بوسائل وقدرات اقرب الى الاقناع وا لرضى. وفي الاخير يبقى السؤال المطروح الى متى ستبقى هذه النعومة تغطي الوجه القبيح للاستبداد ؟؟ خاصة في ظل حالة الهيجان الشعبي المتزايد وحنين بعض الانظمة الى زمن الاخضاع بقوة الحديد والنار ، تماشيا مع عودة انصار استعمال القوة العسكرية في حقل العلاقات الدولية وتراجع لمفهوم القوة الناعمة. ٭باحث في العلوم السياسية