ربما هو قدري أن أمشي ضد التيار في رأيي من بعض القضايا التي تكاد تحقق الاجماع في تقدير الرأي العام لها ، وربما هي علاقتي الوطيدة بالقارة الجنوب أمريكية من تُتيح لي ما أخاله تواصلا واقعيا مع مجريات أحداثها السياسية ،والحدث البارز هذه الأيام بدون منازع هو رحيل الرئيس الفننزويلي هوغو شافيزHugo Chavez . هو شخصية استثنائية بكل المقاييس، طبعت جنوب القارة الأمريكية في العقدين الأخيرين وربطته بمحيطه الاقليمي والعالمي بشكل غير مسبوق. لن أجادل في التأثير الذي أحدثته سياسات الرجل في علاقته بالغرب المطبوعة بالتوتر وبشكل خاص مع الولاياتالمتحدةالأمريكية المطبوعة خلال حُكمه بالمواجهة، وبالمقابل مطبوعة بعلاقات متينة مع بقايا حصون المواجهة مع الغرب وفي مقدمتها النظامين الكوبي والإيراني وأنظمة أخرى كان لشافيز دورا في ميلادها ودعمها، نذكر منها بالخصوص بوليفيا والإكوادور. هذه العلاقة المتوترة مع الغرب وشخصية الرجل وكارزميته البوليفارية المتميزة جعلت منه بطلا ثوريا يستنهض مشاعر الملايين من شعوب العالم وجلبت له تعاطف كل من توافق معه في مواجهة الغرب وأمريكا وإدانة تدخلها العسكري والاقتصادي في العالم وبالأخص غزو العراق وأفغانستان. كان طبيعيا كذلك أن تستنهض مواقف الرجل من الكيان الصهيوني وطرده للسفير الاسرائيلي من العاصمة كاراكاس احتجاجا على جرائمه في غزة تعاطف الفلسطينيين والشعوب العربية وكل الشعوب المقهورة، لكنه بالمقابل لم يقطع العلاقات مع اسرائيل وساند القدافي وتحالف مع الجمهورية الاسلامية الايرانية وغيرها من الأنظمة التي تلاحق وتسجن معارضيها وتقتل الحريات وتكتم أنفاس كل من يُفكر. كان الرجل يتقن التواصل مع البسطاء ومع عامة الشعب سواء بنزوله المستمر للشارع أو عبر الأثير في برنامجه الشهير "آلو السيد الرئيس" الذي كانت تبثه القناة الفننزويلية الرسمية، وكان لبعض مقاطع برنامجه صدى عالميا وهو يأمر فيها مباشرة على الهواء مرؤوسيه بحل مشكل ما لمواطن ما اشتكى للرئيس عبر الهواء أو بإلغاء قرار حكومي. ووصل الأمر إلى مهاتفة وزير الدفاع مباشرة وعلى المباشر يأمره بتحريك القوات المسلحة إلى الحدود مع كولومبيا. كما أن خرجاته الاعلامية المدروسة والمحسوبة في استفزاز الرؤساء الأمريكيين وزملائه من رؤساء دول أمريكا الجنوبية جلب له تعاطف وإعجاب كل تقدمي مناهض للهيمنة الأمريكية وحلفائها الصغار والكبار. لا يختلف اثنان أن الرئيس الفننزويلي الراحل كان شخصية شعبوية بامتياز، يُتقن حشد الرأي العام بشكل قل نظيره ويُتقن فن الخطابة والإشارات بقدر ما يتقن إخراج المشاهد بشكل مسرحي تشد المواطن وتمنع عنه التفكير ويبرع في دغدغة العواطف الوطنية والقومية ولا يتوقف عن صنع الحدث. هذه القدرات الهائلة جعلت من شافيز شخصية استثنائية بين رؤساء الدول منذ نهاية القرن العشرين إلى الآن، وجعلت منه زعيما خالدا يضاهي جمال عبد الناصر وتشي غيفارا وسيمون بوليفار وباتريس لومومبا وغيرهم من زعماء خلدوا بوطنيتهم وبجرأتهم وبخطاباتهم وبمواجهتهم للغرب. في المقابل وبتفكير هادئ بعيد عن المشاعر وعن عواطف لا تخلو من صدقية ، تحضرني كمتتبع أسئلة عدة عن مكامن الضعف والقوة في هذا الزعيم، وعن هامش الصواب والخطأ في سياسات هذا الرجل وعن نتائجها المباشرة على مصير الملايين التي رفعته منبهرة به إلى مصاف الخالدين وصنعت منه أسطورة أبدية. هل استطاع الرجل أن يُخفض مستوى الفقر في فنزويلا؟ ، هل استطاع التخلص من ديون هذا البلد البترولي الأول في أمريكا الجنوبية؟ هل حقق ما حققه نظيره البرازيلي لولا داسيلفا Lula Dasilva الذي انسحب هادئا بعد أن وضع البرازيل في مصاف الدول الكبرى من حيث اقتصادها وبرامجها الاجتماعية؟ المعروف والمؤكد أن مستوى الفقر في فنزويلا ارتفع بشكل مهول وكذلك مستوى البطالة وهامش الحريات الذي تراجع بشكل خطير ومست الخروقات حتى بعض الشيوعيين وغيرهم من التقدميين. حقيقة أنه لم يُلغ الدستور وحافظ على الشكل الديموقراطي للدولة لكنه أعاد ترتيب الدولة على مقاسه كزعيم خالد ، وحقيقة أنه لم يستعمل دائما قوى الأمن لملاحقة معارضيه لكنه أسس لأجل ذلك ميليشيات موازية تابعة لحزبه الاشتراكي البوليفاري المسيحي . شعبوية من يسمونه بالرئيس القائد دفعته إلى تحالفات أساسها العلاقة مع عدو مشترك اسمه أمريكا ناسجا علاقات قوية مع النظام الايراني ونظام العقيد القدافي ومُتخدا مواقف معادية للربيع العربي وأخرى تابعة للحليف الكوبي كالموقف من نزاع الصحراء الغربية ومن مشروع الحكم الداتي الذي اقترحه المغرب كحل للنزاع. سألت صديقا فننزويليا هاتفته يوم الاعلان عن وفاة الرئيس شافيس عن رأيه في تركة الرجل فأخبرني ضاحكا " عظمة هذا الرجل هي أنه استطاع أن يجعل من الرداءة أسطورة خالدة،ومن الفوضى نظاما يُحتدى به، والطامة أننا بعد تحنيطه سنبقى رهائن لهذه الاسطورة عقودا طويلة وسيبقى الغرب الفائز الأول والمستفيد الوحيد من هذه الأسطورة الكاذبة " إشارات صديقي الفننزويلي تُحيل إلى تركة ثقيلة يتصدرها عجز ضريبي يعتبر الأكبر في أمريكا الجنوبية ، وأكبر نسبة تضخم في المنطقة وأكبر انخفاض في الطاقة الانتاجية بما في ذلك البترول، كما انتقلت فننزويلا في عهده إلى مقدمة الدول الأكثر فسادا في العالم بعد أن بنى شافيس حملته الانتخابية الأولى على شعار اجتثاث الفساد وملاحقة الفاسدين الذين أصبحوا اليوم من محيطه الحزبي والعائلي. إلى جانب كل هذه الكوارث التي جنتها فننزويلا بعد 14 سنة من حكم هذا الرجل تنضاف كوارث أخرى أبرزها أن البلد تحول إلى مرتع للإجرام الدولي وتبييض العملة والجريمة المنظمة على مستوى كولومبيا سابقا والمكسيك حاليا. تاريخ الشعوب اللاتينية والعربية حافل بمثل هذه النمادج التي تصنع الأسطورة من زعمائها و تبقى حبيسة لبطولات الزعيم الصوتية ردحا من الزمن.