قبل سنة من هذا التاريخ كتبت مقالا بعنوان "الدروس المستفادة من مواجهة الصين لفيروس "كورونا المستجد"..و أشرت فيه إلى أن الصين " قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، و قد نجحت مؤخرا في السيطرة على "فيروس كورونا المستجد"، و خرجت من عنق الزجاجة، و تجاوزت –إلى حدما- أزمة في غاية الخطورة ، وقد لعب الحزب الشيوعي الصيني، الذي يهيمن بشكل منفرد على السلطة السياسة في الصين منذ 1949 إلى حدود اليوم، دورا محوريا في إدارة الأزمة، و الحد من تداعياتها الصحية و الاجتماعية و الاقتصادية،فمع تفشي الوباء في مدينة "ووهان" و باقي المدن تم اتخاذ قرار الحجر و عزل مدن بأكملها، ووقف حركة الأشخاص و نشر القوات العمومية لتزويد السكان بالمؤن والأدوية، و الحرص على إنفاذ القانون بصرامة لمنع انتقال العدوى، و تبين أن هذا التوجه كان صائبا، لأنه مكن البلاد من السيطرة على المرض، و قد تم تبني ذات الأسلوب في أغلب الديمقراطيات الغربية و في معظم البلدان المتضررة من الوباء..و هذا النجاح الصيني دفع الحكومة الصينية إلى إصدار "كتاب أبيض " تشرح فيه إستراتيجيتها في محاصرة الوباء، و قد أوضحنا من خلال تحليل كلمة الرئيس الصيني في منتدى دافوس الأخير كيف أن الصين أصبحت تغير لهجتها تدريجيا و خاصة في مواجهة "الغطرسة" الأمريكية… فالقيادة الصينية تمكنت في أكثر من مناسبة من تحويل الأزمات إلى فرص رأينا ذلك في سبعينات القرن الماضي بعد فشل سياسة الثورة الثقافية ، و تبني الحزب الشيوعي سياسات مناهضة للماوية ، و التحول التدريجي نحو اقتصاد السوق، و في الأزمة الأسيوية لعام 1997 تم إستغلال هذه الأزمة بفعالية من قبل القيادة الصينية لتعزيز القطاع المالي و تقويته، و في الأزمة المالية لعام 2008 تم تعزيز نفوذ الصين داخل البلدان الغربية ذاتها، من خلال الاستثمار بكثافة في شراء سندات الدين الأمريكية و الأوربية ، و أيضا شراء أسهم الكثير من العلامات التجارية في قطاعات محددة كصناعة السيارات و التكنولوجيا المتقدمة، و بنفس الأسلوب تعاملت الصين مع أزمة كورونا و حولتها إلى فرصة مجددا، و يظهر ذلك من خلال إدارة الأزمة و حماية أرواح الصينيين، و إخراج الاقتصاد الصيني من الأزمة… أولا- حماية أرواح الصينيين: لايمكن تحليل تجربة الصين في مواجهة الفيروس الذي أرهق معظم البلدان دون فهم دور و مركزية الحزب الشيوعي الصيني، فقد لعب هذا الحزب دورا بالغ الأهمية في إدارة أزمة تفشي الوباء ، كما لعب من قبل دورا محوريا في عملية التحديث السياسي و الاقتصادي للصين خاصة بعد 1979، و على خلاف كثير الملاحظين الذين يعتقدون بأن انطلاق الإصلاحات الاقتصادية في الصين، والتحول نحو اقتصاد تتحكم فيه أكثر آلية السوق و الحرية الاقتصادية. قد جعل الحزب الشيوعي يلعب دورا هامشيا على مسرح السياسة و الاقتصاد في الصين. غير أن الواقع عكس ذلك، فالحزب/ الدولة لازال يتحكم في الاقتصاد كما يتحكم في المجتمع و هو ما أظهرته أزمة فيروس كورونا المستجد، فالحزب الشيوعي و الدولة الصينية، فاعلين أساسيين في المجتمع، فهما منبع صنع القرار السياسي والاقتصادي و الاجتماعي، كما أنهما يلعبان دورا محوريا في صياغة وتنفيذ التحولات الماكرو اقتصادية – اجتماعية في الصين. وما يثير الانتباه في التجربة السياسية للصين، هو أن البلاد شهدت تحت سيطرة الحزب الواحد إصلاحات مؤسسية و سياسية، حاولت المزج بين محاسن الليبرالية الاقتصادية وبين القيم الآسيوية في الحكم والأطر الماركسية اللينية، فالحزب الشيوعي الذي كان متمسكا بفكرة الراديكالية السياسية طوال الفترة الماوية، تمكن من تطويع الاشتراكية المحافظة، وجعل منها "جسر عبور" لتبني إصلاحات ذات نزعة ليبرالية "بمفردات اشتراكية". وبالرغم من أن الدولة تخلت عن السيطرة الكاملة على الاقتصاد، وفتحت المجال لفاعلين غير دولاتيين، إلا أنها لازالت تلعب دورا مهما في مجال المراقبة والإشراف، كما تم الانتقال من النزعة الجمعية والتي تشكل أس الاشتراكية المحافظة إلى النزعة الفردية التي تشكل أس الليبرالية، دون أن تفقد الدولة سيطرتها على المجتمع… فالدستور الصيني لازال يعتبر أن المهمة الأساسية التي تواجه "..الأمة الصينية..تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني والتوجيهات الماركسية- اللينينية وأفكار "ماو تسى تونغ" ونظرية "دنغ شياو بينغ" والفكر الهام للتمثيلات الثلاثة، هي مواصلة الالتزام بدكتاتورية الشعب الديمقراطية والطريق إلى الاشتراكية، والمثابرة على الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي، وتحسين المؤسسات الاشتراكية ، وتطوير اقتصاد السوق الاشتراكي وتطوير السياسة الديمقراطية الاشتراكية وتحسين النظام القانوني الاشتراكي ، و تحديث الصناعة في البلاد، والزراعة، والدفاع الوطني و العلوم والتكنولوجيا ، وتعزيز التنمية المتناغمة ، لتحويل الصين إلى دولة اشتراكية مزدهرة وقوية وديمقراطية ومتقدمة. فالدولة الصينية عملت على مواجهة التحديات التي واجهتها منذ 1978 بتبني أسلوب فريد في اللامركزية بين البيروقراطية المركزية والبيروقراطية المحلية، والواقع، أن نمط إدارة شؤون البلاد يصعب فصله عن الخصوصية الديموغرافية والجغرافية والتاريخية والثقافية للصين، فالحجم الكبير لديموغرافية وجغرافية الصين، جعل من اللازم تفتيت المشاكل وإحالتها للبيروقراطية المحلية، التي تتولى تدبير الشأن المحلي، وتعمل على توفير السلع العامة… وهو نفس الأسلوب الذي تم تبنيه في الحقبة الإمبراطورية، فالمركز كان دائما يحرص على الابتعاد قدر الإمكان عن التدخل في الشؤون المحلية، وعمل على إعطاء الحكام المحليين صلاحيات واسعة…و ذات الأسلوب تم اعتماده في مواجهة تفشي الوباء، و يعلم الجميع أن مدينة "ووهان" كانت البؤرة التي انتشر منها الفيروس إلى باقي الصين و منها إلى باقي أقطار الأرض…و لم تطلع السلطة المركزية بدور مهم في بداية تفشي الوباء في أواخر 2019، لكن مع توسع دائرة الوباء و ارتفاع عدد الموتى تدخلت السلطة المركزية بفعالية في إدارة الأزمة و هو ما دفع الصين إلى الترويج لتجربتها في محاصرة الفيروس … وقد ذكر الكتاب الأبيض الذي أصدرته بكين أن مراكز العلاج المؤقتة أو ما تعرف بمستشفيات "فانغتسانغ" تعد حلا مبتكرا رئيسيا حال دون تفش كبير للوباء في الصين…وذكر الكتاب أن مدينة ووهان -منشأ الفيروس- قامت بتحويل الملاعب ومراكز المعارض إلى 16 مركزا مؤقتا للعلاج، حيث وفرت هذه المراكز حوالي 14 ألف سرير وتمكنت من قبول جميع الحالات الخفيفة،وأوضح أن هذا الإجراء ساعد على الحد من العدوى وانتقال الفيروس في المجتمعات السكنية ومنع الحالات الخفيفة من التفاقم. و ذكر الكتاب الأبيض أن معدل الشفاء من فيروس كورونا المستجد وصل إلى أكثر من 94.3% في البر الصيني…وأوضح أنه "تم تطوير مجموعة من بروتوكولات التشخيص والعلاج للطب الصيني التقليدي لتغطية العمليات الكاملة المتمثلة في الملاحظة الطبية، وعلاج الحالات الخفيفة والمعتدلة والخطيرة والحرجة، والتعافي"..وأشار إلى أن أكثر من 90% من ذوي الحالات المؤكدة في مقاطعة هوبي -وهي المقاطعة الأكثر تضررا- تلقوا علاجات للطب الصيني التقليدي أثبتت فعاليتها.كما ذكر الكتاب أن السلطات وفرت العلاج الطبي المجاني لكل المرضى المصابين بالوباء…و تمت تسوية الفواتير الطبية ل58 ألف مريض عن طريق التأمين الطبي الأساسي، مع إجمالي نفقات بلغ حوالي 190 مليون دولار… و نجاح الصين في مواجهة الجائحة و إنقاذ مواطنيها عزز من شرعية الحزب الشيوعي في الداخل، و توجه الصين نحو تقديم المساعدات للدول المتضررة عزز نفوذها على المستوى الخارجي، خاصة بعد رحيل ترامب عن السلطة… ثانيا- إنقاذ الاقتصاد الصيني من الأزمة: نجاح الصين في إدارة أزمة كورنا لم ينحصر في الجانب الصحي و إنما إمتد أيضا إلى الجانب الاقتصادي فقد نجحت الصين في إنعاش الاقتصاد الصيني و إخراجه من حالة الانكماش، فقد أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الصيني، خلال الشهر الماضي تعافي تدريجي للاقتصاد الصيني فاق توقعات المحللين في الربع الأخير من 2020، إذ بلغ معدل النمو 6.5% على أساس سنوي، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.3% في 2020، لتصبح الصين الاقتصاد الرئيسي الوحيد في العالم الذي لم ينكمش العام الماضي في ظل مصاعب واجهت معظم البلدان لاحتواء جائحة "كوفيد-19″… و الانتعاش الذي سجله الاقتصاد الصين جاء نتيجة لنمو قطاع التصدير، أفادت البيانات بارتفاع الناتج الصناعي للصين بمعدل أسرع من المتوقع بلغ 7.3% في ديسمبر 2020 مقارنة بعام 2019 ، ليواصل النمو للشهر التاسع على التوالي في استمرار لتعافي ما بعد«كوفيد-19» الذي يشهده قطاع الصناعات التحويلية الضخم، مدعوماً بصادرات قوية…وارتفعت مبيعات التجزئة الصينية 4.6% على أساس سنوي خلال شهر ديسمبر 2020، بينما كانت توقعات المحللين أعلى من ذلك عند نمو يبلغ 5.5%، ومقابل نمو نسبته 5% في نوفمبر..وزادت استثمارات الأصول الثابتة 2.9% في 2020، مقارنة بتوقعات عند 3.2% وارتفاع 2.5% في الأحد عشر شهراً الأولى من السنة… هذا الأداء الاقتصادي الجيد نتاج للتدابير التي اتخذتها الحكومة الصينية من خلال العمل على محاصرة الوباء جغرافيا، دون فرض حجر صحي على كامل تراب الصين، و ثانيا السعي نحو إيجاد تلقيح ضد الفيروس، و قد نجحت الصين في إيجاد التلقيح في وقت مبكر من عام 2020 و بدأت بتجريبه على قطاعات واسعة من السكان…ففي الوقت الذي تبنت معظم البلدان استراتيجة الحجر الصحي و الإغلاق الكامل، نجد أن الصين عملت على رفع الحجر في وقت مبكر ، و تبنت أساليب بديلة لمواجهة الوباء دون وقف عجلت الاقتصاد و هذا ما منحها ميزة تنافسية في وقت شحت في الكثير من السلع في الأسواق الدولية ، و عملت الصين على مواكبة الطلب العالمي و خاصة على السلع ذات الاستعمال الطبي..و بحسب صندوق النقد الدولي فإن الاقتصاد العالمي في 2020 انكمش بحوالي 4%، و من المتوقع أن يحقق هذا العام نموا بمعدل 5.2%، في حين من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الصيني بمعدل 8.2%… فوباء كورونا وتداعياته الاقتصادية كانت لصالح الصين، فإدارة بكين الفعالة للأزمة جعلتها الاقتصاد العالمي الرئيسي الذي توسع العام الماضي و هذا العام أيضا ..و بذلك تكون الصين نجحت في الخروج من الأزمة بأقل الخسائر مقارنة بالوضع في باقي الاقتصاديات المتقدمة و على رأسها الاقتصاد الأمريكي… لذلك، أعتقد أن هذا العام سيكون حاسما في لعبة الشطرنج بين الصين و أمريكا، خاصة و أن بكين أخدت توسع خياراتها التجارية و محاولة تقليص إعتماد الصادرات الصينية على السوق الأمريكي، و البحث عن بدائل أخرى..كما أنها تسعى إلى الحد التدريجي من هيمنة الدولار الأمريكي.. و في هذا الإتجاه تم إصدار اليوان الإلكتروني، و بنظري هذه الخطوة الصينية هي إستعداد لمعركة طاحنة عنوانها إنهاء هيمنة الدولار و هو الأمر الذي سيكون محور المقال الموالي إن شاء الله … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..