أشرنا في مقال "رسالة الإسلام دعوة إلى العدل و الإنصاف و نبذ لظلم و الإجحاف" إلى أن تصريحات الرئيس الفرنسي مجرد تصريحات "طفولية" صادرة عن عقل حاقد ضحل التفكير، ولا ينبغي أن ننظر لها على أنها تهديد لهذا الدين العظيم، فلو كان لمثل هذه الافتراءات و الهجمات تأثير يذكر ، لما قامت لهذا الدين قائمة، فمنذ الشهور الأولى للبعثة النبوية ، تعرض النبي محمد عليه الصلاة والسلام لشتى أصناف الإهانة و محاولات النيل من عرضه وشرفه، فقد أتهم ب"المجنون" و "الساحر"، كما تعرض الإسلام ودولته الناشئة إلى هجمات للمشركين من القبائل العربية، ومن يهود المدينة وحلفاءهم من المشركين والمنافقين، كما تعرض الإسلام لهجوم الفرس والروم و أوروبا المسيحية والتتار… فالهجمات توالت عبر التاريخ إلى يومنا هذا … فمخطئ من يظن أن الحرب على الإسلام توقفت في فترة من فترات التاريخ، فهذه الصراعات و الصدامات لم ولن تندثر، فقد تتوقف أحيانا ولكن تعود مجددا، ولكنها مستمرة إلى يوم القيامة، ويخبرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث صحيح عن هذه الصراعات والهجمات المتكررة والتكالب على أمة الإسلام إلى يوم القيامة، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ الساعةُ حتى ينزلَ الرومُ بالأعماقِ أو بدابقٍ، فيخرجَ إليهم جيشٌ من المدينةِ من خيارِ أهلِ الأرضِ يومئذٍ، فإذا تصافوا، قالتِ الرومُ: خلُّوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نُقاتلُهم، فيقولُ المسلمون: لا واللهِ لا نُخلِّي بينكم وبين إخوانِنا، فيُقاتلونَهم، فيُهزمُ ثلثٌ لا يتوبُ اللهُ عليهم أبدًا، ويُقتلُ ثلثٌ هم أفضلُ الشهداءِ عندَ اللهِ، ويفتحُ الثلثُ، لا يفتنون أبدًا، فيفتحون القسْطَنْطينيةَ، فبينما هم يقتسمونَ الغنائمَ قد علَّقوا سيوفَهم بالزيتونِ، إذْ صاح فيهم الشيطانُ: إنَّ المسيحَ قد خلَفَكم في أهلِيكم، فيخرجون وذلك باطلٌ، فإذا جاءوا الشامَ خرج، فبينما هم يُعَدُّون للقتالِ، يسوون الصفوفَ، إذ أُقيمتِ الصلاةُ، فينزلُ عيسى ابنُ مريمَ، فأمَّهم، فإذا رآه عدوُّ اللهِ ذاب كما يذوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلو تركه لانْذابَ حتى يهلَكَ ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته…. " فهل نجحت هذه الاتهامات و الهجمات و الحروب المختلفة، في وقف مسيرة الدعوة الإسلامية وانتشار الإسلام في كل أرجاء الأرض..؟ ولماذا نرى أن الهجمة الحالية على الإسلام و أهله مجرد إمتداد لسابقاتها من الحملات الصليبية ؟ ولماذا تصريحات الرئيس الفرنسي المسيئة للإسلام ونبيه محمد عليه السلام، هي إمتداد لإدعاءات البابا "أوربان الثاني" الذي أطلق شرارة الحروب الصليبية وحشد الحشود و جند الجنود و عامة الناس في فرنسا ومعظم دول أوروبا الكاثوليكية لغزو الشرق الإسلامي تحت حجة نصرة المسيح؟ لذلك، فإن دراسة تاريخ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، فرصة لفهم أحداث اليوم، وفهم أسباب هذه الهجمات المتكررة التي تحركها دوافع دينية وحضارية، خاصة وأن الخطاب الديني الغربي، ماهو إلا تغطية على الدوافع الإقتصادية و التوسعية، كما أن العودة إلى تاريخ الحملات الصليبية التي إمتدت لأكثر من مائتي سنة من 1095م إلى 1400م..يفيدنا لفهم أسباب الإنحدار و الهزيمة.. فكلما إبتعدت الأمة عن دينها وتولى أمرها حكام تحركهم المصالح الخاصة، و تحكمهم نزوات الحكم والثروة، ولا تحركهم المشاعر الدينية والسعي لنصرة الدين و الدفاع عن الأرض والعرض والدين، إلا وكانت الأمة الإسلامية عرضة للإحتلال و التفكك .. فما أشبه الحاضر بالماضي، وما أشبه اليوم بالأمس… أولا – البابا "أوربان الثاني" مفجر شرارة الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي: والحروب الصليبية هي "سلسلة الحروب التي شنَّها المسيحيون الأوربيون على الشرق الأوسط للاستيلاء على بيت المقدس، ومنذ أن انتصرت القوات الإسلامية على القوات البيزنطية في معركتي "اليرموك" و"أجنادين" في عام 13 الهجري، منذ ذلك الوقت والإسلام يهاجم الصليبيين ويفتح أراضيهم، وظل الصليبيون يترقبون الفرصة والزمن المناسب للأخذ بالثأر ورد الفعل.." ، و لم يكن هناك زمن أفضل من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ذلك أن المجتمع الإسلامي كان قبيل نشوب الحروب الصليبية، في حالة يرثى لها من الفوضى والانحلال، فمصر الفاطمية كانت نهبًا للثورات والمنازعات الداخلية، ولم تكن تسكن فيها الفتنة حتى تنشب الأخرى، كما كانت المجاعات والأوبئة تنهك من قواها.. أما الخلافة العباسية فلم تكن أحسن حالًا حيث كانت تسيطر عليها الثورات، كما كان يسودها حالة من الفتن المذهبية والحوادث التي تملأ البلاد هرجا و مرجا، إضافة إلى الضعف الشديد الذي كان يتسم به الخلفاء الذين تولوا الحكم خلال هذه الفترة…أيضا الدولة السلجوقية التي امتدت امتدادًا عظيما في عهد عظماء سلاطينها و خاصة "ألب أرسلان"، لم تدم عظمتها كثيرًا وانقسم البيت السلجوقي على نفسه، ولم يكن وضع المجتمع الإسلامي في إفريقيا و الأندلس أفضل، بل اشتعلت الثورات والمعارك والاضطرابات الداخلية من ناحية، وعم الفساد والفتن من ناحية أخرى، وهكذا انتهز الصليبيين الفرصة التي طالما إنتظروما منذ زمن بعيد .. وفي هذه الأثناء صعد نجم البابا "أوربان الثاني" الذي تولى كرسي البابوية في سنة (480ه) 1088م، وكان من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية، وكان لولايته الأثر في تغيير صفحات متتالية من التاريخ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن.. فهو الذي آخذ قرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي.. وقد كان "أوربان الثاني" "رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا، خطيبًا مفوَّهًا، مطلعا على أحوال العالم المعاصر له، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدا كبيرًا على المسلمين، سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح، أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية… ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعا في العالم، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية، استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه "جريجوري السابع"…" وقد إستغل "أوربان الثاني" ظروف العالم الإسلامي، كما تعامل مع طلب الإمبراطور البيزنطي "ألكسيوس كومنين" ببرغماتية ، فقد سبق للإمبراطور البيزنطي أن أرسل وفدًا إلى البابا السابق "جريجوري السابع" لمساعدته على صد هجمات السلاجقة المسلمين، لكن دعوته لم تلقى القبول الجيد، مما أضطر الإمبراطور لإعادة الطلب، إذ أرسل وفدا أخر إلى إيطاليا في مارس سنة 1095م لمقابلة البابا "أوربان الثاني"، وتجديد طلب المساعدة منه، و قد تم قبول الطلب من قبل البابا "أوربان الثاني"، الذي رأى في هذا الطلب فرصة لتحقيق مجموعة من الأهداف : – سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا.. – سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة، وسيحتفظ بالقيادة في يده، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان، وسحب الثقة، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا.. – لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيّا فقط، بل سيتحسن اقتصاديا أيضا، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال، تكفيرًا عن امتناعهم عن الذهاب لفلسطين..كما أن الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا، وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا… – كما ان طاقات أوربا العسكرية ستنصرف إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي..خاصة و أن الحرب سوف تشن ضد المسلمون العدو التقليدي للكنيسة و لمسيحي أوروبا الكاثوليكية و الأرثوذكسية …(للتوسع أكثر انظر: راغب السرجاني، قصة الحروب الصليبية من البداية إلى عهد عماد الدين زنكي، مؤسسة إقرأ للنشر و التوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية ، 2009،) ثانيا- أوجه الشبه بين الحملات الصليبية السابقة والحملات الغربية اللاحقة: والجدير بالذكر، أن هناك تشابه عجيب بين هذه الحقبة القديمة التي مر عليها أزيد من تسعة قرون و زماننا هذا، فكما قامت قوات التحالف الغربي المسيحي بغزو العالم الإسلامي، و التحالف و التكاثف بينهم لحرب و احدة ضد عدو مشترك " المسلمين"، و كما رأينا تعاون رجال السياسة و الحرب، و رجال الدين و الإقتصاد، على إنجاح هذه الحرب، فإننا نرى منذ عقود، بنفس الأسلوب و المنهج، والوحدة و التكاثف، هجمات غربية شرسة و متناسقة، على العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا و من نواكشوط إلى المنامة… وكما رأينا غزو الصليبين لشام و فلسطين و أجزاء من تركيا و مصر و الحجاز إبان الحملات الصليبية، نرى الآن الهجمات مستمرة و الجهود متتالية لغزو و إضعاف العديد من المناطق في العالم الإسلامي، صحيح أن الحمولة الدينية المسيحية تراجعت شيئا ما، في خطابات المستعمرين الجدد، إلا أن الدوافع النفسية و السياسية لا تختلف عن دوافع الحروب الصليبية، ففي عام 2001 ، أعاد رئيس الولاياتالمتحدة "جورج دبليو بوش" فتح الجرح الذي يبلغ من العمر حوالي ألف عام، ففي الأيام التي تلت هجمات 11 سبتمبر، و تحديدا يوم الأحد 16 سبتمبر 2001 ، قال الرئيس بوش : "هذه الحملة الصليبية ، هذه الحرب على الإرهاب ، سوف تستغرق بعض الوقت"… ورأينا ذلك مجددا في خطاب "ماكرون" واتهاماته للإسلام و سعيه "الشاذ" لمحاربة "الانعزالية الإسلامية" و "التطرف الإسلامي " و تدخله السافر في الشأن اللبناني و التركي و الجزائري و المالي.. فهذا الموقف العنصري و السلوك العدواني، ماهو إلا إمتداد للإستعمار الفرنسي، الذي بدأ بغزو "نابليون بونابرت" لمصر، مرورا باحتلال الجزائر و باقي البلدان المغاربية، و احتلال العديد من البلدان الإسلامية الأخرى في الشرق العربي، بل خطاب "ماكرون" و إتهاماته للإسلام إمتداد للحملات الصليبية التي انطلقت من الأراضي الفرنسية … فخطاب البابا "أوربان الثاني" في يوم 27 من نوفمبر سنة 1095م، كان في مدينة "كليرمون" الفرنسية، و من أرض فرنسا دعا الملوك والأمراء وعامة الشعب إلى التوجه عسكريًّا إلى الشرق الإسلامي، و الاتحاد من أجل إستخلاص الأرض المقدسة من المسلمين، و ضرورة إسراع المسيحيين الغربيين لنجدة إخوانهم في الشرق، وقال : " طهروا قلوبكم من أدران الحقد، و اقضوا على ما بينكم من نزاع، و اتخدوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأراضي من ذلك "الجنس الخبيث"، و تملكوها أنتم.. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها ، هي فردوس المباهج …" فما أشبه الحملات الصليبية بالحملات الغربية اللاحقة؟ ألم تسفر الحملات الصليبية على زرع كيان غريب في فلسطين عرف ب "مملكة بيت المقدس الصليبية" ، وإستمر هذا الكيان عشرات السنين، و حظي بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي ، و ألم تسفر الهجمة الإستعمارية الغربية عند نهاية القرن 19 و مطلع القرن 20 عن نشأة كيان يهودي زرع في نفس الأرض فلسطين و يمد بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي… وكما أن الفكر الاستيطاني كان محركا للحروب الصليبية، إذ تم في الحملات الصليبية إحضار و حشد الرجال و النساء و الأطفال من مختلف أقطار أوروبا، لا لينتصروا في معركة ويعودوا بالنصر و الغنائم إلى أوطانهم، و لكن تم إحضارهم لكي يعيشوا و يستقروا و يملكوا ما كان بيد المسلمين في القدس و أطرافها..فقد جاءوا للأبد و تركوا كل روابطهم القديمة، جاءوا لكي يغيروا من واقعهم و لكي يبنوا مستقبلهم بأرض لم و لن تكون لهم..نفس الفكر الإستيطاني هو الذي تأسست عليه الدولة الصهيونية في أرض فلسطين، ألم يهاجر اليهود الصهاينة بأسرهم من كل بقاع الأرض إلى أرض فلسطين ليستقروا بها بلا عودة… وكما أن الحملات الصليبية منذ عهد البابا "أوربان الثاني" ما كان لها أن تنجح في السيطرة على العديد من الأراضي الإسلامية بما فيها مدينة القدس ، لولا التخاذل من كثير من زعماء العرب و المسلمين و ظهور نماذج مخزية في تاريخ الحروب الصليبية، تفسر الانهيارات المروعة و الهزائم التي حدثت في مقاومة المسلمين للمد الصليبي ، و تحالف بعضهم مع أمراء صليبين ضد حاكم مسلم في تجسيد حي ل"ملوك الطوائف" بالأندلس.. و في عصرنا هذا نرى نفس التخاذلات و التحالفات بنفس الروح، ألم يعقد بعض حكام العرب تحالفت و إتفاقيات سلام و تطبيع مع الكيان الصهيوني حماية لعروشهم …في خيانة سافرة و مذلة للحقوق الإسلامية و الفلسطينية …و كما حرص أعداء الأمة على منع الوحدة والتكامل بين الأقطار الإسلامية طيلة الحملات الصليبية ، كذلك حاولوا و لا زالوا يحاولون منع الوحدة و التكامل بين البلاد العربية و الإسلامية، فلا تكاد تجد اليوم بلدين جارين على وئام، فأغلب البلدان العربية و الإسلامية لها مشاكل حدودية مع جيرانها …بل إن أغلب البلدان تعاني من صراعات طائفية و إثنية و عرقية ، و ما كان لهذه الخلافات لتظهر أو تطفو على السطح، لو إستمرت هذه البلدان في تمسكها بصحيح دين الإسلام، الذي يدعو إلى العدل و التسامح و الحوار و المساواة بين الجميع فلا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى، و لا فرق بين مسلم و ذمي في أرض المسلمين، و قد بينا عدل الإسلام مع غير المسلمين.. بل إن الصراع الإسلامي – المسيحي صراع أججه و فرضه الغرب الصليبي الإستعماري ، أما الإسلام فقد إحترم كل الأديان و تعايش مع المسيحية و إحترم نبيها عيسى إبن مريم عليه السلام و إعترف بفضله و سبقه… وسنحاول في مقال موالي إتمام هذا النقاش إن شاء المولى تعالى… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..