ما يكاد يمرّ أسبوع حتى تزداد العلاقة بين فرنسا والإسلام سوءا، وتتغذى من تدابير وتصريحات وتصرفات وأحداث مروعة، كما وقع في نيس يوم 29 أكتوبر، حين أقدم فتى من تونس على قتل ثلاثة أشخاص بطريقة همجية، وهم يتعبدون في كنيسة. ما اقترفه ذلك الفتى جريمة نكراء، تستوجب الإدانة الشديدة، من غير سند أو تبرير. العملية تستوجب الإدانة لأنها مساس بحق الإنسان الأول وهو الحق في الحياة، وهي عملية جبانة ضد أشخاص عُزّل يتعبدون في مكان تسوده السكينة والطمأنينة، وهي همجية بالطريقة التي تمت. والمجرم لم يقترف جرما في حق الضحايا وذويهم وحدهم، ولا ضد فرنسا فقط، ولكن ضد المسلمين وضد الإسلام. أصبح وضع المسلمين في الغرب مشبوها، ووجدها أعداء الإسلام فرصة سانحة ليُزكّوا حكمهم من أن الإسلام دين عنف، وليربطوا بين الإسلام والإرهاب، ولذلك فعلى كل المؤسسات الدينية في داخل كل بلد مسلم، أو تلك التي لها طبيعة فوق وطنية، أن تجرد من أي وضع اعتباري من يزعمون التصرف باسم الإسلام، ويجترحون أعمالا إجرامية، وأن تدافع عن حق الإنسان الأول، بغض النظر عن عقيدته وعرقه، وهو الحق في الحياة، وألا تكتفي بالإدانة، بل أن ينصرف عملها إلى المدى البعيد، في إصلاح لمنظوماتنا التربوية، لأننا نريد أن نحمي المسلمين حيثما يكونون، ونصون الإسلام من كل ما قد يلحقه من أحكام جراء تصرفات بعض المسلمين. ما أخشاه هو أن يؤجج فصل مجزرة نيس، سوء الفهم العميق، ليس فقط على مستوى فرنسا الرسمي من خلال «إجراءات عملية» حسب المصطلح الذي استعمله الرئيس ماكرون، لمواجهة ما يسمى «بالانفصال الإسلامي» بل ردود فعل المجتمع الفرنسي، أو من يعتبرون أنفسهم من أرومة فرنسية، في سلوك يتهدد العيش المشترك، ويغذي التوتر، وأعمال عنف ضد الفرنسيين المسلمين، أو ضد المسلمين عموما، ما قد يؤول إلى ما حذر منه الكثيرون من حرب أهلية. فرنسا اليوم هي غير فرنسا قبل ثلاثة أشهر.. هناك سوء فهم كبير يزداد شرخه، ولا يساعد الغضب، ولا العنف، ولا الاستفزاز على تفكير رصين. لا يمكن أن نُرجع سوء الفهم هذا إلى أحداث «شارلي إيبدو» سنة 2015، التي هي حسب الفيلسوف ميشيل أونفي بمثابة 11 سبتمبر فرنسية، ليس في حجم ضحاياها، ولكن لأنها تؤرخ لمرحلتين فارقتين، ما قبل وما بعد. وأظن من جانبي أن جذور سوء الفهم أعمق، وتعود إلى الفترة الاستعمارية، خاصة إلى حرب الجزائر. لم تنسلخ فرنسا عن الجزائر بسهولة، وخلّف ذلك رضوضا في الذاكرة الفرنسية، وتمثل في تعقب الجزائريين في فرنسا، في سلسلة من الاغتيالات، أثناء معركة التحرير وبعدها، مما يجري الكشف عنه حاليا. ظلت حرب الجزائر هي المطمور في اللاوعي الجماعي لفرنسا، وصاغت فرنسا عقب قضية سلمان رشدي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ثم قضية الفتاتين المسلمتين اللتين كانتا تضعان الحجاب في الثانوية، هوية فرنسية جديدة انبنت ضد الإسلام، وترسخ هذا التوجه أثناء ما يسمى بالعشرية السوداء في الجزائر، حين أصبحت فرنسا ساحة للصدام. أضحى الإسلام ما يسميه باحث فرنسي بالعدو الحميم. كنت أعتبر أنه من أجل العيش المشترك، أو صياغة مخيال جديد، حسب المصطلح الفرنسي، ينبغي قراءة الماضي الاستعماري قراءة موضوعية، وفتح ملف الهجرة وأبعاده، وطرح قضايا التربية، ليس في البلدان الغربية وحدها بالنسبة للجاليات المسلمة من أصول مغاربية، ولكن في بلداننا المغاربية كذلك. وكنت عبّرت عن ذلك في برنامج في قناة «فرانس 24» في 20 نوفمبر 2015 عقب هجمة باتكلان. لكن الدعوة إلى حوار هادئ كان عبارة عن صيحة في واد ونفخة في رماد كما يقال، وأن ما يهم فرنسا هو التعاون الأمني مع المؤسسات الأمنية، أما على مستوى الوجدان، فلم تكن فرنسا مستعدة لكي تستمع لصوت غير صوتها وصوت خبرائها، أو من هم أشبه ما كان يسمى أثناء الفترة الاستعمارية ب»عربي الخدمة» عن «الإسلام الفرنسي» و»سبل استئصال التطرف» و»العلمانية الإيجابية» وهي كلها تدابير آلت إلى الفشل. طرحت فرنسا عقب مقتل أستاذ التاريخ صمويل باتي قضية حرية الرأي. ولا جدال في أهمية الحرية، بيد أن الحرية فكرة إنكليزية أكثر من أن تكون فرنسية، ولإنكلترا فهم للحرية، سواء مع جون لوك أو جون ستوارت ميل، يقترن بالمسؤولية وعدم التجني على حقوق الأقلية. ويجعل هيغل الاعتراف، وما يرتبط به من كرامة مُقدَّما على الحرية، بل حتى على العدالة، ولعل ما ينبغي أن نحيل إليه كتاب فرنسيس فوكوياما الأخير حول الهوية ومطلب الاعتراف، أو ما يدعو له بعض المفكرين من «مجتمع لائق» لا تشترك عناصره في توزيع عادل للثروات فقط، بل كذلك في التوزيع العادل للرموز، وعدم المساس بها، أو الهزء بها. هذا الذي ألمعت إليه غائب في الفكر الفرنسي، الذي يظل موسوما بما يمكن أن ننعته بمركزية ثقافية، ولعل هذا الشعور بالمركزية ما حدا بالرئيس الفرنسي من أن يقول ما قاله من أن الإسلام يعيش في أزمة. لا نود أن ننكئ جراح بلد مكلوم، ولكن فرنسا وخبراءها يدركون أن من يُقدْمون على أعمال إرهابية يعانون من اضطرابات، إما نفسية أو مشاكل اجتماعية وضروب التهميش وعدم الإدماج، ويرفعون راية الإسلام ضد ما يعتبرونه إقصاء، أو نوعا من إضفاء هالة على جنوح وموجدة، إذ كثيرون منهم جانحون، لا علاقة لهم بالإسلام، بل بالعقيدة، وهم يوظفون الإسلام في ما يعتبره الباحث الفرنسي أوليفي روا، وهو من الوجوه الموضوعية، بأسلمة التطرف، عوض تطرف الإسلام. ولم تعد فرنسا تتستر عما تسميه بالنزوع لإرساء الغيتوهات، وهو من الأسباب العميقة للتطرف، فضلا عن الإسلاموفوبيا المستشرية، بأشكالها الظاهرة والخفية. نعم لدينا مسؤولية كمسلمين من أجل صياغة تصور جديد للمعاملات، فالدين ليس هو النصوص وحدها، كما يقول ماكس فيبر، ولكن فهم الناس لتلك النصوص. وكما أن اللغة لا يمكن أن تُختزل في قواميس، ولكن فيما يبدعه الناس، كذلك الدين لا ينفصل عن سلوك من يؤمنون به، وينبغي أن نجد توفيقا بين اتجاهات أربعة، بين أولئك الذين ينطلقون من تحديث الإسلام، أو ممن يفضلون أسلمة الحداثة، أو ممن يضعون الأولية على تحديث المسلمين، أو طائفة لا تنطلق من الإسلام، وتؤمن بقيم كونية.. والحال أن هذه الاتجاهات التي من شأنها أن تصالح ما بين تراثنا وعصرنا متنافرة. هل أقول ربما ضارة نافعة؟ لا أدري. أرى أن سياجا من سوء الفهم علا حتى لم يعد طرف ينظر للآخر أو يستمع له، أو يود أن يستمع، ولعل العالم أن يكون دخل مرحلة الحروب الحضارية بعد الحروب القومية والأيديولوجية، والحروب الحضارية أشد وأنكى وتمتد لقرون. ومَن قدح فتيلها؟ المصدر: القدس العربي