مرة أخرى تقفز غزة إلى واجهة الأحداث، فقد كان للعدوان الإسرائيلي على طول الأيام الثمانية للقصف الأثر البالغ في السياسات و المواقف و النفوس على طول ربوع الوطن العربي. و سياسيا استفادت أنظمة و حكومات جراء مواقفها و مبادراتها اتجاه الحدث، و هوت أخرى بما كسبت ألسن و مواقف قادتها اتجاه الحدث كذلك. في المغرب كان للعدوان الأثر البالغ على الحراك المغربي اتجاه القضية الفلسطينية عموما و حصار غزة على وجه الخصوص. لن يستطيع أحد أن ينكر أن للمغرب رغم بعده الجغرافي عن الأراضي الفلسطينية الدور الأساسي في تحريكها و دعمها، أو خذلانها و التعتيم عليها. فالمغرب راعي الدعم المادي للقدس و المقدسيين و هو السباق إلى تأسيس المنظمات المدنية و الأهلية المساندة للقدس و فلسطين، و هو الذي شهد أكبر المسيرات و أضخم الفعاليات الداعمة لصمود الفلسطينيين، و في المغرب يختلف الساسة في كل القضايا إلا قضية دعم فلسطين. غير أنه خلال العدوان الأخير على غزة قد تغير الكثير، فالحكومة المغربية كانت أكبر الغائبين عن زيارة الديار الغزاوية، وهو ما يفتح النقاش المشروع حول أسباب هذا التقاعس و حجم تداعياته على وضعية المغرب في النسيج العربي و الإقليمي. فلا يعقل أبدا أن يتحجج البعض بأهمية نقاش الميزانية عن زيارة غزة، بحيث أنني كنت أتوقع أن يتم إعلان يوم حداد على شهداء الصمود العربي و الفلسطيني، و تأجيل نقاش الميزانية إن كان وزير خارجيتنا هو المخول الوحيد لنقاشها و خلت التشكيلة الحكومية ممن يقوم بهذا الدور. و قد كانت الفرصة مواتية لزيارة غزة قبل لقاء وزراء الخارجية العرب و قبل نقاش الميزانية بالبرلمان، و كم كنا متعطشين أن نرى زائرا مغربيا يخرق الحصار ليطأ تراب الصمود أو يعانق ثائرا أو يواسي منكوبا أو يتفوه بشهادة حق في الكيان الغاصب، لكن للأسف، تم الاقتصار على نصب الخيام لإيواء الجرحى، و هو مجهود طيب لو تم اكتماله بمواقف جريئة. فهل وصل بنا الخوف على مصالح منعدمة مع الأمريكان إلى حد التفريط في موقعنا داخل الحاضنة العربية، و هل طينة ساستنا من غير طينة وزير خارجية تركيا أو رئيس جمهورية مصر أو أمير قطر أو رئيس الجمهورية التونسية و غيرهم ممن زاروا غزة و خرقوا الحصار عن شعبها المعترف بمظلوميته دوليا بغير منازع. لا عذر للحكومة تقدمه بين يدي زلتها، لأنه لم يسبق في التاريخ السياسي الحديث للمغرب أن تخلفنا عن خطوات الأشقاء في الوطن العربي و الإسلامي شعبيا أو رسميا. فما جدوى الربيع العربي المغربي الخاص الذي يتحدث عنه الساسة الحاليون إذا كان السباق محموما إلى الزيادة في الأسعار و كسر عظام المعطلين و تناسي ملفات الاعتقال السياسي و ....في حين نرى التقاعس واضحا عن مباشرة العدالة الانتقالية و تحقيق كرامة المواطن و البحث عن الموقع المشرف ضمن المنظومة الإقليمية و الدولية. قضية فلسطين و القدس و غزة ليست قضية بهذه البساطة التي أصبح يسوق لها الآن في الأروقة السياسية، و سيأتي يوما تندم فيه الحكومات المغربية على تبني شعار " تازة قبل غزة". و للأسف فقد رأينا في المدينتين بصمات الخيبة للحكومة و النظام المغربيين. ما الذي تغير حتى تقاعس برلمانيو الأمس و وزراء اليوم عن الزيارة، و هل إلى هذا الحد وصلت الحكومة في الرقابة الذاتية على نفسها و تجنبها ما من شأنه تحريك الخلاف بيننا و بين بعض الدول العظمى أو بين المؤسسات المخزنية المغربية فيما بينها. يتحجج البعض بكون الإحجام عن زيارة وزير الخارجية كان تقديرا بعدم منافسة المبادرة الملكية المتمثلة في تجهيز المستشفى المغربي بغزة. و حتى لا نعيش الوهم البشع، متى كانت الحكومة مستقلة عن الملك، و متى كانت مبادراتها في سياق غير الاختيارات الملكية، و متى كانت الحكومة المغربية حكومة أحد غير الملك. فلا داعي إذن للاختباء وراء الذرائع الواهية. كان من الأجدر أن تقوم الحكومة باعتذار عن تخلفها، لأنها لا تمثل نفسها، و دبلوماسيتها تمارس باسم الأمة، فهل قامت الحكومة باستطلاع رأي المغاربة حتى تقف عند الحقيقة المرة و تعرف شعبيتها الحالية في الضمير المغربي. إن الغياب عن القضية الفلسطينية يعني سياسيا الاختناق الدبلوماسي العربي، و يعني كذلك فقدان المزيد من الحلفاء حول القضايا المصيرية للوطن، فكم تدخل في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير تحدث عن قضية الصحراء، و كم تدخل أحرزه المغرب في فك نزاع إقليمي، و كم شراكة استراتيجية وقعها المغرب خلال مرحلة الربيع العربي، إنه لن تجديني تصريحات المجاملة من فرنسا أو أمريكا باعتبارهما المتنافسين الرئيسيين حول خيرات المغرب و مشاريعه ذات المر دودية، و لن يجدينا كذلك تأسيس الشراكات الأهلية و المدنية الإقليمية بالإيعاز الرسمي لدغدغة عواطف المواطنين. لقد تغيرت الأوضاع الإقليمية و الدولية يا حكومة، ألم يتابع الفريق الحكومي دعوة الأممالمتحدة إلى دعم قطاع غزة و المساهمة في فك الحصار عنه، ألم يتابعوا التصريح الرسمي للصين بضرورة إشراك حماس في كل حوار مرتقب حول النزاع في الشرق الأوسط باعتبارها قوة بالمنطقة، ألم يتابعوا زيارة أمير قطر لغزة بأهله و أسرته و ذويه وهو أمير دولة يعج ترابها بالقواعد العسكرية الأمريكية، أم أنهم لم يتابعوا حتى اللقاء الحميمي الذي جمع بين قادة الأصالة و المعاصرة بخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس على أرض المغرب، أم أن محاكمة الصحفيين بتهمة نعتهم لحزب الهمة بالحزب المقرب من الملك حجبت عنهم الرؤية الواضحة للأمور. على العموم خسرنا رسميا نقطة أخرى على حلبة المنظومة العربية، أما المنظومة الدولية فلا خبر لنا عنها إلا ما كان منافسة عن استيراد قمح أو قماش أو جهاز رقمي. فهل سنحظى يوما باعتذار كمواطنين أحرارا في دولة ديمقراطية.