قد يتيه المرء في تعريف هذه المعلمة الفكرية التي تركت و لا زالت تترك العديد من الإجتهادات و النظريات التي طورت إلى حد بعيد اللغويات النظرية و الفلسفة بكل فروعها, و هذا شيء عاد بالنسبة للإنسان صنف حسب فهرس مراجع الفنون و الإنسانيات كمرجع أكثر من أي شخص حي و كثامن شخص على الإطلاق. حيث أن نعوم تشومسكي المزداد سنة 1928، لم يقتصر إنتاجه الفكري على اللسانيات و الفلسفة التحليلية كنظرية النحو التوليدي و مراجعة السلوك الفعلي لسكينر و تصنيف اللغات الشكلية (...) فقط، بل تجاوزه إلى إسهام عميق و متجذر كناشط سياسي حدد لنفسه مكانا داخل الثورة الفكرية ضد الإستغلال الأمريكي للشعوب و المعارضة الشديدة للسلطوية بكل أنواعها. ومما يزيد من احترام الشخص أنه ترعرع في أسرة يهودية أمريكية آمنت بشكل قوي بإحياء العبرية كلغة و الدولة كموطن، غير أن انتماِءه هذا لم يمنعه من مناصرة المستضعفين وانتقاد الحرب الصهيونية في فلسطين و الأمريكيةالغربية في دول أخرى . ولم يقف عند هذا الحد ، بل أيد بشكل صريح المقاومة المشروعة ضد الإحتلال، حيث زار معتقل الخيام الذي كان تحت إشراف "إسرائيل" قبل خروجها من جنوب لبنان، ما حدا بها في ما بعد إلى منعه من إلقاء محاضرته في الضفة الغربية. و كان الإرهاب من اهم المواضيع التي شغلت فكره و قال فيها قولته الشهيرة "الناس جميعهم قلقون لأجل الحد من الإرهاب، حسنا، أعرف حلا سهلا للغاية: توقفوا عن ممارسته "، موجها كلامه بالدرجة الأولى إلى الإدارة الأمريكية برئاسة جورج بوش وقتئذ،حيث وصف هذا الأخير بالمنافق في قيادته لحرب ليست مبررة بالواقع و إنما هي تطبيق للأجندات ومخططات الإدارة الامريكية وما وراءها من خلفيات و مصالح إقليمية و دولية، مؤكدا على أن ما تخافه أمريكا ليس حكم الإسلاميين و لو كانوا راديكاليين بل حكم الشعب الذي أصبح عداؤه لأمريكا و حلفائها يزداد يوما بعد يوم. و لقد عان مفكرنا من تهميش الإعلام الامريكي له، إعلام أخذ نصيبه من النقد بحيث اعتبره تشومسكي المؤسس لحرب جديدة سميت بالإعلامية "حرب الدعاية"، و التي ساهمت بشكل مدمر في الأحداث العالمية كالحرب على الإرهاب و 11سبتمبر و الصراع الفلسطيني الصهيوني، حيث اعتبر أن " الدعاية في الديموقراطية تقوم بوظيفة "العصا" في الفاشية". ولخير دليل على هذا تأسيس الإدارة الأمريكية لقناة "الحرة" الناطقة بالعربية سنة 2004 بعد أن اتهمت الجزيرة بالتحيز للقضايا العربية الإسلامية. وقد كان من أهم إنتاجات تشومسكي طرح الإستراتيجيات العشرللتحكم في الشعوب و التي نراها رأي العين في دول العالم، وإن تعددت طرق التعبيرعنها باختلاف المجتمعات وأنماطها، وهي: 1- الإلهاء: تحويل الرأي العام عن المشاكل الفعلية. 2- المشكل- رد الفعل- الحل:خلق مشكل، انتظار رد فعل الشعب، ثم تقديم الحل. 3- التدرج :التدرج في التغيير. 4- المؤجل :تأجيل الإجراء إلى وقت محدد. 5- مخاطبة الشعب كالأطفال. 6- اللجوء إلى استعمال العاطفة عوض العقل. 7- إبقاء الشعب في حالة جهل. 8- تشجيعه على استصاغة البلادة. 9- تعويض التمرد بالإحساس بالذنب، أي أن الشعب هو المسؤول عن واقعه. 10- معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم : دراسة عقلياتهم و عاداتهم و التنبؤ بأفعالهم. و قد لا قت الثورات العربية و طريقة التعامل الأمريكي معها إهتماما كبيرا من تشومسكي حيث سرد الأستراتيجية المتبعة في هذا الشأن والتي تِتبناها المدرسة الواقعية بامريكا في التعامل مع الخارج، استراتيجية تنقسم إلى أربع مراحل متتابعة: المرحلة الاولى: إذا كان لديك ديكتاتور مفضل يواجه مشاكلا، فقف بجانبه حتى آخر مدى. المرحلة الثانية: عندما يستحيل الاستمرار في دعمه لأي سبب، فقم بإرساله إلى أي مكان. المرحلة الثالثة : قم بإصدار تصريحات رنانة عن حبك للديمقراطية. المرحلة الرابعة: حاول الإبقاء عن النظام القديم، ولو بأسماء جديدة. هذه الإستراتيجية التي يتحول فيها الصديق الحميم إلى ديكتاتور ثم إلى وغد في الإعلام الأمريكي، و كأني به منتوج انتهت صلاحيته. ولقد ثبت صدق هذا القول فيما حدث للديكتاتوريين العرب في الربيع العربي (حسن مبارك،زين العابدين بن علي،عبدالله صالح، معمر القذافي) وفي التاريخ القريب ( صدام حسين، شاه إيران،...). وخير ما أختتم به مقالي هذا قولة لمفكرنا يؤكد من خلالها على أن " أمريكا بنظامها الحالي تشكل العقبة الحقيقية والوحيدة أمام السلام". مهندس خريج المدرسة الوطنية للصناعة المعدنية.