تأتي هذه الورقة في سياق/بهدف البحث عن دور جديد للحركة من منطلق نقد ذاتي تأخر عن موعده- لكن لا بد منه على أي حال. فالتقييم، كالفعل تماما، مسألة حياة أو موت ! ستناقش هذه الورقة الفكرة التالية: «الملامح الممكنة للهوية الجديدة لحركة 20 فبراير على ضوء قراءة في مأزقها السياسي». و ذلك من خلال الاجابة عن السؤالين المركزيين التاليين: - كيف دخلت الحركة متاهات مأزقها السياسي؟ (مستوى التشخيص) - ما طبيعة الملامح الممكنة للهوية الجديدة للحركة؟ (مستوى التحليل ومناقشة البدائل الممكنة). متاهات المأزق السياسي منذ انطلاقتها في الفضاء العام، كنا نجد حركة 20 فبراير تارة مبادرة، تارة متفاعلة وفي تارة أخرى تابعة . بتاريخ 20 فبراير، فتحت الحركة على مختلف مظاهر الفساد و الاستبداد معركة حامية الوطيس. فاجأت، بل أرعبت، العديد من رجالاتها و مؤسساتها الحاضنة. عبَّر الحراك الفبرايري الشعبي عن فجوة عميقة بين الدولة و المجتمع المغربي؛ إذ كانت مطالبه تعبيرا عن مطالب واسعة من فئات هذا الأخير، و على رأسها الحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية . وكرست بناضلها ذاك فكرة ان «المخزن» نقيض وظيفي لرغبة الشعب المغربي ولحقوقه المشروعة والعادلة. لقد ضربت بعنفوان نضالي كبير أسوار المخزن العالية- التي وُضعت لتكون فاصلا بينه وبين تطلعات الشعب المغربي- فهزتها هزا: فكانت الولادة القيصرية للدستور الجديد، الذي و إن وقفَت ضده باعتباره لم ينبثق عن رؤية مجتمعية تصوغها هيئة تأسيسية منتخبة، فإنه عموما عُد، موضوعيا على الأقل، واحدا من نتاجات فعلها النضالي الضاغط و المُلح و المفتوح على جميع الاحتمالات. فكان الانجاز الأول في مسيرة النضال. كذلك، سعت الحركة جهدها في فتح النقاش العام على أكثر من طابوه سياسي اعتبر إلى عهد قريب في خانة المقدس زورا و بهتانا . فكانت مرافعات الحركة – إلى جانب قوى سياسية أخرى في الفضاء العام- منفتحة على قضايا عامة كبرى، و على رأسها علاقة السلطة بالمال، موقع و دور الملكية في تدبير الشأن العام و التأثير على المشهد الحزبي، مسار الديمقراطية المعطل، رموز الفساد، الأوضاع المعيشية للمغاربة، و عموما التجربة السياسية الفاشلة التي تراوح مكانها منذ 12 سنة الأخيرة على الصعيدين السياسي والتنموي. وقد كان لدورها التاريخي في لَم أبناء الوطن الغيورين، بمختلف ألوانهم الأيديولوجية والسياسية، في عمل مشترك وفق أطر تنظيمية و جهد نضالي و أهداف سياسية واجتماعية ، مساهمة كبيرة في تقديم صورة بديلة عن بيئتنا السياسية المهووسة بغواية الانقسامية المزمنة والعيش على خلافات الماضي و التراشق الايديولوجي البئيس، خارج حقائق التاريخ و شروط العقلانية السياسية وقواعد الاختلاف المقبولة في حدها الأدنى. ولا يمكن أن ينسى تاريخنا السياسي مدرسة حقوقية اسمها حركة 20 فبراير المجيدة التي دانت الاختطاف القسري والمحاكمات غير العادلة و توظيف القضاء والاعتقال السياسي وقمع الرأي المختلف و تضخيم مساحة الطابوهات و تقديس الأشخاص و المؤسسات الدستورية و عَبأَت الناس العاديين للمطالبة بحقوقهم و التظاهر في الشارع ضد الغلاء ورداءة الخدمات المرفقية وتفشي البطالة و غيرها من التظاهرات الحقوقية والمطلبية. خلال هذه المرحلة، بكل منعرجاتها الكبيرة والصغيرة، بقدر ما راكمت الحركة من انجازات، ومنها ما ورد آنفا، حصدت خيبات أمل و فشلا لا يستهان به. لقد أعطى سياق الثورات العربية صفة الثورية للحركة، صفة ٌ رحب بها البعض (الجناح الجذري داخل الحركة و الذي كان المحرك الأساسي للحركة بقوة حضوره و امتداده الشعبي)، ورفضها البعض الآخر (الجناح الإصلاحي، الذي جعل من الملكية البرلمانية سقفا نضاليا و دافع عن موقفه بصلابة داخل صفوف الحركة). و كان النقاش بين الجناحين واحدا من المشاكل التنظيمية التي فرضت نفسها، سلبا، على النقاش الداخلي و العمل الميداني والإعلامي. و أدى هذا الاصطفاف، في النهاية، إلى أن تسير الحركة بدون رؤية واضحة و محفزة على البذل، وهو ما جعل كل طرف يقرر الاندفاع تارة والتريث تارة أخرى بحسب قراءته الخاصة للظروف المحيطة والحسابات السياسية الذاتية وفق معادلة الربح والخسارة. وقد كان للدور الخجول لمجلس الدعم أثر سلبي ملحوظ في تكريس الغموض المذكور، وذلك عندما تحاشى الخوض في مسألة سقف الحركة و أهدافها السياسية، بله الحديث عن مشروعها السياسي. وهكذا سرعان ما تجمد هذا المجلس في قالب روتيني، دون ان يستطيع التحول إلى قوة اقتراحية حقيقية. و اكتفى بتسجيل حضوره مناسباتيا . نعم، لقد أفلح إلى حد كبير في كظم خلافاته، و لكنه أخفق في تطوير أداءه. و هناك مسألة اخرى تحتاج إلى التقصي و التفسير. حركة 20 فبراير هي الحركة الوحيدة ربما في العالم العربي التي تعرض قياديوها لإقصاء و استهداف ممنهج أخرجها عن ساحة التأثير و الفعل والقدرة على التوجيه. لا اتحدث هنا عن الدور الذي لعبه المخزن على هذا الصعيد، اتحدث عن الضربات الممنهجة – ولا أبالغ إذا قلت أنها داخلية - التي تعرض لها هؤلاء من جهات رفضت أن تراهم في المقدمة. فَتَحت ما سمي، زورا و بهتانا و ضدا على المبادئ الأولى لدينامية الجماعات – كما تُعلمنا إياها الدروس الأولى في السوسيولوجيا - مبدأ "لا قيادة للحركة"، انغمست الحركة في شعبوية أعدمت بشكل تعسفي ومقصود انبثاق وجوه لها من الصفات القيادية ما يؤهلها لتكون خير ممثل وناطق باسم شباب الحركة و أهدافها على الصعيد الوطني. خاصة و أن تلك الوجوه لم تفرض نفسها على أحد، بل دفعتها إلى الخطوط الأولى للمواجهة حيويتها الذاتية و حِكمتها في الموقف وصراحتها و جرأتها في التعبير . ثم إن شكل الحركة المفتوح - استنادا إلى مقولة: الحركة حركة شعبية مفتوحة لكل أبناء الشعب- زاد من تعميق الخلافات الداخلية و خرم النواة المناضلة؛ فقد لعب المخزن لعبته باختراق جسم الحركة بعملائه و بلاطجته على أكثر من صعيد. هذا على الصعيد الداخلي، بينما على الصعيد الخارجي، عمل جاهدا على تجييش أكثر من جهة إعلامية و سياسية وثقافية للتشويش على أفكار الحركة ومطالبها المشروعة. استمر «المخزن» في مناوراته التكتيكية و الاستراتيجية على أكثر من جبهة و بأكثر من أسلوب، دون أن يدفع ذلك الحركة إلى مراجعة حساباتها وتوجهاتها وأساليبها النضالية. فما الفرق بين أسلوب حركة 20 فبراير عند انطلاق الحراك وأسلوبها بعد عام من ذلك وأكثر. تكاد لا ترى فرقا، إلا في نقص أعداد المتظاهرين! وهكذا، و في لحظة تراجُع هديرها النضالي، تحولت إلى كيان تابع لأحداث تطرأ هنا وهناك أكثر منها كيانا مبادرا . كما لا يمكن لأحد ان ينكر الفرص السياسية التي أضاعتها والمبادرات الممكنة التي تجاهلتها (إجراء مسيرات وطنية/جهوية، المطالبة بمحاكمة بعض رموز الفساد بعينهم، عدم دعم إحداث لجنة تقصي برلمانية حول معتقل تمارة؛ بدعوى أن المبادرة جاءت من فريق برلماني غير شريك في الحراك الشعبي، وغيرها من الفرص الضائعة). * * * * على صعيد فرع الحركة بمدينة الخميسات مثلا، بقدر ما كان هناك مجهود كبير وتضحيات عظام - يعز أن نضع لها مقارنات إلا ما ندر - بالقدر نفسه الذي لا تكاد تحصي إنجازات ملموسة كبيرة. ففي هذا الفرع، لم تتوقف الأنشطة النضالية الأسبوعية على امتداد سنة و نصف متواصلة، كثيرا ما تخللتها أنشطة فرعية بين الفينة و الأخرى وسط الاسبوع تبعا للسياقات السياسية للبلد ولتطور الأحداث بالمدينة، و تعرض المناضلون للتهديد وللعنف والتضييق المستمر و للاعتقال (كان اليد الطولى في كل ذلك مسؤول الأمن الإقليمي السابق، الرجل العنيف و غريب الأطوار،أحمد طوان، من جهة و بلاطجة مسخرون من جهة أخرى. كما أنه على مستوى نفس الفرع، و بالرغم من الاستنزاف البشري الكبير الذي تعرضت له الحركة والاختراق الأمني الذي طالها (تم الكشف عن بعضهم، في انتظار أن تخرج الرواية الكاملة بالأسماء والوقائع عن هذه الاختراقات) وقلة الإمكانيات و تراجع الكثير من القوى السياسية عن دعم الحركة، رغم كل ذلك استمرت داخل فرع الحركة نواة صلبة ومتفانية في خدمة أهدافها و تحريك الشارع من أجل ذلك. كما أنه في نفس الفرع تم الصدع بشعارات قوية في عز الصراع والاحتقان المستمرين، و منها شعار إسقاط النظام . هذا من جانب، و من جانب آخر، يلاحظ أنه هذا الفرع من الحركة لم يحقق مكاسب حقوقية أو اجتماعية كبيرة. فبعد أن دخلت الأنشطة النضالية في روتين مزمن فقدت، تدريجيا، إبداعيتها و حيويتها ثم جماهيريتها لاحقا. و بالمقابل بقيت الملفات الحقوقية والاجتماعية عالقة بلا متابعة هادفة: فالمسؤول الأمني الذي دهس بعض المناضلين بسيارته وضرب بشكل همجي و سب بأسلوب فظ و اعتقل بشكل هستيري العديد من المناضلين لم ينل النصيب المطلوب من ضغط الأنشطة النضالية للحركة. وقرار إقالته من منصبه جاء بقرار إداري فوقي لا علاقة مباشرة له بنضالات الحركة الحقوقية ضد سلوك الرجل. كما أن الحركة لم تستطع بلورة المطالب العامة للحركة إلى مطالب محلية متعينة – اجتماعية و اقتصادية – و المرافعة من أجلها، حتى تقتنع الجماهير بواقعية مطالبها وبواقعية أسلوبها. بدل ذلك، تم إرهاق الجماهير النصيرة بالأنشطة الأسبوعية المكثفة والتي تطول أزيد من 3 ساعات في الكثير من الحالات: قبل الحركة، عرف المستشفى الإقليمي خللا كبيرا في التسيير و تقديم الخدمات، بشكل يضرب في العمق حق المواطنين في التطبيب و في المساواة أمام المرفق العام، و لا زال الأمر كذلك إلى اليوم. قبل الحركة، كان الاستثمار مجمدا في المدينة و نواحيها و لا زال الأمر كذلك إلى اليوم. كانت هذه أمثلة، و قائمة الهشاشة الاجتماعية طويلة في هذه الزاوية من أرض البلاد. لقد استطاعت الحركة أن تقوم بعمل حقوقي تحسيسي كبير للساكنة، و لكن التحسيس ليس هو التوعية ! واستطاعت أن تقوم بعمل تعبوي مهم، و لكن التعبئة ليست هي التأطير! من هنا واجب المراجعة الجذرية لتوجهاتها و اختياراتها السياسية و لأساليبها في المناورة والفعل على جميع الأصعدة. * * * * مداخل الهوية الجديدة ألا يستدعي التفكير في مستقبل الحركة فهما أعمق للواقع الذي تتحرك فيه اليوم؟! عموما يمكن جرد أهم محددات الواقع السوسيو-اقتصادي و السياسي الجاري في العنصرين التالية: - مؤشرات سوسيو-اقتصادية و مالية ضعيفة، تجعل مستقبل المغرب مفتوحا على جميع الاحتمالات، و منها انتفاضات قد تطرأ هنا و هناك، مع محاولة الحكومة، جهد الامكان، المحافظة على الاستقرار الماكرواقتصادي تفاديا لانزلاق المغرب إلى انتفاضات مفتوحة جغرافيا و زمنيا. فهدير الربيع العربي لا زال صداه يُسمع في المغرب. وإذا لاحظنا، فإنه حتى القوى التي تقود الحكومة تهدد بين الفينة والأخرى بهذا السيناريو. فهو حقيقي ومعطياته تفرض نفسها بجدية. هذا السيناريو يغري انصار الثورة و التغيير الجذري للنظام. فلا مناخ أحسن للثورة من مناخ الأزمة الاجتماعية. لكن سيناريو الثورة هذا لا يخلو من صعوبات كبيرة و مخاطر جدية. ولنا في بعض التجارب دروسا و عبرا (الأزمة السورية وزيادة ضربات تنظيم القاعدة في مناطق أخرى كاليمن وليبيا). - سيرورة سياسية انطلقت منذ التصويت على الدستور والانتخابات التشريعية التي أفرزت حكومة يقودها حزب العدالة و التنمية. والرهان الاساسي فيها يبدو في محاولة كل طرف توسيع نفوذه أو تركيز مواقعه في الحد الأدنى في مغرب ما بعد دستور 2011. القصر يحاول جهده البقاء في مقدمة المشهد السياسي و يبدو أنه غير مستعد للتواري إلى الخلف ليفسح المجال لفعل أكبر للحكومة [ زيارات ملكية، تدشينات، مبادرات لجلب الاستثمار، تحديد قائمة ملكية للمؤسسات و المقاولات الاستراتيجية التي يعين فيها هذا الأخير أسماء مسيريها، ...]. باختصار إرادة قوية للحفاظ على صورة الملكية التنفيذية . في مقابل ذلك تسعى الأغلبية الحكومية جهدها لإنجاح تجربتها في جو لا يساعد، سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وماليا، على العمل. بينما أغلب قوى المعارضة مشغولة في البحث عن دور جديد، إن لم نقل هوية جديدة [العدل و الاحسان، الاتحاد الاشتراكي و غيرهما]. هذا الوضع يضع مستقبل البلد السياسي و تطور الممارسة السياسية على احتمالات مفتوحة، وهو وضع يغري الأطراف السياسية المتنافسة باستئناف لعبة العض على الأصابع. و يبقى خطر الارتكاس أو الالتفاف على مطلب الاصلاح الذي تمت ترجمة أطره النظرية في الوثيقة الدستورية المراجعَة، واحدا من الاحتمالات الوارد. بين هذه الحقيقة و تلك، ما هي طبيعة الهوية النضالية المطلوب أن تتسم بها الحركة في المستقبل القريب لتستطيع التفاعل باقتدار مع هذه المستجدات؟ مؤكد انه لا مخرج لحركة 20 فبراير خير من الإندماج الايجابي – لا السلبي - في سيرورة المجتمع، و محاولة التأثير على بناه من الداخل – عبر الفعل المناضل، الواعي بأهدافه و المتحكم في أساليبه. فإذا كان المطلب الديمقراطي يتموقع في قلب مطالب المجتمع المغربي و سيرورته السياسية على مدى عقود، فإنه لا يسع الحركة إلا أن تتماهى مع ئضناهذا المطلب وهذه السيرورة و تجعل من الديمقراطيةّ و الحق في التنمية، و ضمنيا الفصل بين السلطات واحترام القانون والمساواة بين المواطنين و ربط ممارسة السلطة بالمحاسبة و حكامة التدبير، هدفها ومطلبها الاساس. لماذا مطلب الديمقراطية وليس غيره؟ سأعيد التذكير بمسألة أساسية هنا في صيغة سؤال. عندما انتصرت الثورات في الوطن العربي، ماذا كان مطلبها الأساسي التالي غير إقامة ديمقراطية كاملة، تنبثق عنها مؤسسات شرعية – تأسيسية و رئاسية و برلمانية تضمن تحقيق الإنماء؟ لقد كانت الثورة جسرا للكشف عن مطلب الشعب الأساسي: الديمقراطية والانماء. فخاطئ من يعتقد ان الثورة مطلب في ذاتها. قد يعتقد بصحة ذلك من لا يلحظ غير صورتها الفرجوية، حيث تملأ الجماهير الساحات ضدا على السلطة و تشرع في ترديد شعارات سياسية، حقوقية و مطلبية، جريئة و ثورية. كل هذا جيد، ثقافيا و سياسيا وفنيا. و لكن بعده مباشرة تأتي ساعة الحقيقة: هل كانت الثورة جسرا لإقامة دولة ديمقراطية تكفل حقوق و حريات الناس، أم مجرد واقعة سياسية تُسقط السقف على رؤوس الجميع، نظاميون و ثوار، دولة و ثورة، وطنا وشعبا. و بالرجوع إلى التجربة المغربية، يصبح السؤال المطروح للنقاش اليوم و غدا، بالنسبة للمحتجين عموما، التالي: ما هو المطلب الحقيقي، أهي الثورة أم الديمقراطية؟ في الاجابة عن هذا السؤال، تتكشف خارطة الطريق للجميع. لقد اضفى سياق الربيع العربي على حراك حركة 20 فبراير المجيدة معنى/ صفة الثورية. لم يكن الصفة المذكورة معلنة و لكنها كانت حاضرة بقوة. كرس حضورها التواجد الفاعل للقوى ذات المطالب الراديكالية من إسلاميين و يساريين. إذ يَفرض خياراته، في الحراك الشعبي، من يملك القدرة على تحريك الشارع، و عندها كانوا هم من يملك الشارع. فكان مطلب إسقاط النظام، المطلب الغائب الحاضر . لكن ماذا الآن، بعد خفوت هدير الربيع العربي و زيادة حدة تشكيك المجتمعات في هذا الخيار بعد ما جرى في سوريا و حوَّلها إلى نقطة اضطراب و خراب ، وبعد ان تم إعياء الشارع المغربي المحتج و استدراجه إلى الروتينية؟ ما الذي يعطي للحركة معنى لوجودها بعد كل هذا؟ بالتأكيد هو المطلب الديمقراطي بمعناه الواسع [السيادة الشعبية، حريات فردية و عامة، سيادة القانون، مقابلة السلطة بالمحسوبية، ...) . مطلب ملح و يتقاسمه الجميع. يجمع أكثر مما يفرق. مطلب منطقي و عقلاني. و لا شك أنه ثمة فُرص تدعم هذا المطلب اليوم. ومنها، السياق العربي الجاري الذي انفتح على تجارب ديمقراطية و حريات أوسع في التعبير و الفعل و الانجاز (مصر، تونس، ليبيا، ...). واستنادا على ذلك، لا يمكن أن يبقى الحال في المغرب على ما هو عليه؛ فالاستمرار على منوال ما قبل 20 فبراير يعني وضع العرش في مهب الريح في المستقبل القريب. إذ لا يمكن أن يبقى المغرب جزيرة مستقلة و غير معنية بما يجري في محيطها. عند انطلاق تجربة التناوب، و هيأة الانصاف والمصالحة و توسيع هامش حرية الصحافة خلال السنوات الأولى لحكم محمد السادس كان ينظر للمغرب كمثال في الانفتاح السياسي والتخطيط السياسي بعيد المدى، لكن سرعان ما انقلب الوضع رأسا على عقب: انقلاب على تجربة التناوب التي قادها الاتحاد الاشتراكي، عودة الاختطاف والاعتقالات خارج القانون وممارسات التعذيب في حق ما سمي بالسلفية الجهادي، تفريخ حزب الأصالة و المعاصرة و محاولة توجيه المشهد الحزبي من قبل السلطة الحاكمة، حل أحزاب واعتقال قياديوها، و غيرها من مظاهر التخلف و التسلط السياسيين. نعم، كل هذه المتغيرات، الداخلية والخارجية، تستدعي التفكير مليا في زاوية جديدة للفعل تقوم على السؤال المنطلق التالي: كيف يمكن للحركة أن تخدم الشعب المغربي في الوقت الراهن، من خلال مداخل معقولة للتغيير؟ قد تجد الحركة هوية جديدة لها لو أن فكرت في تجديد أهدافها، انطلاقا من أرضستها إلى أهدافها المرحلية. على أن يكون محورها التالي: 1- دعم المسار الديمقراطي للبلد، ورفض خطوات الارتكاس؛ 2- دعم (وليس المبادرة) مطالب القوى السياسية و المجتمعية والمدنية في العدالة الاجتماعية و كرامة الانسان، في معارك محددة بدقة وطنيا و محليا. على ان يكون «المحلي» قطب الرحى في تكتيكات الحركة في المستقبل القريب . 3- الدفع بكل قوة في اتجاه محاكمة رموز الفساد المتورطين في ملفات فساد، من اجل تكريس ثقافة المحاسبة و عدم الافلات من العقاب ( الخروج من العموميات). 4- دعم و التضامن مع التظلمات المعبر عنها محليا (دعم وليس قيادة). من الحركة الطليعية إلى الحركة الشريكة و في مساعيها هذه، يتعين على الحركة أن تتجرد من ذكريات العمل الطليعي في النضال السياسي و الاجتماعي الذي باشرته منذ 20 فبراير في اتجاه تمثل دور جديد: دور الحركة الداعمة للمطالب السياسية و الاجتماعية المشروعة و العادلة و الشريكة لباقي العاملين في الساحة. نحن إذن بصدد إعادة تعريف للحركة ! بالتأكيد، ستبقى الحركة إطارا شعبيا مفتوحا و منفتحا على جميع القوى الشعبية والسياسية والمدنية و الحقوقية و المكونات الفكرية و الثقافية ، لكن دون ان تدعي تمثيل جميع الشعب، بل جزء منه و من مطالبه فقط. ما يميزها هو جرأة التعبير في مناخ سياسي – يطبعه تأثير المخزن كقوة رجعية لا تألوا جهدا في التضييق - سياسيا، إعلاميا، إقتصاديا و أمنيا، عبر مناورات متعددة- على المخالفين و من يفكرون بصوت مرتفع. وفي انفتاحها على جميع ألوان الطيف المغربي، تكون الحركة أداة لتربية جيل جديد يقوم على الحوار والتعايش والتفاوض بين هذه الألوان، و آلية للتوافق والعمل المشترك. ولذلك، فالمطلوب منها أن تعلن أنها تضع نفسها خارج الصراعات الايديولوجية التي لا يضيرها أن تنتصر لأي شيء فيه إقصاء للآخر ، ولو على حساب الحد الأدنى من التعايش المطلوب في مجتمع متعدد ثقافيا وسياسيا. و على صعيد الشعار، فإن شعار «حرية، كرامة، عدالة اجتماعية» لايزال يشكل شعارا مركزيا يجمع ويلاقي الحركة بغيرها من القوى والمطالب المطروحة في الساحة العامة. ولا يمكن بعد اليوم أن تستغرق الحركة في نرجسيتها و إحساسها الفخري بامتلاك الحقيقة السياسية، و أن تقسم المجتمع إلى "معنا أو ضدنا". فالتعددية الفكرية والسياسية حتمية تفرض نفسها على الجميع، و ستبقى بغير جدال . وعندما يكون منطلق النقاش والفعل هو التمييز بين الذات والغير على أساس الثنائية خير/شر، يتم حشر الذات، منذ البدء، في عَمَى فكري أمام حقائق الواقع. لم تكن موازين القوى، منذ انطلاق الحراك الفبرايري، في صالح الحركة. لقد استطاعت بحضورها الخارجي ( أي الحضور في الشارع) ان توجه الرأي العام و تسيطر على الكثير من نقاشاته، لكن ذلك لا يكفي لتتحول إلى حركة ثورية طليعية. فلا يمكن أن ننسى أن المغرب – على علاته- يبقى بلدا منفتحا. فهو غير تونس بن علي أو مصر حسني مبارك أو باقي دول الخليج. هنا، يوجد مجتمع سياسي ومدني حاضر ومتفاعل، نقاش بسقف عالي نسبيا، هيئات سياسية عريقة بمؤسساتها التنظيمية و الوظيفية، إعلام مستقل، نقابات، ... و غيرها. والتصادم مع الجميع لم و لن يأتي بنتيجة تغييرية كبيرة. توسيع هامش حراك الحركة يتطلب منها أن تعمل من أجل أن تلتقي بكل أحرار الوطن الذين تتقاسم معهم أفكارا وطنية – إسلاميين و يساريين وغيرهم، مثقفين وقوى سياسية ومدنية وحقوقية وفكرية. لذا يجب ان تقطع مع الفكر الطهراني الذي يجعل غيرها "مخزن" و يجعل منها هي مشروع الوطن و الشعب! فما أكثر أولئك – من غير الفبرايريين – الذين يحملون أفكارا وطنية ويعملون بكل جهد وإخلاص لإرساء نظام ديمقراطي حقيقي يربط ممارسة السلطة بتقديم الحساب على مستوى تدبير الشأن العام ويحقق الانماء على مستوى الواقع السوسيواجتماعي و الثقافي للمواطنين. فالانتماء العضوي للحركة ليس شرطا لينال أي شخص أو جهة صفة النضالية والطهرانية، فالنضال كان قبل الحركة و سيتسمر بعدها. فبعد عشرة أعوام – أقل أو أكثر، لا يهم- ستصبح الحركة في خبر كان. دور الحركة إذا، و من منطلق مصلحة الشعب المغربي اليوم، أن تخطط وتنسق وتدعم من تلتقي معه في مطلب الديمقراطية و الانماء كحقوق ملحة للشعب المغربي. وهناك مسألة يتعين أن تفكر فيها الحركة بجدية، و هو العمل تحت مظلة قانونية: هل يمكن أن تستمر الحركة في العمل خارج أي إطار قانوني دون أن تكون معرضة لهجمة شرسة ستأتي عاجلا أو آجلا من قبل آلة القمع؟ هناك ضرورة ملحة للبحث عن صيغة ما للعمل داخل إطار شرعي ما. كالجمعية المغربية لحقوق الانسان مثلا، ما دامت الحركة لا تتوفر حتى الان على بديل مقنع وعملي في هذا الإطار، وذلك شرط احترام استقلاليتها وديناميتها المفتوحة على جميع المكونات الفكرية والسياسية . ثم، إنه لا تخفى أهمية إيجاد إطار العمل المذكور لتوسيع هامش مناورة وعمل الحركة، فكثيرا ما تقف المسألة القانونية دون إجراء الحركة للعديد من المبادرات التي يسمح بها القانون. ثم هناك مسألة أخرى تستدعي الوقوف عليها، و هي اعتبار أن وجود حركة 20 فبراير او عدمها مرتبط بوجودها في الشارع. ربما كان هذا القول يبدو منطقيا، بل حتميا، عند انطلاقة الحركة في سياق سياسي واجتماعي معلوم. لكن بعد أزيد من سنة ونصف، تصبح إعادة النظر في علاقة الحركة بالخروج إلى الشارع أمرا لا مفر منه؛ على ضوء ما تحقق عبره وما لم يتحقق حتى الآن، وكذا على ضوء التراجع الكبير الذي طرأ على مستوى حجم الحضور الشعبي في المسيرات والوقفات، خاصة عقب توقيف جماعة العدل و الاحسان دعمها وحضورها في للحركة. لا شك أن امتلاك الشارع قرار استراتيجي، لكن الاستمرار في اعتباره حلال كل العقد وأداة كل تكتيك يعد خطأ قاتلا حتما. من هنا، ضرورة التفكير في اساليب أخرى للتعبئة، للتأطير وللمناورة ... للفعل عموما. وعلى مستوى نفس الفكرة – أي تجديد الفعل النضالي للحركة – تطرح مسألة الرهان الثقافي.إذ لا مجال لتحقيق نصر استراتيجي خارج النضال الثقافي الاستراتيجي. لقد انغمس الحراك وراء التفاعل مع اليومي و الحدثي و أهمل بشدة عنصر التثقيق. هل يمكن الرهان على إحداث تغيير جذري بلا عمل على تكريس ثقافة جديدة تستوعب المفاهيم والأهداف الجديدة للواقع المطلوب. فلا ديمقراطية بلا سيادة للثقافة الديمقراطية في الأوساط السياسية والمدنية والحقوقية، كما لا إنماء في غياب انغراس قيم الانتاج في المجتمع . "كن ديمقراطيا و اكتسب سلوكا ديمقراطيا يغنيك محموده عن النسب" قد يقول قائل، وما هذا التركيب الغريب؟ أو ما دخل الشعر في ورقة موضوعها المستقبل والصراع ضد قيم الاستبداد والفساد الذي قادته حركة 20 فبراير لأزيد من سنة و نصف السنة؟ أقول: ألم يصبح بيت الشاعر أبو القاسم الشابي، "إذا الشعب يوما أراد الحياة ͠͠ فلا بد أن يستجيب القدر" عنوانا ثوريا و شعارا مركزيا في الثورة التونسية المجيدة؟! ليس الموضوع موضوع شعر، و لكنها استعارة للتأكيد على مسألة أساسية اليوم. والسرقة الأدبية كانت رغبة في استثمار بيت شعري له من الرنة و المعنى ما ليس لغيره. المسألة الأساسية المقصودة أعلاه، و التي أراد الكاتب التسطير عليها، هي «موقع المطلب الديمقراطي والسلوك الديمقراطي في نضال حركة 20 فبراير المستقبلي». لقد ضيع المقاومون و الثوار و المصلحون المغاربة، على امتداد الستون السنة الماضية، العديد من الفرص التاريخية على الشعب المغربي، قبيل الاستقلال و بعده و حتى عهد قريب خلال تجربة التناوب. ودائما كان الشعب المغربي يخرج خاوي الوفاض. فهل سيتكرر المشهد اليوم؛ ليصبح موضوعا لرواية مأساوية جديدة لاحقا؟! لا نريد ان يكون المغرب كالبلدة التي صورها الأديب عبد العزيز الصافي، في روايته التي جمعت الملهاة بالمأساة "مدينة الآجور العاري"، البلدة التي تُعدم فيها كل مبادرة جديدة على مشانق إحباطات و عُقد التجارب الماضية! لا نريد أن يكتب الجيل التالي – لا سمح الله- : « ما هذا يا مدينة الآجور؟ على من ستقع الواقعة في المرة القادمة؟» !!!