يروى أن أحدهم أصيب في قدمه وقصد المستشفى، وبعد فحص الطبيب للإصابة بعناية كبيرة أخذ يعالج عيني الرجل بدل قدمه. هل جئت من أجل رجلي أم من أجل عيني سأل المريض باستغراب. لم يتركه الحكيم يتم كلامه حتى عقب، لوكنت تبصر بعينيك ما أصبت في رجلك. هذه الحكاية تلخص حال قضية التعليم في بلدنا. الكل مكتو بناره في حين ينسى الناس أن أصل الداء ليس في التعليم بل في السياسة والاقتصاد، وليس في المناهج وغيرها من مسائل التربية المتخصصة رغم اكتوائها هي أيضا بمقتضى الحال. لنبدأ بالنهاية، بالباكالوريا الدبلوم الأسطورة الذي كان يفتح أبواب جنات السماء قبل أبواب رياض الأرض. لماذا أصبح هذا المفتاح صدئا لا يفتح حتى أبواب الجنانات؟ لماذا أعلى المعدلات تضطر لتنتكس وتسوى بالمتوسط، إلى حد انتشار "بداهات" جديدة بدأ التلاميذ يتداولونها بسخرية مرة وبضحك مثل البكاء. المسلمة تقول:"دابا بحال الستاش بحال عشر، جيب تمنتاعش وإلا فعشرة أحسن، تدير الجامعة وما تنجح فحتا مباراة وتكمل ماستر والدكتوراه وها انت بخير" ما معنى ألا يختار للمدارس العليا من نقطته ستة عشر كما تحدد ذلك عتبات اختيار هذه المدارس؟ بسرعة يمكن أن يجاب عن السؤال بسهولة، بما يصطلح عليه بنفيخ النقط الذي أصبح داء لا دواء له سواء في المدارس الخصوصية أم العمومية. لكن الجواب هذا لا يمثل سوى زاوية صغيرة من مثلث مظلم اسمه غياب المقاعد. " اعطني ضعف القاعات والمدرجات والمختبرات والأساتذة أقلص عتبة الاختيار إلى النصف" يصرح مدير مدرسة مهندسين. بلغة الأرقام التلميذ الذي نقطته ثلاثة عشر أو حتى اثنا عشر يستحق في المطلق أن يكون مهندسا وطبيبا وأستاذا. لأنه في الأصل الإحصائي الخام بالنسبة لبلد لم يكمل تعميم التمدرس بعد، وثلثه أمي أمية أبجدية والثلث الآخر أمية وظيفية، وإذا أضفنا نزيف الهدر المدرسي والجامعي، في مثل هذا السياق، مثل هذا المتعلم يعتبر من نخبة النخبة. هكذا إذا يضحي غياب المقاعد بالنخب، والتي هي الأساس والقاعدة الاجتماعية للانتقال الجذري من التخلف والاصطفاف في ذيل التصنيفات الدولية في مؤشرات التنمية البشرية نحو مقام يليق بحفدة ابن خلدون وابن رشد. نحن إذا بحاجة إلى ضعف الجامعات الحالية، وما يعني ذلك من نقص في التوظيفات والتجهيزات، ولنتركها بعد ذلك كما هي أو نجمعها، كما يفتى الآن من علياء التعليم العالي، إذا ما استحقت التجميع إنصاتا لسوسيولوجيا التنظيمات التي تعلمنا أبجدياتها الأولى أفضلية المؤسسات الكبيرة المركبة والحضرية على الصغيرة والبسيطة القروية، حتى تتفاعل عناصر التنظيم بحثا وتأطيرا وخبرة وفعلا ميدانيا. لكن ليس هذا موضوعنا الآن، لأن من لا يملك ما يستر به جسده لا يجب أن يفكر في الخاتم إلا إذا فقد الكياسة وحسن التدبر. يبدو المشكل إذا كميا، وربما شيء من هذا شعر به مهندسو البرنامج الاستعجالي، لكن باحتشام شديد وبقدر ضئيل من الجرأة والقدرة على الاستمرار في التوجه إلى الأمام في تحقيق مقعد لكل طفل مغربي . من أين لنا بذلك؟ برأيي السؤال السليم هو كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ببساطة لأننا لم نكن نبصر. ضيعنا العمر في يا قاتل يامقتول، في التهافت نحو السلطة والمبارزات اللسانية والدسائس، ونسينا معمل انتاج الانسان حتى حل الطوفان ولم نعد ندر من أين نبدأ. المبتدأ هو خلق نقاش واسع لوضع دستور الحالة الذهنية والسلوكية والقيمية للمجتمع. نقاش عمومي لا يقصي أحدا، ابتداء بالمعنيين من الأسر المكتوية بالفاتورات التي لا نهاية لها، فاتورات الدروس والساعات الإضافية والنقل وغيرها، والتي تخصم من الضروري من الغذاء المناسب والسكن الملائم والكسوة و الأعصاب. هذا لمن يحتالون على رواتبهم ويضربون أسداس بأخماس ليكملوا رأس الشهر بخير. أما الآخرون دون ذلك، فالله في عونهم في الاكتظاظ وبعد المؤسسة عن المدرسة وحالتها التي لا تغري بالانتماء، دون ذكر عدد الساعات المرهقة للمدرسين وحالة الإدارة بالإسم فقط، إلى غير ذلك من مظاهر النقص في الأشياء والبشر. في رأيي المتواضع هذا النقص في الأشياء والبشر هو ما يجب ملؤه ولو بتعبئة حماسية وجدانية تقي من هذر الذكاء والمؤهلات في بلد لازال في بدايات الطريق نحو التحديث والتمدن سواء على مستوى الأشياء أم على مستوى الأفكار. المشكل إذا كمي وليس كيفي، تعميم المقاعد هو الأساس، إذ ضمان اختيار المسار يهب راحة نفسية يمكن أن تعيد الأمل إلى النفوس. ربما بالتقشف في السيارات الوظيفية والنقص في تغطية مصاريف مشاريع غير منتجة، وغيرها من أساليب البهرجة، حتى يخلق فضاء سليم لدعم المدرسة من طرف الداعمين والواهبين كما كان يحبس المحبسون أوقافا لطلبة المساجد وجامعة القرويين. خلق جو من الثقة يبدأ من سلوك القوي حتى يقلده الضعيف، بتعبيرابن خلدون، لتهب الثقة حسا آخر أصبح أساسيا في كل إنتاج القيم، هو حس الانتماء والذي بدوره يولد الحماس الكافي للانخراط في المشاريع الجماعية، كما كان يفعل آباؤنا إبان مقاومة الاستعمار، وإبان مقاومة التخلف أثناء السنوات الأولى للاستقلال. هذا الحماس الذي بدأت تبحث عنه حتى المؤسسات الاقتصادية والشركات العالمية. لقد انتهى زمن الخوف من كل ما يذكر بالاشتراكية والتدخل الوجداني في المجتمع، والوفاء الآلي للقاعدة الاقتصادية المتوحشة: دعه يمر دعه يسير، في حين أن التدخل في مجالات أخرى أمنية وغيرها، يفضح الخلفية، ليس الليبرالية للرأسمالية المفتوحة، بل خلفيتها الهدامة التي يمكن أن تدخل الجميع في دوامة اللاعودة. إذ تكاليف نتائج هذا النوع من الليبرالية لا يقدر عليه سوى أعتى الدول وأقواها اقتصادا وسلطة وقدرة على خلق المتاعب خارج البلد عندما يشعر بأزمة داخلها. مصير التعليم في بلدنا مرهون إذا بقيم التضامن والتكافل والتآزر والرحمة كآليات إنقاذ، والثقة والانتماء والحماس كسياجات تقي من الهمجية المدمرة للذات قبل الآخر، ذات أنانية استهواها متاع الدنيا، وما متاع الدنيا إلا قليل. هذا الكلام ليس وعظا وإن بدا كذلك، بل هو محصلة حقائق ثلاث: وقع الحال الذي يربط التعليم بالمال. ودروس فلسفة ما بعد الحداثة التي تحذرنا من اللذة التي تهبها التقنية والربح. وعبر سوسيولوجيا التنظيمات التي تعيد الاعتبار للإنسان كإنسان يحمل كرامة وقيما وعواطف بعدما كان محض عضلات و خلايا عصبية في أحسن الأحوال.