"نولد، نتقنَّع ثم نموت " جرت أحوال ألسن العارفين حقيقة، بخبايا العالم؛ مؤكدين مع كل مناسبة وغيرها،عن ضرورة إخضاع هواجس الإنجاب؛ للحكمة والتبصر الكبيرين، قبل المجازفة غير المسؤولة بإخراج كائن ثان إلى الوجود، والقذف به جزافا واعتباطا وسط متاهة العالم،دون مبررات حقا عقلانية،تسوغ الأمر للضمير البشري.مادام نتاج سلوك عابر من هذا القبيل،لايتحمل وطأته المعني بالأمر وحده،بل تتشعب امتدادات ذلك نحو البشرية جمعاء. ربما أشاروا إلى نصيحتهم صراحة؛أو بكيفية مستترة، من خلال دعاويهم أساسا إلى وضع الإنسان، أولا وأخيرا،باستمرار ضمن صميم مخططات الدول ومشاريعها التنموية. بالتالي،فالاهتمام بهذا الإنسان اهتماما متكاملا؛ راقيا،والنهوض به على جميع المستويات البيولوجية والفكرية والنفسية والعاطفية،ستجعل منه لامحالة، فردا حرا بكيفية عميقة، ناضجا بما يكفي،واعيا تمام الوعي بوضعه الوجودي،حاضرا ومستقبلا؛ فردا فاعلا إيجابيا على جميع الواجهات،يقدس ذاته والآخر،ويجعل كيانه ضميرا للكون بأكمله. غير أن مواقف من هذا القبيل،غالبا ماتؤخذ عشوائيا لدى المتابعين؛ تختزل من سياقها المنطقي؛ المتكاملة أبعاده، ثم يفرغ محتواها الجوهري؛كي تتناول فقط ببساطة بناء على زاوية عقائدية ضيقة أو سياسوية أو إيديولوجية، فتتخذ حينئذ تأويلا ديماغوجيا، يفقدها طابعها الرؤيوي، الاستشرافي، الذي يطوي أبعاد المستقبل البعيدة، ويتأمل مصير الإنسان حتى أقصى حدوده، متحاشيا بكل الطرق إمكانية سقوطه بين مثالب التراجيدية الوجودية. تعيش الأغلبية الساحقة على أوهام؛ ترتقي بها مع الديمومة إلى ثوابت ومرجعيات، لاغنى عنها؛ قائمة بذاتها، مترسخة بتلابيب الأذهان؛لا يمكن التفكير ثانية في احتمالها.هكذا، يتيه الناس،يغترون بالوهم، ينقادون خلف الزيف والسراب، يعتقدون بأن الحياة آمنة، فيتفقون على واقع باعتباره"عاديا"،جديرا بالبقاء؛ مطمئنين باستمرار إلى حقائقه.بينما الحياة، أساسا،لعبة طارئة بامتياز، صِدامية، لاسكينة معها أو السكن فيها،بوسعها أن تدهسنا خلال أيِّ لحظة؛وتقوض جذريا كل البناء الذي ظنناه راسخا. وضع ينكشف عاريا؛ شفافا دون رتوش، أمامنا جميعا، يتجلى بلا مساحيق وأقنعة، خلال هزات الحياة الكبرى، لحظة الارتطام الفجائعي بجدار الألم والقسوة.هنا يشرع الفرد، في تقليب سجِلِّ معطياته، مستفسرا بداهات وعيه القائم، بخصوص النتائج التي أسفرت عنها تلك المقدمات التي قادته صوب النتائج غير المتوقعة. بهذا الخصوص،تسائلنا راهنا ممكنات الحرب العالمية اللانهائية، التي أطلقتها شرارة وباء كورونا، عن أبسط مسوغات الوضع المألوف لكرنفالات الإنجاب،غير المجدية، فقط لمجرد الاستعراض أمام مجتمع،لازال يدرج هذا الأمر ضمن رساميله الرمزية، بناء على سياق أثبت باستمرار تهافته لمن يريد أن يعتبر ويتعظ : التكريس الجيني، الأمر الديني، الاتفاق الاجتماعي، الانتماء الهوياتي، الائتمان الاقتصادي،إلخ. حكايات تزداد نهاياتها استفحالا، بالنسبة لمنظومة الجماعات الإنسانية،التي لايشكل داخلها الفرد أي قيمة تذكر.هكذا، تصبح لعبة التوالد والتكاثر، مجرد إصرار مجنون وعبثي بكل ماتحمله الكلمة من معنى، على الإسراع نحو تقديم قرابين مجانية إلى مقصلة المذبحة. أفق كورونا،الذي أعاد كليا طرح التشكيك في مسلمة "اعتيادية" العالم المتوهمة أصلا؛ فأرجعها بالمطلق إلى نقطة الصفر،يؤكد لمن يريد استيعاب الدرس جيدا،بأن المستقبل سيكون نهائيا دون تردد يذكر،منحازا إلى صف المشاريع المجتمعية التي تضع بنبل الإنسان نواة لكل الحقائق الكونية. مفاهيم العالم حاليا بصدد تمثُّل تحولات قصوى،من الكمي إلى النوعي،ثم نوعية النوع، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى استيعاب كنه هذا البعد الميكرو- فيزيائي الذي بشرت به منظومة كورونا، فيكون البقاء للقادر على التدرج باجتهاد منقطع النظير نحو مراتب الوعي الكوني. غالبا ماوُظفت مجازيا، تلك العبارة المحيلة على القاعدة الفيزيائية الشهيرة"الطبيعة تخشى الفراغ"،تأكيدا على الروح المتحولة ديناميكيا لعناصر الكون.لكن اليوم،أوضحت لنا الطبيعة في علاقتها بالبشر،بأنها ترغب فعلا منا كبشر بناء سلسلة لانهائية من الفراغات المفصلية،حتى نتحرر داخليا ونعيد بناء مسلمات جديدة،في طليعتها التفكير مليا في السؤال الكوني الكبير:أي نوع من البشر نريده لعالم طارئ جدا؟ثم شقه الثاني الحميمي،ماهي المبررات التي ترغمني على إنجاب كائن جديد،والأرض أصلا تئن من ازدحامنا؟هكذا يتخلص الإنجاب والتوالد،من أجل التوالد،وفق متواليات طمأنينة صيغه التقليدية، بحيث لم تعد امتيازا كما ظلت مجتمعاتنا تعتقد،ويلزمه بالدرجة بالأولى أن ينحو صوب الاشتغال أساسا على بناء الذات؛ربما تحملت لعبة الطارئ.