الحريات العامة هي شعبة وفرع من فروع منظومة حقوق الانسان، وهي حقوق تتميز بكونها طبيعية أصيلة أي أنها فطرية لا يمكنها أن تضيع بأي حال من الأحوال بالمصادرة أو الاسقاط؛ إنها ذات طابع كلي وشمولي غير قابل للتصرف فهي فوق الأعراف والقوانين المتواضع عليها في إطار المؤسسات والدول. هي بكل بساطة سابقة من الناحية المنطقية والعقلية والفلسفية على مؤسسات الدولة كيف ما كان مضمونها السياسي والثقافي والأيديولوجي. حقوق الانسان هي ملكية مشاعة لكل البشر في كل زمان ومكان فقط لإنسانيتهم. وفي طليعة هذه الحقوق الحريات الفردية والجماعية، ومسها وانتهاكها هو انتهاك لإنسانية الإنسان، بمعنى أنه يفقد إنسانيته ليتحول إلى كائن غير الانسان. الحرية هي كنه ولب البشر وهي الطاقة والقوة اللامادية التي تحرك العقل وتدفعه نحو الإبداع والابتكار وإطلاق العنان لمخيلته لسبر كل الأفاق بغية الرقي الوجداني والسلوكي والمادي. وأي فعل يحاول تقويض الحرية وتسييجها وخنقها يعد فعلا معاكسا للطبيعة الإنسانية للبشر، وحجرا لا أخلاقيا على عقله ومصادرة لجوهره الأصيل. قوة الحرية تكمن في كونها سرمدية لأن جيناتها مقاومة للموت، فهي لا تموت أبدا حتى وإن اغتيل وقتل حاملها تنتقل لتسكن وتترعرع في مشتل آخر من المشاتل المنتشرة في كل مكان؛ وهو الأمر الذي يقض مضجع الاستبدادي لأنه يعلم علم اليقين أن نهايته تتجلى في الحرية. لأن المستبد والاستبداد يرى عكس الجميع أن الحرية تعني الموت. والاستبداد هنا هو مؤسسة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تخترق أذرع ومؤسسات الدولة ما قبل الديموقراطية التي مازالت متمسكة بمرجعية فكرية وفلسفية شديدة التعقيد يتقاطع فيها الفكر الديني بالفكر الاقطاعي ويتماهى مع شيء من البهارات الشكلية للحداثة الجوفاء. هذا المزيج الهجين عادة هو التمظهر الفوقي لما يسمى الأوليغارشية، هاته الأخيرة همها الأساسي والجوهري هو الحفاظ على هيمنتها على مراكز السلطة مهما كان ثمن ذلك. الحرية تعمل بطبيعتها على تفكيك هذه المراكز فتفتتها لتتوزع في شكل نقط لا حصر لتعددها لتفقدها قوتها وسلطتها واستبدادها. هذا الوضع مشابه ومطابق إلى حد كبير حالة الدولة في المغرب فهي متحفظة بشكل كبير من الحرية، بل تعتبرها عدوا وشرا لا بد منه لأنه يدخل في البهارات الحداثية المفروضة التي يجب التعامل معها بجدية وحزم وبمنطق العصا والجزرة، ولأن سياق الحركات المدافعة عن الحرية يتسع وطنيا وإقليميا ودوليا لم يعد ممكنا التحكم فيه بالأساليب القمعية التقليدية تلجأ الدولة لنهج أساليب جديدة تسمى بأساليب القمع الناعم، بمعنى ممارسة القمع ومصادرة الحريات بواسطة التشريعات القانونية المحترمة للتشريع الديمقراطي، فيصبح القانون ذو شرعية وقوة مجتمعية يجب الانصياع لها. هكذا يستطيع الاستبداد بتحايل أو احتيال على الأسلوب والنهج الديمقراطي لمصادرة وانتهاك الحقوق الأصيلة والطبيعية ويبعد عنه مؤقتا شبح الحرية الذي يعني له الموت والانقراض. في هذا الإطار يأتي مشروع القانون 22.20 ليجسد بالملموس فلسفة القمع الناعم، مشروع يتكون من 25 بند 22 منه بنود جزرية وقمعية وعقابية تعكس الطبيعة التسلطية المعادية للحرية ولحقوق الانسان الغير القابلة للمصادرة والانتهاك مهما كانت الظروف والأسباب. الخطير في هذه النازلة هو السياق الوطني والدولي لنزولها، حيث الشعب المغربي بكل مكوناته وأطيافه السياسية والنقابية والحقوقية في مواجهة جائحة كرونا كوفيد 19 وتحت الحجر الصحي الشامل. بمعنى في الوقت الذي يصطف فيه المغاربة لمحاصرة هذا الوباء القاتل تنتهز الحكومة الفرصة لتتموقع في الخلف خلسة فتنقض بضربتها القاتلة على ما تبقى من الحريات إرضاء وتلبية لرغبة تلك الأولغارشية التي فطنت إلى كون مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الأزرق مرتعا حيويا للحرية والاحرار، وبالتالي يعتبر تهديدا حقيقيا لمصالحها المادية والاقتصادية ومركزها الاجتماعي والسياسي. إطلالة سريعة على مشروع القانون 22.20 يؤكد بشكل قاطع هذا المنحى إلى درجة الإسفاف، حيث ستصبح الدعوى لمقاطعة منتوج ما أو التشكيك في جودته جريمة يعاقب عليها القانون. فإذا ادعيت أن التدخين قاتل، ودعوت لمقاطعة السيجارة على سبيل المثال يعد جريمة. إنها الإرتدادات السياسية والاقتصادية لمقاطعة مجموعة من البضائع خلال السنوات الأخيرة. جشع الرأسمال الهجين المتشبع بمرجعية فكرية وإيديولوجية استبدادية لا تؤمن إلا بالجشع وتكديس الثروات حتى وإن كان الموت يتربص بحياة شعب فكل شيء يجوز مقابل الربح ومغانم الريع، وما الحكومة إلا أداة لتحقيق ذلك. فأولوياتها بهذا المنطق بعيدة كل البعد عن الأمل الذي لاح في الأفق والشعب المغربي يواجه الجائحة نتيجة التضامن الكبير الذي عبر عنه في هذه اللحظة التاريخية، حيث بدأ التفكير فيما بعد كرونا بتفاؤل إلا أن مسودة مشروع القانون أجهضت نطفة هذا الأمل وسلبت الحق في الحلم ما بعد الجائحة وحال لسانها يقول: إن القمع عقيدة وإيمان راسخ وقدركم هو الحجر الصحي والحجر الفكري ولأنكم استأنستم الكمامة فكمموا أفواهكم إلى يوم الدين، ومن لغى فلا حرية له. منذ 2011 والحكومة في صيغتها القديمة /الجديدة تستهدف الحقوق والحريات حيث أدخلت المغرب في ردة حقوقية غير مسبوقة، وهي كذلك ترسخ اختيارا سياسيا وفكريا معاديا للحريات العامة، وهو أمر ليس بغريب عن حكومة يمينية محافظة تنزع بشكل كبير إلى الرجعية. فرغم الاختلافات الشكلية لمكونات الحكومة فإنها في عمقها الفكري والإيديولوجي تتقاطع في معاداة الحرية، وفي الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المحافظة وفي مرجعية الشيخ والمريد. استراتيجيتها العامة تتجه أساسا لخدمة الرسمال الهجين والنفاذ إلى الهيمنة على الخدمات العمومية الأساسية التي هي في صلب مهام الدولة. ولعل مشروع قانون الإضراب والقانون التخريبي للتقاعد والإجهاز على صندوق المقاصة ورفض حذف القوانين التي تجرم العمل النقابي والسياسي الموروثة عن الاستعمار و قانون التعاقد في الوظيفة العمومية و الدعوات السياسية إلى رفع يد الدولة عن قطاع الصحة العمومية و ضرب مجانية التعليم والتلكؤ في حل أزمته المركبة والمزمنة ورفض قانون التملص الضريبي و رفض الضريبة على الثروة و رفض إصلاح جبائي عادل ومنصف والاستمرار في تحصين اقتصاد الريع والعداء لكل الاقتراحات الهادفة إلى تحقيق المساواة الحقيقية…وآخر العنقود مشروع القانون 22.20 إنها الطبيعة الحقيقة للحكومة التي تحاول جاهدة طمس ملامحها البشعة بمساحيق مختلفة إلا أن قوة الواقع تفضحها وتعري عنها بين الحين والآخر. إن سخرية القدر تتجلى في الجهة المشرفة وزاريا على مشروع القانون 22.20 تلك الجهة التي اكتوت وعانت الأمرين أكثر من أي جهة سياسية أخرى من مثل هذه القوانين المشؤومة التي فصلت تفصيلا لمواجهة ثلة من المناضلين والمناضلات المؤمنين والمؤمنات بالحرية حتى الثمالة واللذين دفعوا من أجلها أغلى التضحيات، التي بفضلها مكنوا المغاربة من منطقة عازلة ليتنفسوا قليلا من الحرية. ليأتي القدر السياسي اللعين في زمن الجائحة والموت وزمن الردة فيتحول الضحية إلى أداة في يد الجلاد، ويقود عشاق الحرية إلى سوق النخاسة والعبيد سلعة وقربانا للأوليغارشية التي تريد جعل الوطن ضيعة والمواطنين الأحرار أقنان. الفيروس أهون وأخف وطأة من تكميم الأفواه وسلب ومصادرة الحريات، فاعقلوا يا أولي الألباب فمين يعبد الاستبداد ويجعل منه عقيدة فإنه فانٍ، ومن يعشق الحرية فإنها آتية في يوم قريب لا ريب فيه.