لعل الذي تابع مداخلة رجل الأعمال كريم التازي في ملتقى شبيبة العدالة والتنمية بطنجة أواخر شهر غشت الماضي من خلال الشريط المصور الذي تناقلته الصحف الرقمية سيتبادر إلى ذهنه أن الرجل بصدد إعادة سرد تاريخ الفساد الأعظم كما سبق أن دوّنه سابقوه في الصحف الوطنية والأجنبية وبطريقة أكثر دقة في كتاب الملك المفترس الشهير. إلا أن التأمل في مضامين مداخلة التازي وتقصي المعطيات التقنية والتواريخ والأرقام التي غالبا ما تشوش لحظيا على الأقل على انتباه المتلقي، من ذوي الإختصاص وغيرهم على حد سواء، يرى أن الرجل الذي يتحدث من موقع الخبير ببواطن الأمور في عالم المال والأعمال تناول بعمق، وبشكل غير مسبوق، آفة الزواج الكاثوليكي بين السلطة بالمال، والإغتناء السريع، وأجاب بمنطق المؤرخ أو الصحفي المحقق عن أسئلة في غاية الأهمية من قبيل "كيف ولماذا ومتى استفردت المؤسسة الملكية ومحيطها بعالم المال والأعمال" ! على سبيل المثال عندما يقول إن العطب أصاب الإصلاحات الإقتصادية التى تم الترويج لها منذ بداية حكم الملك محمد السادس تجسد في عودة الفساد بقوة ابتداء من سنتي 2004 و 2005، وتحدث عن ظاهرة الاغتناء السريع ومراكمة الأموال بفعل استغلال النفوذ والقرب من مركزالسلطة، وضرب مثلَيْن كبيرَيْن للفضائح المالية وهما فضيحة شركة الضحى – لصاحبها أنس الصفريوي – وفضيحة الشركة العامة العقاريةCGI التابعة لصندوق الإيداع والتدبيرCDG . فإن كريم التازي يقصد دون شك الفضائح المشار إليها هي المتعلقة بإدراج رأسمال هاتين الشركتين في سوق البورصة سنة 2006 بالنسبة للضحى و2007 بالنسبة ل CGI والتي عرفت كلاهما ارتفاعا صاروخيا لقيمة السهم استفاد منه المقربون، والشركتان تنتميان لميدان الإنعاش العقاري. تُرى لماذا خص التازي بالذكر هذين المثلين؟ وكيف تناولتهما وثيقتان مخصصتان للفضائح المالية وهما كتاب الملك المفترس الذي صدر في فرنسا شهر مارس 2012 ثم تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6032 مكرر بتاريخ 22 مارس 2012؟ ( الفصل المخصص لمراقبة مجلس القيم المنقولة، من الصفحة 1260 إلى 1262 و المخصصة لإدراج شركة CGI في البورصة). من بين ما ورد في التقرير: "خلصت بعض عمليات العروض العمومية للبيع، خصوصا حالة CGI، إلى الوقوف على مخالفات واختلالات مست مبدأ المساواة في التعامل مع المستثمرين وكذا ما قد يمكن إدراجه في إطار خيانة الأمانة... تمركز الأسهم بين بعض المتدخلين عبر خلق صناديق متعددة قبل بدأ عملية الاكتتاب: قام شخص ذاتي أجنبي بالاكتتاب بمبلغ إجمالي قدره 1.23 مليار درهم و تم منحه، عبر 353 صندوق تحوزها خمسة شركات تدبير، منها أربعة تم خلقها خلال سنة 2007، عددا من الأسهم بقيمة إجمالية بلغت 700 مليون درهم وهو ما يمثل نسبة %40 من مجموع ما تم تخصيصه للمؤسساتيين. .... . ولا يمكن لشركة البورصة أن تقرض أموالا لزبنائها أو أن تستعمل أموال بعض الزبناء لتمويل آخرين. غير أنه، في حالة قضية CGI، لم يتم احترام هذه القواعد مما أدى إلى ظهور خروقات على مستوى السوق الأولية يوم إجراء عملية التسديد مقابل التسليم التي بلغت ما قدره 968 مليون درهم. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت شركة US عن طريق استعمال 100 صندوق، من شراء سندات دون أداء مبلغها مستعملة في ذلك الأرصدة الدائنية لمودعين وطنيين. وهكذا، حصل المستفيد من العملية على ربح قدر بأكثر من 40 مليون درهم دون أن يقوم باستخدام ماله الخاص.....تم القيام بعمليات الشراء لحساب المسيرين السالف ذكرهم دون توفرهم على ودائع نقدية. حيث قام مسيرو US وكذا بعض الزبناء المفضلين باقتناء سندات CGI منذ الأيام الأولى من تسعير القيمة بحيث تقدموا كمشترين على مستوى سوق الكتل ليبيعوها فيما بعد لحساب صناديق أجنبية بأثمنة مغرية....ويتضح جليا مما سبق ذكره، أن عملية الإدراج في البورصة أحاطت بها عدة نقائص على مستوى تطبيق القواعد من طرف المتدخلين في السوق. ومما شجع على ذلك غياب مراقبة بعدية لمجلس القيم المنقولة للعمليات الخاصة بالإدراج في البورصة، وكذا غياب العقوبات.....بالإضافة إلى ذلك، لم يتم النطق بأي عقوبة أو غرامة اتجاه مسيري شركات البورصة خصوصا مسيري US، رغم أنه تم التنصيص عليها في الفصل 76 من الظهير الشريف المعتبر بمثابة قانون رقم 211-93-1، ولم يتم إحالة الملف على القضاء. وهكذا، فرغم خطورة الوقائع وأهمية الأرباح التي حصل عليها مسيرو US بدون وجه حق (بقيمة 33 مليون درهم)، فلم يتخذ مجلس الإدارة المنعقد في تاريخ 8 فبراير 2008 القرارات اللازمة.... تقصير الشركة المدبرة لبورصة القيم في مراقبتها للاكتتابات: تثير قضية CGI بصفة مباشرة مسؤولية الشركة المدبرة لبورصة القيم للدارالبيضاء حيث إنه على الرغم من كثرة الطلب بشأن الاكتتاب في سندات CGI وبمبالغ جد هامة، فإنها لم تلجأ إلى استعمال مبدإ طلب الأموال الممنوح لها كما هو منصوص عليه في الفصل 1.2.8 من نظامها العام." هذه الخلاصات التي أوردناها باقتضاب تتقاطع بشكل كبير مع ما ورد في كتاب الملك المفترس الذي خصص بدوره جزءا من فصله العاشر للحديث عن فضيحة CGI حيث يقول على الخصوص: "يرسم دبلوماسيون أمريكيون لوحة شديدة القسوة عن الفساد المستشري لدرجة تنزع أي مصداقية عن الخطاب المناهض للفساد الذي ألقاه الملك في العام السابق. لا شك أن بعض الممارسات الفاسدة كانت موجودة على زمن الحسن الثاني، إلا أنه وتحت حكم محمد السادس، أصبحت هذه الممارسات عملاً ممنهجاً. قطاع العقارات هو الجزء الأكثر وضوحا في الافتراس الملكي. ربما لأن الرأي العام المغربي يعلم جيداً هوامش الربح التي يحققها هذا القطاع والتي تتجاوز عموماً نسبة %30. أرباح ضخمة مضمونة لأعضاء القصر و للمنعشين العقاريين الذين يدورون في فلكهم. يمنح هذا القطاع أيضاً آفاق جذابة. أحد المقربين من هذه العمليات يعلق ساخراً: "إن ما نستطيع فعله مع مجموعة الضحى، نفعله أيضا مع صندوق الإيداع والتدبير". ثم يضيف : "صندوق الإيداع والتدبير هذا الذي يسيطر عليه الملك، لديه بالفعل فرع عقاري يدعى الشركة العامة العقارية CGI . أطلق هذا الفرع في عام 2007 اكتتاباً على 20% من رأس ماله في البورصة. امتدت فترة الاكتتاب من 23 يوليو إلى 27 منه. المستثمر الصغير الذين يصبح بكل سذاجة مالكاً للأسهم يجهل أن نظام البورصة في الواقع مشوَّه تماما. في المغرب، وكما رأينا، لا يعتبر الاستفراد بالمعلومة لتوظيفها في البورصة جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن بالأحرى امتيازا لا يفوز به مرة أخرى إلا المقربون من الملك. في حالتنا هذه، سارعت عدد من الشركات الأجنبية المستقرة في البلدان التي تعتبر ملاذات ضريبية إلى شراء كميات كبيرة من الأسهم قبل الناس العاديين. هذا هو استغلال النفوذ في أبشع صوره: من يملكون السلطة يطلعون على الخبايا ويملكون القدرة على شراء الأسهم قبل الباقين، محققين بذلك ربحاً فوريا." ثم يواصل الكتاب : "حصل الاكتتاب على أسهم الشركة العامة العقارية في البورصة سنةً بعد الاكتتاب على أسهم الضحى. أدرَّ الاكتتاب على أسهم CGI ما يقرب من 3.5 مليار درهم (350 مليون أورو) وهو المبلغ الذي يجعل من عملية الاكتتاب هذه ثاني أكبر عملية في المغرب بعد اتصالات المغرب. تضاعف سعر السهم خمس مرات في أقل من شهرين. أشرف رجلا القصر الماجيدي وبوهمو في المقدمة على تفاصيل العملية وقدما تقريراً عنها للملك. بما أن الفساد ظاهرة قابلة للاتساع، فقد سمحت هذه العملية أيضا، بنقل هذه المعلومات الحساسة إلى بعض المقربين من الذين كان النظام يرغب في "مكافأتهم أو توريطهم"على حد تعبير أحد المطلعين على الملف. أبدت إحدى المؤسسات المالية التي كانت تظن نفسها في منأى من العقاب في هذا الملف نهماً مبالغاً فيه. مجموعة آبلاين (Upline)، التي أنشئت في عام 1992، ضمت منذ بداية عقد الألفين مساهماً جديداً بنسبة 40% من رأسمالها، يدعى حمد عبد الله راشد آل شمسي. هذا المواطن الإماراتي، الذي لا يعرفه أحد، وبحسب مصادر حسنة الإطلاع ليس إلا واجهة وحامل أسهم بالنيابة عن عضو في العائلة المالكة. خلال عملية الاكتتاب في الشركة العامة العقارية، استعمل مسيِّرو آبلاين الأموال المودعة من قبل بعض الزبناء لتنفيذ عمليات شراء الأسهم لصالح شركات مقيمة في ملاذات ضريبية يملكها رجل إنجليزي. تعهد هذا الأخير بإعادة بيع الأسهم مع هامش ربح مقرر سلفاً. " أليس هذا المخطط من أفعال العفاريت؟ أما قضية الضحى فقد أفرد لها نفس الكتاب فصلا كاملا هو الفصل الثامن بعنوان "جريمة سطو ناجحة في ميدان البورصة." حيث يشرح بإسهاب هذا النموذج الصارخ من تقاطع المصالح بين السياسة و المال و استغلال النفوذ للاغتناء، ويختتم بالقول: "بالنسبة لبعض المراقبين لأمور الملكية، يعتبر إدراج الضحى في البورصة، بالإضافة لكونه نموذجا للشطط في استغلال المعلومة، نقطة تحول جوهرية في نظام الافتراس الذي أنشأه الملك ومحيطه. هنا وجهة نظر أحد رجالات البلاط الذين احتكوا لفترة طويلة بمحيط الملك محمد السادس. يقول الرجل "إن جريمة استغلال المعلومة لا تنحصر فقط في امتلاك معطيات مسبقة حول سعر السهم في البورصة، إن التلاعب الحقيقي هو أن تمنح أراضي من المِلك العام بأسعار منخفضة مع العلم أن سعر السهم سوف يرتفع باستمرار. لقد فهموا من خلال الضحى أن اقتصاد المال أسهل وأسرع للاغتناء من الاقتصاد الحقيقي. لقد طوروا آليات معقدة لمنح أنس الصفريوي احتياطيا عقاريا جعل أسهمه في البورصة ترتفع قيمتها"، وللرد على السؤال: من هم المستفيدون من العملية ؟ ابتسم وقال: "هم الذين يعملون في المحيط الملكي، وهم في الواقع يشهدون على الطابع السائد في عصرنا هذا الذي يسير نحو المضاربة والاغتناء بلا حدود وإخضاع الاقتصاد لسلطة المال ". هناك إذن إجماع من ابن خلدون الذي كتب "إن التجارة من السلطان مضرة بالرعية و مفسدة للجباية " إلى كريم التازي مرورا بوثائق ويكيلكس التي كشفت بدورها عن الفساد المستشري في هرم السلطة بالمغرب والتي لم تكذبها الجهات الرسمية ولم يكذبها مؤخرا السفير الامريكي بالرباط خلال حواره مع موقع هسبريس حيث قال إن "وثائق ويكيليكس تتعلق بفترة لم أكن خلالها متواجدا هنا بالمغرب، لكن دعني أقول إن مهمتنا، بصفة عامة، تتركز حول التعرف على المعلومات المتعلقة بكيفية عمل وتفكير المغرب، يجب أن ننقل هذا لواشنطن، وفي المقابل ننقل ما نعلمه من زملائنا بواشنطن إلى المغرب.. وفي على كل حال، يجب أن نحافظ على استمرارية علاقاتنا مع المغرب، ودائما ما تكون هناك خلفيات لدى البلد الوافد والمستضيف لأجل تعزيز هذه العلاقات ودعم العمل المشترك.. ووثائق وِيكِليكْسْ تتحدث عن ذات العلاقات، وهي تعكس الفهم الذي عبر عنه زملائي بشأن قضايا الدول التي نشتغل فيها".. هذا الفساد يؤكده بالملموس من جهة الكتاب الآنف الذكر والنابع من تحقيق صحفي، ومن جهة أخرى تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010، ليصلا لنفس النتيجة. إلا أن هذين النموذجين – فضيحة الضحى وفضيحة CGI لم يجدا طريقهما للقضاء، و لم يظفرا بعناية السيد وزير العدل ولا أثارا انتباه السيد رئيس الحكومة الذي رفع الراية البيضاء أمام التماسيح والعفاريت. أما أحد أبطال هذه الفضائح وهو السيد الباكورى المدير العام السابق لصندوق الإيداع والتدبير فقد أصبح أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة وأصبح يعطى الدروس في الحكامة الجيدة والشفافية، وهذا ما تناوله مؤخرا مقال مطول للصحفي سعيد السالمي نشره موقع لكم بعنوان : "نموذج الفساد المؤسساتي بالمغرب: مصطفى الباكوري من شهادة الزور على الملك إلى رآسة حزب الملك".