لا يمكن تفسير ما يحصل إلا أنه احتقار. احتقار لذكاء المغاربة وتاريخهم وشخصيتهم وكرامتهم وكل ما يمثل قيمة ذات معنى لدى الإنسان المغربي. فما معنى أن يستمر شخص فاشل، أثبت فشله عدة مرات على رأس المنتخب المغربي لكرة القدم، وضدا على إرادة الشعب المغربي التي عبرت عنها الجماهير أكثر من مرة بانتقاداتها واحتجاجاتها وبمقاطعتها مباريات المنتخب؟ هل كان يمكن أن يستمر المدرب البلجيكي إريك غيرتيس على رأس النخبة الوطنية بالرغم من كل هزائمه وفضائحه التي أصبحت مادة للرأي العام، لو لم يكن مسنودا بجهات يقال إنها عليا – ولا أحد يدري لماذا - هي التي تعاقدت معه بالأجر الذي مازال سرا من أسرار الدولة وصرفت له التعويضات الخيالية التي لا أحد يقدر قيمتها، وحمته عند كل هزيمة وفضيحة من غضب الجماهير التي كانت تطالب كل مرة بإسقاط رأسه؟ ألم يصرح غيريتس نفسه للصحافة البلجيكية بأن الملك هو من طلب منه البقاء على رأس النخبة المغربية رغم إقصائها المذل في نهائيات كأس إفريقيا قبل بضعة شهور فقط؟ نعم، باسم الملك احتقر غيريتس المغاربة وبرلمانهم وحكوماتهم ووزراءهم وجامعة كرتهم وتهرب من آداء الضرائب المستحقة لخزينتهم ... لكن الموضوع لا يتعلق بمدرب أجنبي عرف كيف يوفر لنفسه ثروة سريعة و سهلة من أموال شعب مغربي يعيش نحو ربع مواطنيه تحت عتبة الفقر أو هم مهددون بالفقر. فقبل غيرتيتس كان هناك هنري ميشيل وروجي لومير، وكلاهما أهان الكرة المغربية ومرغ كرامة المغاربة في التراب قبل أن يرحل بحسابات بنكية تتيح له حياة تقاعد مريح جدا. كما أن الأمر لايتعلق بكرة القدم فقط ولا بجامعتها التي ورَّثها الجنرال حسني بنسليمان لعائلة آل الفاسي الفهري... انظروا كيف تعاملت وزارة الشبيبة و الرياضة باحتقار وازدراء مع أولمبياد الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة رغم الآداء البطولي لهولاء الأشخاص الذين لن يذكرهم أحد بعد انتهاء الأولمبياد. فالوزير والجنرال ورئيس اللجنة الأولمبية وأعضاؤها الخالدون سافروا على حساب أموال دافعي الضرائب إلى لندن في رحلة سياحية رفقة فريق "الأسوياء" الذين كلفوا خزينة الدولة أموالا طائلة وكانت النتيجة فضائح بالجملة عن تعاطيهم المنشطات. أليس في مقاطعة أولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة من طرف نفس المسؤولين الذين ظلوا على رأس الأجهزة الرياضية منذ عدة سنوات، احتقارا لهذه الفئة من الشعب ؟ الأمر لا يتعلق بكرة القدم أو بالرياضة فقط. إنها فلسفة عامة أو طريق في الحكم تقوم على احتقار الحاكم للمحكوم. عقلية "المخزن" تشبه في عنادها المثل القائل "ولو طارت معزة". إنها عقلية احتقار مفكر فيه مع سبق الإصرار والترصد لإشعار الإنسان المغربي دائما بأنه فاقد للأهلية ويحتاج دوما إلى الوصاية. أليس هذا ما يحاول أن يقوله لنا يوميا عبد الإله بنكيران في خرجاته الإعلامية عندما يذكرنا بأنه لولا الملكية لما وجد لهذا الكيان المغربي وجود؟! ألم يظل رجل صاحب شخصية ضعيفة اسمه عباس الفاسي كوزير أول مفروض على المغاربة بالرغم من فضائحه التي راح ضحيتها أبرياء، انتحروا أوشرِّدوا ومازال من بينهم من يعاني الفقر والتشريد والتهميش، وبالرغم من انتقاد شرائح واسعة من الشعب المغربي له وكرههم له طيلة أربع سنوات بالتمام والكمال؟ انصتوا اليوم إلى ما يقوله بعد أن فات الأوان أعضاء حزب الفاسي نفسهم عنه عندما يعيرونه بضعف الشخصية وبالانتهازية والأنانية والتآمر الذي أدى بحزبه إلى حافة الهاوية... من تصريحات امحمد الخليفة إلى عنتريات حميد شباط... ولا أتحدث عن "كلاب الحراسة" الذين كانوا ينبحون كلما كتب صاحب هذا العمود بأن تعيين عباس الفاسي على رأس الحكومة المغربية عام 2007 كان "عقابا ملكيا جماعيا" للمغاربة الذين قاطعوا تلك الانتخابات بكثافة متجاهلين النداء الملكي! إن الاحتقار له بعده الرمزي أيضا، وهذا البعد لا يمكنه أن يتجلى إلا في صورة المغاربة على التلفزيون الرسمي. فمنذ نحو 13 سنة والمغاربة ينتقدون التلفزات الرسمية ويطالبون بإقالة مدرائها وتغيير مسؤوليها، ومع ذلك يستمر نفس الأشخاص في نفس المناصب لينتجوا نفس الرداءة التي تثير حنق المشاهدين إمعانا في احتقارهم وإهانتهم! لقد ظل إدريس البصري وزيرا للداخلية برتبة "الصدر الأعظم" طيلة ربع قرن من الزمان، رغم احتجاج المعارضات واشتعال المدن واحتراقها وموت الضحايا واختفاء المحتجين وراء القضبان وفي الأقبية السرية المنسية، ومع ذلك أصر الملك الراحل على إهانة 40 سنة من تاريخ المعارضة السياسية والوطنية و... عندما دعاها إلى المشاركة في الحكومة مشترطا عليها استمرار وزيره في الداخلية أمينا لسرها وصدرها الأعظم الذي لا يمكن إزاحته؟! وعندما انتهت صلاحية وزير الداخلية ذاك قال هو نفسه عن نفسه إنه كان مجرد "خدامة الحكومة" (مع كل الاحترام والتقدير لكل النساء الشريفات اللواتي يمتهن هذه الخدمة)، ورأينا كيف تم رميه مثل "كلب"، وهذا تعبير استعمله البصري نفسه ليموت شريدا في شوارع باريس، وهو الذي دبج القصر الملكي ذات يوم سنة 1993 بيانا بشأنه يرفعه إلى درجة "التقديس" عندما رفضت المعارضة السابقة دخول الحكومة بوجود شخص على رأس وزارة الداخلية إسمه إدريس البصري! وحتى لا نذهب بعيدا فخلال "حفل الولاء" الأخير تابعنا كيف أصر القصر على الاحتفاظ بكل طقوس هذا الحفل المهينة والمذلة لكرامة المغاربة. وقد أصر الملك بنفسه على امتطاء صهوة جواده ونقل مراسيم احتفاله على الهواء، إمعانا في تحدي واحتقار وإهانه كل من طالب بتخفيف أو إلغاء تلك الطقوس التي تعامل المغربي كقن وعبد عند سيده وولي نعمته! وهذا يعزز القول بأن احتقار الإنسان جزء من تصور السلطة في المغرب لنفسها. لماذا كل هذا الكم الهائل من الاحتقار التاريخي والمستمر للشعب المغربي؟ إن الإصرار والإمعان على احتقار المغربي في كل مناسبة، وأحيانا افتعال مناسبات غير موجودة للتأكيد والتذكير بهذا الاحتقار هي غريزة خوف كامنة لدى من أصبح مريضا مرضا مزمنا بهذا النوع من السلوك المرضي والذي وصفته مؤخرا مواقع إخبارية عالمية مثل الواشنطن بوسط و إبس نيوز الأمريكيتان و الكوارديان البريطانية بكونه " out of step " أي "أكل عليه الدهر وشرب"، و تناقلت المقال الساخر صحف عديدة في أرض الله الواسعة، من أفغانستان إلى سيراليون و من نيبال إلي زامبيا. إنها غريزة الخوف من أن تكون لهذا الشعب ذات يوم سيادته على قراره، وغيرة على كرامته، والقدرة على القول ذات يوم وبصوت واحد: "كفى من الاحتقار". حكاية لا علاقة لها بما سبق يحكى أن إنسانا استيقظ ذات صباح فتوهَّم نفسه حبة قمح، وكان كلما رأى ديكا إلا وأصيب بالهلع وانتابته نوبة من الخوف من أن ينقره الديك فيلتهمه. أليس حبة قمح؟ وبعد محاولات الأهل والأصدقاء وافق على عرض نفسه على طبيب نفسي أقنعه بأنه ليس حبة قمح وإنما إنسان له كرامته ويملك إرادته. فخاطبه الطبيب: الآن يمكنك أن تخرج رافعا رأسك بدون خوف أو وجل من الديك، فرد عليه الإنسان متسائلا: نعم أنا اقتنعت، لكن من يقنع الديك بأني لم أعد مجرد حبة قمح؟! نعم، من يقنع الديك اليوم بأن العالم تغير؟