نحو تقويض بعض أسس الخطاب المناهض للحريات الفردية من الأهمية بمكان أثناء مناقشة الحريات الفردية و حقوق الانسان بشكل عام التميييز بين مقاربيتين أساسيتين تهيكلان معظم معالجات هذه المسألة، و تقع باقي زوايا النظر الأخرى بينهما : المقاربة الحقوقية التي تنطلق من فلسفة حقوق الانسان الكونية باعتبار هذه الحقوق يجب أن يتمتع بها جميع الناس بغظ النظر عن جنسهم أو عرقهم أو دينهم أو أصلهم الاجتماعي أو الجغرافي...بمعنى أن حقوق الانسان لا حدود لها جغرافية أو جنسية أو عرقية....و أية أطروحة حول اعطاء الأولوية لهذا الحق دون اخر أو تأجيل الحديث عن هذا الحق دون ذاك، أو النضال من أجل اتنزاع هذا الحق دون حق اخر مثل القول بأولوية الحق في الشغل و الصحة و التعليم قبل أي حديث عن الحق في حرية ابداء الرأي و حرية التعبير..هي أطروحة انتقائية تسقط في منطق الخصوصية كعائق سوسيوثقافي لإعمال حقوق الانسان في شموليتها و كثيرا ما شكلت هذه الأطروحة تبريرا اديولوجيا لاستبداد و قمع أنظمة لاديمقراطية و معادية لحقوق الانسان . المقاربة الدينية التي ليس باضرورة واحدة و موحدة، بل هي تشترك في الاستناد الى النص الديني و تتمايز على مستوى تأويل هذا النص في علاقته بقاضايا المجتمع كحقوق الانسان و الحريات الفردية كحرية المعتقد أو الحرية الجنسية..و لكن الملاحظ في ظل " الجني المؤقت " لثمار " الربيع العربي " من طرف قوى " الاصولية الدينية " في العديد من بلدان الأقطار العربية و منها المغرب هو محاولة صنع رأي عام و وعي جمعي ينتصر لجبهة الرفض و التصدي للحداثة و حقوق الانسان و الحريات الفردية التي هي جزء لا يتجزأ من ديمقراطية هي التي أوصلت أحزاب و شيوخ هذه الجبهة الى السلطة في العالم العربي. .. لكن و انطلاقا من تداعيات الندوة التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الانسان يتاريخ 16 يونيو 2012 حول الحريات و دور الحركة الحقوقية، و ردود الافعال التي تلتها خاصة إزاء الحريات الفردية و الغاء الفصل 490 من القانون الجنائي و كذلك فتوى عبد الله النهاري ضد رئيس تحرير يومية " الأحداث المغربية" المختار الغزيوي، فالسؤال الحيوي المطروح في هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى هو : لماذا يلجأ أنصار جبهة رفض الحداثة و التنوير و حقوق الانسان في كونيتها و شموليتها الى خطاب تحريضي على العنف و القمع و الاهانة و الاقصاء و تأليب المجتمع و خلق حالة استنفار مقصودة بدعوى الدفاع عن القيم الدينية ؟ هل من الممكن التأسيس لحوار هادئ و ديمقراطي و نقاش عمومي عقلاني حول موضوعة الحريات الفردية و حقوق الانسان كموضوعات مستفزة في سياق حوار عام و شامل حول الديمقرايطية كقيم و مبادئ و فلسفة و مساطر؟ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف سواء مع أنصار الحريات الفردية أو مع المناهضين لها، نعتقد أنه للرأيين الحق في الوجود و التعبير عن نفسيهما بشكل حضاري و سلمي ومن ثمة من الواجب التصدي لكل محاولة للمساس بهما..لكن الطريقة التي خرج بها الفقيه المشهور بدروسه الهستيرية المرعية " عبد الله النهاري " في مواجهة المختار الغزيوي، هي بمعايير المحاججة الواردة في الدين الاسلامي الذي يدعي صاحب الفتوى الدفاع عنه، هي طريقة عدوانية لا تعبر فقط عن سلوك فردي و مواقف فردية لصاحبها بقدرما تعبر عن منظومة فكرية و قيمية و سياسية مغلقة و جامدة تحاول تعميم –بشكل قسري- تأويلها المغلق للنص الديني وتصورها الستاتيكي للدولة و المجتمع خارج الزمن التاريخي أي زمن الحركة التطور و التحول و النسبية.. و المفارقة العجيبة هي أن التراث العربي الاسلامي غني بمتن أدبي متنوع و جدير بالاطلاع و المعرفة حول الجنس و الثقافة الجنسية، إلا أن غالبية فقهاء و مفتتي هذا الزمن يجهلون أو يتجاهلون هذا المتن بل و يعملون على إقباره من خلال رفضهم العنيف لاي نقاش و لو محدود و لا يتجاوز صالونات النخبة حول الحريات الفردية أو قضية المرأة و مساواتها بالرجل..، فيكشفون من خلال هذه المواقف عن نمط التربية المدرسية التي تلقوها في أحضان جماعاتهم أي التلقين و الحفظ و تنفيذ أوامر الشيخ أو الأمير..و هذه التربية الاستبدادية المناقضة للتربية الديمقراطية تصنع منهم مشاريع "جهادية " و أشباه " فقهاء " يتبنون خطابا تحريضيا تتشكل عدته اللغوية من عبارات التهديد و الوعيد في ظل عجز مهول عن التحليل العقلاني و استعمال أدوات المحاججة القائمة على الانصات الفكري – و ليس السمع فقط- و الاقناع ثم الايمان بنسبية الحقائق... و قصد ملامسمة أوضح لهذه العقلية المتحجرة نستحضر من زاوية نقدية مقتطفات من خطاب أنصار عبد الله النهاري من رموز المشهد الديني المسيس ببلادنا و ضمنه ما يسمى بأقطاب " السلفية الجهادية" ، يقول أبو حفص " ..يؤسفني أيضا أن تعلن الكثير من الهيئات العلمانية تضامنها مع ذلك الصحفي الذي استرخص لحم أمه و أخته بينما أهل العلم لا بواكي لهم.." (1) و يستطرد قائلا " بغض النظر عن فتوى الشيخ و استنادها الى حديث لا يصح – اقتلوا من لاغيرة له – فلا يسعني الا مساندته و مؤازرته في هذه المحنة ، لان الحرب عليه تأتي في اطار حرب على قيم المجتمع و أخلاقه، بل على دينه الذي ارتضاه نيف عشر قرنا"(2)، و جاء في بيان أصدره حسن الكتاني " هذه الوقاحة من العلمانيين لا تطاق، رويبضة فاجر يعلن امام العالم أنه يرضى الفاحشة لأهله فيقوم داعية مسلم مستنكرا مستشهدا.....إن العلماء الرسمييين و حكومة الاسلاميين امام امتحان يعز فيه المرء أو يهان.."(3)، و في تعليقه على نفس الموضوع يصرح عمر الحدوشي "..كلنا متضامنون مع الشيخ عبد الله نهاري ضد دعاة العلمانية و الحرية الجنسية.."(4) انطلاقا من هذه العينية من ردود فعل بعض أقطاب " الفكر السلفي" المبني على "الاعتقاد الجهادي" و التي تعبر عن الضحالة الفكرية لأصحابها من خلال طبيعتها الاخلاقية و التحريضية و التمييزية دون الحد الأدني من التساؤل حول مفهوم الحريات الفردية سواء الحرية الجنسية أو حرية المعتقد و استحضار التصورات المختلفة حول هذه المسألة سواء على مستوى المقاربة أو الإعمال و بالتالي الذهاب مباشرة الى منطق التكفير و نعت " الخصوم" بنعوت غير لائقة من مثل استرخاص لحم المرأة، وقاحة العلمانيين واعتبارالصحفي رويبضة فاجر و هي تعني حسب حديث عن أبي هريرة " رجل تافه يتحكم في أمورالعامة" و دعوة "العلماء الرسميين" أي فقهاء الدولة و حكومة " الاسلاميين" الى خوض غمار الحرب على العلمانيين ..أو ليست هذه دعوة صريحة الى الاظطهاد الديني و تنصيب محاكم التفتيش على أفكار و معتقدات الناس مع العلم " أن القران يقول " لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، و لهذا لا يسمح الله لنا بأن نؤاخذ الناس على ما في رؤوسهم من أفكار، و انما يعطينا الحق في مؤاخذتهم ان مارسوا أعمال القتل و التهجير في حق من يختلف عنهم في الافكار و المعتقدات، و من يمارس القتل و التهجير هو الذي يمنع، و لو كان يصوم و يصلي و يشهد أن لااله الا الله ! " (5) ان ربط مسالة الدفاع عن الحريات الفردية بالعلمانية و الدعوة الى الالحاد لا تقتصر فقط على " الخطاب السلفي الجهادي " بل تمتد أيضا الى دعاة متمكنين بالفقه و الثقافة الدينية و مدعين للحوار و تفاعل الأراء كالدكتور أحمد الريسوني الذي سمى مناصري هذه الحريات ب " الاخوان الملحدين" و التأكيد على أن هدفهم هو مناهضة الدين و القيم و المبادئ و تفكيك البنية الثقافية و الأخلاقية للمجتمع ليستنتج أن خلفيتهم " إلحادية "﴿6﴾، و هذا يؤكد أن نفس البنية الاديولوجية الانغلاقية و الرافضة للاراء المخالفة هي مشتل و مصنع هذا النوع من التفكير و الخطاب. لا شك أن هذا الربط الميكانيكي بين مسالة الدفاع عن الحريات الفردية و بين العلمانية و الدعوة الى الإلحاد ينم عن حقيقتين أساسيتين تفضحان مغالطات أصحابه : الحقيقة الأولى هي تحكم المنطق المانوي في نظرهم لقضايا المجتمع و الفرد، أي كل من دافع عن الحريات الفردية و حقوق الانسان وفق المرجعية الكونية فهو علماني و كل علماني ملحد و كل ملحد هو بالضرورة يحارب الدين و التدين و عقيدة المجتمع و بالتالي وجب اعلان الحرب عليه و هي حرب " مقدسة " حتى في حالة عدم التعبير عن هذه القداسة صراحة، و الحقيقة الثانية هي الجهل التام أو " التجاهل المنهجي " و المقصود للعلمانية كتصور للدولة و المجتمع يقوم على قيم العقل و المعرفة العلمية و النسبية والتفكير العقلاني و حرية التفكير و الضمير و التمييز بين الفضاء العام و الفضاء الخاص و حماية حريات الأفراد و الجماعات و حقوقهما المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و إعمال الاليات الحقوقية و القانونية الضرورية للتمتع بتلك الحقوق أو المطالبة بها أو ممارستها و التعبير عنها دون السماح للمساس بها في تعددها و تنوعها و اختلافها أو إلحاق الأذى بأصحابها.. و اذا كانت العلمانية في حد ذاتها ليست واحدة بل هي علمانيات و نماذج متعددة منها أنظمة علمانية لكنها استبدادية يحكمها العسكر و منها أنظمة جمهورية لا ديمقراطية..الخ " ..كما يؤكد في هذا الاطار د.رفعت السعيد أنه " من الخطأ القول بعلمانية واحدة. هناك علمانيات عدة. لكن لكل منها خصائصها المحلية. ففي فرنسا مثلا نسق علماني يقوم على أساس التضاد مع الكنيسة " من خلال شعار " كل شؤون الدين للكنيسة و كل شؤون الدنيا للبشر"﴿.7﴾ و يتحدث عن النمط الانكلوساكسوني للعلمانية حيث " هناك فصل حاسم بين الدين و الدولة، لكن الدولة المدنية لم تدخل في صراع مع الكنيسة بل إن الملك في بريطانيا يظل رمزيا رأس الكنيسة..أما في أمريكا فإن الدولة المدنية حرصت على حماية الدين من أي عدوان على ساحته في حين ظلت تؤكد علمانيتها ...و المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات تدينا. مما يؤكد أن العلمانية ليست بالضرورة موقفا مضادا للدين" ﴿8﴾. و هكذا فان الفهم العلمي و التاريخي للعلمانية هو الذي يعتبرها ذلك النظام السياسي و السوسيوثقافي الذي يعلي من شأن الانسان عقلا و فكرا و لا يقبل استعباده و هدر كرامته باسم الدين أو السلطة المقدسة، و بالتالي لا يمكن الحديث أو تصورنظام علماني بدون أن يكون له مضمون ديمقراطي حداثي حقوقي حسب المعايير الكونية لهذه المتلازمات الثلاث، وهكذا فالعلمانية لا علاقة لها بما يسمى " الالحاد" أو الدعوة الى " اللادين أو اللاتدين " بقدرما أنها نقيض الدولة الدينية و جوهر الدولة المدنية الديمقراطية و المجتمع الديمقرايطي التعددي و الضامن الأكبر و الأجدر لممارسة الحقوق و الحريات كحرية العقيدة و حماية ممارسة الشعائر و الطقوس المرتبطة بتلك الحرية " و بهذا يمكن القول أن للعلمانية وجهين : العلم و العقل كأساس للتقدم الانساني، و الوجه الآخر هو القول بفصل الدين عن الدولة و منه فصل العملية التعليمية الحديثة عن الدين."﴿.9﴾. ان هذا المنطق المانوي و هذا العداء من داخل الجهل و التجاهل للعلمانية و العجز عن شل حركة إعمال العقل و التفكير العلمي هو ما يفسر لماذا يحفل تاريخ حركات و جماعات التطرف الديني التي تسعى الى الأسلمة الشاملة، القسرية و الصورية لكل مناحي الحياة العامة و الشخصية، بسجل حافل من الجرائم السياسية و" الفكرية" كالاغتيالات التي طالت – على سبيل المثال لا الحصر- فرج فودة، عمر بن جلون و إعدام محمود طه شنقا في السودان تحت شعار " تنفبذ شريعة الله " في ظل نظام سياسي ديكتاتوري هيمن عليه تحالف العسكر بقيادة النميري مع " الاسلاميين " بزعامة الترابي..، و اصدار فتاوي القتل و التكفير في حق مفكرين و مثقفين و باحثين و اعلاميين و فنانين من أمثال نصر حامد أبو زيد، محمد أركون، عبد الصمد ديالمي، مارسيل خليفة ، عادل امام و اللائحة طويلة .....فقط لأنهم أخضعوا النص الديني لقراءة نقدية مغايرة و اقتحموا فكريا و إبداعيا بعض حقول القداسة و الطابوهات التي يعتبرها تجار الدين خطوطا حمراء كالمرأة و الجنس و حرية الابداع و حرية العقيدة و الحرية الجنسية و تاريخية النص الديني.. بل و كذلك تكفير بعض رجالات الدين المتنورين الذين دعوا الى الاجتهاد و إعمال الفكر المقاصدي " و كما يقول " جورج طرابيشي ف " مجتمع يريد الديمقراطية في السياسة و لا يريدها في الفكر، و لا على الأخص في الدين، و لا بطبيعة الحال في العلاقات الجنسية، هو مجتمع يستسهل الديمقراطية و يختزلها في آن معا – كما في الاختزال – ما قتل!" ."﴿10﴾. إن المفارقة العجيبة هي اغتراف هؤلاء " الدعاة و منتجي الفتاوي" من الفكر الديني في مستواه السلفي المغلق القائم على الاستنساخ الفج و التوظيف الاديولوجي البسيط دون أن يسترعي انتباههم العديد من مراحل و أعلام الفكر الاسلامي المرتيطين برؤية كلامية و فلسفية نقدية فيها الكثير من الجدة و الاجنهاد، لهذا أدعوهم بكل تواضع الى توسيع أفقهم القرائي ليتجاوز الوهابية كتأويل مشوه للإسلام تموله بورجوازية الريع النفطي التي عندما يتعلق الأمر بالرساميل و تسمين سنداتهم المالية فالاستثمار حلال و مشروع في كل شيئ : الدين و الفتاوي والجنس و الرقص و الرياضة و السحر و الشعوذة ..تحقيقا لاستهلاك جماهيري واسع لثقافتها و اعلامها القائمين على البوار و بؤس الفكر ..لهذا فليس من مصلحتهم و مصلحة إعلامهم و مدارسهم عرض أوالاطلاع على تراث المعتزلة، ابن رشد، رفاعة الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، الجابري، عبد المجيد الشرفي، علي عبد الرازق من خلال كتابه " الاسلام و أصول الحكم"...الخ، كما أدعوهم الى الاحتكاك بإبداعات البشرية في مجال الفكر و الفلسفة و العلوم الدقيقة و الانسانية و الثقافة و العلوم و الفن و التي شكلت بعضها لحظات ثورية حقيقية غيرت حياة الانسان و فكره رأسا على عقب. و عودة الى السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذا المقال و المتمحور حول إمكانية خلق شروط حوار هادئ بلغة سلمية و عقلانية حول موضوعات "مستفزة"، لا بد من توضيح أن هذا "الاستفزاز"الذي يعني مناقشة أو التقرب من قضايا هي بمثابة طابوهات و خطوط حمراء، يطال في الواقع عقل نخبة تستمد من موقعها الديني سلطانا ماديا و رمزيا، أكثر منه للوعي الجمعي الذي يعتبر الدين و التدين من أهم مكوناته، و هذا الوعي الجمعي لا يعبر عن فهم واحد و ممارسة واحدة في العلاقة بالدين و التدين، لنتأمل هذه اللوحة السوسيولوجية الوصفية التي تحتاج الى تحليل عميق للكشف عن محدودية و لاموضوعية دراسات و أبحاث لبعض مراكز البحث التي تحركها خلفيات سياسية و التي تحاول ربط تغلغل السلوك الديني في المجتمع بصحوة المجتمع و رجوعه الى" الاصل" الى حد القول أنه تعبير جماعي عن رفض حداثة الغرب و علمانيته : المجتمع المغربي مجتمع مسلم في معظمه و متعدد على صعيد هويته الحضارية، وبالتالي فالمغربي لا يعطي نفس المعنى لممارساته الطقوسية، ولا يمارس اسلامه بنفس الطريقة التي قد تختلف بين متعلم و غير متعلم، بين المرأة و الرجل، بين البادية و المدينة، بين رمضان و غير رمضان، بين الأعياد الدينية و غيرها من الأيام...، كثير من المغاربة يصلون بانتظام كما الكثير منهم بشكل غير منتظم أو لا يصلون أصلا، كثير من المغاربة يصلون فقط خلال شهر رمضان و الكثير منهم لا يذهب الى المسجد الا يوم الجمعة، كثير من المغاربة لا يملون من انتاج خطاب ديني بشكل يومي و في نفس الوقت مرتشين و لا حرج لديهم أن يتعاطوا للكذب و النفاق الاجتماعي، و كثير منهم كذلك ينصوتون الى الفتاوي و دروس الأئمة و الفقهاء سواء في المساجد أو عبر القنوات الفضائية لكنهم لا يعملون بها...الخ. كثير من المغاربة يقارعون الخمرة بعد أداء صلاة العشاء التي تعني بالنسبة لهم إتمام التزاماتهم الدينية، و كثير منهم يؤدون الصلاة بانتظام و يقارعون الخمرة بانتظام مع العلم أن هناك اختلاف بين الفقهاء و الباحثين في الشأن الديني حول مسألة تحريم الخمر، و نفس الشيئ بالنسبة للحجاب الذي ليس محط إجماع بكونه فرضا، ماهي علاقة المغاربة بالفرح؟ بالغناء؟ بالرقص؟ بالفن عموما؟..هذه أسئلة متعددة قد تبدو بسيطة و جزئية لكنها في العمق ذات معان غنية كما يقول مقطع حواري بين شخصين من رواية ل"محمد الأشعري " : - ابتسم ابراهيم و قال : إننا بلد متزمت بشكل لا مثيل له. لم يوجد في بلادنا صنف من هذه الفنون لم يتعرض للاحتقار و الاضطهاد منذ العيطية الى الهيب هوب ! .. - قلت : إنك تبالغ، كل التعبيرات الفنية كانت طبيعية و تلقائية حتى حل الطاعون الظلامي فحرم ما حرم و حلل ما حلل ! و مع ذلك لم ينتصر على الرقص و الغناء، بل فقط استطاع أن يفرض الحجاب و العمرة على الشيخات ! "﴿11﴾. فما هي دلالات هذه اللوحة السوسيولوجية البسيطة كما اصطلحنا عليها ؟ لا بد من الاشارة الى أن تفسير هذه العلاقة المرنة عند البسطاء بالدين و التدين يتجاوز أطروحة " السكيزوفرينيا الاجتماعية و النفسية " التي تشتغل على تناقضات الشخصية المغربية و انفصامها ، و بالتالي توخيا لقراءة أشمل و تحليل أوسع و أدق لابد من نشدان الحاجة المعرفية الحيوية الى القراءات السوسيولوجية و الانتروبولوجية العميقة لتفكيك مدلولات هذه الممارسات و الطقوس كصيغة من صيغ الانصات الى تمثلات و تصورات و كذلك رهانات ممارسيها أفرادا و جماعات حتى لا نكون أمام هيمنة فقط للرأي الواحد الصادر عن الخطاب النخبوي للفقهاء و المفتين و دعاة تطهير و تنقية الإسلام من الشوائب، لأن تلك المظاهر من الممارسات الدينية كجزء من السلوك الاجتماعي تدخل في صميم الحرية الفردية و لا يمكن مصادرتها أو الحد منها و تدخل ضمن ما سماه المفكر المصري الراحل " محمود أمين العالم"﴿12﴾ بالإسلام الشعبي الذي تحت ظغط التحولات الاجتماعية و الثقافية المتسارعة و اكراهات تطور المعرفة العلمية لا يقبل التنميط و فرض نموذج واحد و أوحد من التدين من طرف دعاة الافتاء و الأسلمة الصورية القسرية للمجتمع. لكن هذا لا يعني أن هذا " الاسلام الشعبي " لا تستفيد منه الأصولية الدينية بوجهيها الدولتي و الجماعاتي أي الاسلام الرسمي و الاسلام السياسي على حد تعبير " محمود أمين العالم " ﴿13﴾ من حيث أنه حقل مؤهل لتغلغل و انتشار ادبولوجية تلك الأصولية التي تخفي أهدافها السياسية وراء "براءة " خطاب ديني أخلاقي يستند الى " الفكر الجاهز" و " استبلاد العقول " بفتاوي معظمها نارية و تحريضية تعكس تجدر ذهنية الاقصاء و التكفير و الغاء حق الوجود للآخر المختلف فكريا و عقائديا..من هنا اذا كانت هذه الذهنية مصابة بعجز بنيوي عن التأسيس لحوار عقلاني و ديمقراطي يتكلم بلغة واضحة و مقنعة، حضارية و سلمية ، فإن من المداخل الرئيسية لمحاورة هؤلاء فكريا هو من جهة أولى توسيع مطلب ادماج المعرفة العلمية و الحقوقية كسوسيولوجيا الأديان و تاريخ الأديان المقارن و حقوق الانسان على مستوى المنظومة التربوية و التعليمية و البحث العلمي ببلادنا و تشجيع المراكز و المراصد و المنتديات المنتجة لهذه المعرفة و الملتقطة لدعوات الاصلاح الديني والأعمال الجادة لتأسيس علاقة نقدية بالتراث بإخضاع النص الديني لمنطق التاريخ و القراءة العلمية و تحرير الإسلام من السياسة – على حد تعبير جورج طرابيشي- و طرح و الدفاع عن علمنة الدولة و التعليم و الدين و المجتمع بشكل عام ، و من جهة ثانية الانخراط الواسع لكل أنصار قيم الديمقراطية و حقوق الانسان والحق في الاختلاق من أحزاب سياسية وجمعيات المجتمع المدني و المثقفين الحداثيين و الباحثين و رجلات الدين المجتهدين و المتنورين في جبهة عريضة للدفاع عن التنوير و الفكر العقلاني و الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية المؤمنة نصا و ممارسة بقيم حقوق الانسان في كونيتها و شموليتها و اسماع صوت العقل و الحوار االفكري الحضاري كصوت يعلو و لا يعلى عليه بخطاب الالغاء و شوفينية التطرف الديني. باحث في علم الاجتماع و ناشط سياسي و حقوقي هوامش ﴿1﴾ و ﴿2﴾ " أبو حفص : أعلن تضامني مع نهاري..و الهجوم عليه إلجام للعلماء "موقع هسبريس .الجمعة 06 يوليوز 2012 ﴿3﴾ و﴿4﴾ رموز " السلفية الجهادية" يعلنون نصرتهم للنهاري. موقع لكم. الجمعة 06 يوليوز 2012 ﴿5﴾ " لا خوف من حكم الاسلام " مقالة لجودت السعيد منشورة بالمجلة السورية " الآداب " عدد ربيع 2012 ص : 102 ﴿6﴾ الدكتور أحمد الريسوني. جريدة المساء عدد الاثنين 30 يوليوز 2012 ﴿7﴾ و﴿8﴾ و﴿9﴾ كتاب " العلمانية في العالم العربي حوارات" منشورات الأحداث المغربية، الطبعة الأولى فبراير 2007، صفحات 24، 30 و 31 ﴿10﴾ " الإصلاح الديني و السياسي في فكر جورج طرابيشي " مقال لحسن الجمالي منشور بموقع الأوان. الثلاثاء 31 يوليوز 2012 ﴿11﴾ رواية " القوس و الفراشة " لمحمد الأشعري " الصادرة عن المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2010، ص : 211 ﴿12﴾ و ﴿13﴾ كتاب " الاسلام السياسي " تحت إشراف محمود أمين العالم و اليف مجموعة من البااحثين. الطبعة الثانية الدارالبيضاء 1991