جامع آيت باكريم من مواليد دوار الجوابر بمنطقة ماست (ماسة) سنة 1964، حصل على شهادة الباكالوريا بأكادير سنة 1985، والتحق بعد ذلك بمدينة مراكش ثم إلى الرباط ليستكمل بها تعليمه الجامعي ويحصل على الإجازة في العلوم السياسية. بعد ذلك هاجر جامع إلى منطقة القبائل بالجزائر ومنها إلى فرنسا وبلجيكا وألمانيا ثم هولاندا طالبا اللجوء السياسي الذي قوبل بالرفض وتم ترحيله إلى المغرب. في سنة 1993 رجع جامع إلى الجوابر وفي قلبه وفكره ووجدانه عقيدة جديدة هي المسيحية، وسبب ذلك للرجل متاعب كبيرة جدا في وسطه العائلي والاجتماعي ومع السلطة أيضا، حيث قضى جامع عقوبة السجن لسبعة أشهر وتم ترحيله بعدها إلى مستشفى الأمراض العقلية بسبب دعوته الناس إلى اعتناق المسيحية. وبعد مرور أقل من سنتين، ذهب جامع إلى مدينة كلميم وحمل معه صليبا عملاقا أمام الجميع في الشارع وألقي عليه القبض وحكم عليه مرة أخرى بسنة من السجن. ولم تنته مأساة جامع في هذا الحد، بل كانت عقيدته الجديدة مصدرا دائما للأوجاع والإضطهاد. وفي سنة 2005 حكم عليه مرة أخرى هذه المرة ب15 سنة من السجن تحت ذريعة إحراق ممتلكات الغير لأنه أحرق عمودان كهربائيان مهملان في الشارع العام بسبب إعاقتهما لحركة السير وبعد أن طالب من السلطات لمرات عديدة بأن تزيحهما عن الطريق. والأكيد أن العقيدة المسيحية التي اعتنقها جامع هي التي سببت له كل هذه المشاكل، ففي كل مراحل التحقيق كان المعطى العقدي حاضرا حيث اتهم الرجل ب"زعزعة عقيدة جيرانه المسلمين" و المساس بشخص الملك وهو ما جاء في محضر رجال الدرك، وقال جامع بأن شهادة بعض جيرانه الموجهة ضده ما هي إلا بسبب عقيدته المخالفة لعقيدتهم. هذه هي قصة مواطن أمازيغي مغربي إختار اعتناق العقيدة المسيحية عن اقتناع وإيمان وتعرض للترهيب والإضطهاد بسبب ذلك. وسأطرح في هذا الجزء من سلسلة مقالات عن الموضوع مسألة الحرية الدينية في المغرب والإستبداد الديني الذي يقوض أسس العقل المفكر ويرفض مبدأ المواطنة الحقة. (سيرة جامع آيت باكريم مستقاة من مجلة le journal hebdu 16-06-2005.). أضحى الخيار الديموقراطي بالمغرب المطلب السياسي الأكثر إلحاحا على مستوى النقاش العمومي. وهذا ليس وليد اللحظة السياسية الراهنة، بل نستطيع أن نقول بأنه كان من بين المطالب الأولى والحماسية في الخطابات السياسية في مغرب الدولة العصرية بعد الإستقلال قبل أكثر من خمسة عقود. والجدير بالذكر أن النهج الديموقراطي السليم كان بمثابة الحلم القاسي في الكثير من المحطات السياسية المتعاقبة. فالكل يتذكر سنوات الاستبداد العجاف المعروفة بسنوات الرصاص والجمر والتي ذهب ضحيتها الكثير من المناضلين والفعاليات والقوى والحركات السياسية التي ترنوا إلى تحقيق هذه الديموقراطية المنشودة. ودفع الكثير منهم حياته ثمنا لكي يرى هذا المشروع الديموقراطي النور. الديموقراطية في أسمى معانيها هي السعي إلى تجويد الحياة والعيش عبر تحقيق الحرية والمساواة بين البشر على أساس إنسانيتهم التي تترفع عن جميع المظاهر العرضية المصاحبة للعيش سواء أكانت ثروة أو فكرا أو اعتقادا أو صراعا... وهي مرتبطة أساسا بثلة من الإجراءات والقواعد التي تنبني عليها عملية تدبير التنوع الذي يعتبر من أعمق السمات الفطرية التي تميز النوع الإنساني على الإطلاق. فلا يمكن بأي حال من الأحوال القفز على هذه السمة أو تجاهلها لأنها نواة الإنسانية التي لا تطيق الحجب. والديكتاتورية أو الإستبداد ليسا إلا مظهران من مظاهر الأنانية البدائية التي تجعل من تملك أسباب القوة المادية أو الروحية أو غيرها سببا لاستعباد الآخرين وصهر اختلافهم وتعددهم العميق وجعلهم كتلة بشرية واحدة تعيش للأكل والشرب والخدمة من غير ارتباط بتفرد مكوناتها وتميزها وخلق شعور فردي وجماعي باستحالة العيش على رقعة جغرافية ما من دون التخلي عن مظاهر التنوع والتعدد والإختلاف التي تميزهم والتي يتوجب تدبيرها لا قتلها. ولاشك أن الإيمان بمنظومة عقدية ما مرتبط أشد الإرتباط بمسألة الإقتناع التام بمدى تقديم هذه المنظومة الدينية أجوبة شافية ومانعة وجامعة وشاملة لمختلف الإشكاليات الأنطلوجية التي من المفروض أنها تؤرق المواطن المفكر في بحثه عن الحقيقة. والإيمان بهذا المنظور بعيد كل البعد عن جميع مظاهر التبعية والتشبه الذي يخلوا من أية قصدية فكرية ووجودية غاية في الوضوح. ولكن الإشكال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو: ما هو السبب أو الأسباب الحقيقة التي تجعل المسلمين المغاربة لا يتقبلون أبدا مسألة تغيير المعتقد أو المنظومة العقدية التي يظنون أنها تحتكر امتلاك الحقيقة المطلقة؟ لابد أن عدم فهم الدين على ضوء معطيات العصر هو من أكبر أسباب هذه الظاهرة الغريبة، فالمسلمون في المجتمع المغربي وكذلك في جل البلدان التي تعرف تواجد أغلبية مسلمة، يتميزون بعدم تسامحهم مع المواطنين الذين لم يعودوا مقتنعين بالإسلام كدين لهم، ولم تعد الأجوبة التي تقدمها المنظومة الإسلامية تغريهم بالإستمرار في استلهامها والإقتناع بها. بل إن الكثير من المسلمين لا يجدون أي حرج في الدعوة إلى انتزاع حق هؤلاء المواطنين الذين يختلفون عنهم على مستوى الإعتقاد. وهذا ليس إلا مظهرا من بين مظاهر الإستبداد الديني الذي أسست له مجموعة من القراءات غير الديموقراطية للنصوص الدينية في الإسلام، حيث يصبح القتل وسلب الحياة عقوبة مشروعة، وهذا ما يتنافى كلية مع مبادئ حقوق الإنسان والحريات والمواطنة التي تأسست بفضل النضالات الإنسانية التي تراكمت على مدى قرون كثيرة لبلوغ هدف أسمى وهو احترام إنسانية الإنسان واعتبارها أعمق قيمة يمكن أن ترتبط بالحياة، وهي إضافة إلى ذلك أكبر مقياس للعظمة والشموخ. فالنصوص الدينية الإسلامية التي تدعوا إلى اضطهاد الذي غير دينه أو اختار أن لا يؤمن بأي منظومة عقدية، يجب أن تتم إعادة قراءتها على ضوء التطورات الإيجابية التي تميز الإنسان في المجتمعات الأكثر صونا لكرامته وتميزه الحضاري. وفي هذا الإطار نعيد طرح مسالة جامع آيت باكريم الذي اعتنق الديانة المسيحية بكل اقتناع وإيمان متراجعا عن اعتناق الديانة الإسلامية التي لا تعتبر بالنسبة إليه أكثر من ديانة موروثة عن الآباء، ولم تعد تقدم له الأجوبة التي يحتاج إليها باعتباره فردا مفكرا وليس مستهلكا سلبيا. ونؤكد بأن ما قام به هذا الرجل أمر طبيعي جدا، لأن الإيمان الحقيقي بأي دين مهما كان، لا يمكن أن ينبني على مجرد كونه دين الآباء والأجداد، ولكنه يكون مؤسسا على التفكير المنطقي والمقارنة والإطلاع الذي يحقق أكبر قدر من الحزم والتؤدة العلمية والفكرية المطلوبة لبلوغ الإيمان سواء بمنظومة دينية ما وأيضا بعدم الإيمان بأي دين وتعويض ذلك بالبحث عن القنوات الفكرية الأخرى التي تفتح آفاقا أخرى أكثر رحابة وانفتاحا حسب اقتناع كل فرد على حدة، في جو إيجابي يضمن للجميع حقوقهم الكاملة في التفكير والتناظر والمقارعة والحجاج بعيدا عن كل نزعة للتعصب والعنف والاعتداء على حقوق الآخرين. ولكن جامع قدر له أن يؤمن بأفكاره في مجتمع لا يقدر أبدا حقوق الأفراد وحريتهم التامة في اختيار معتقداتهم وأديانهم، وتعرض بسبب ذلك إلى مضايقات كثيرة وأذى بالغ من طرف عائلته ومن طرف المجتمع والسلطات أيضا، وهو ما يصعب على أي كان أن يتحمله، ويبين ذلك مدى تشبث جامع بدينه الجديد الذي اقتنع به أيما اقتناع وإيمان. علما أن له كامل الحق فيما ذهب إليه وفي ما يعتقده، سواء كان موافقا للديانة التي وجد عليها عشيرته أم لا، لأن المسألة تتعلق بحق من حقوق الإنسان الأساسية وهي حق المعتقد وحريته. وتعيدنا تجربة جامع آيت باكريم الروحية إلى القوانين المتناقضة وغير الديموقراطية التي تنظم الشأن الديني بالمغرب. ففي الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي نجد بأن الشارع يقول عن "الجرائم المتعلقة بالعبادات" ما يلي: "من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم. ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات" (انتهى الفصل). ويلاحظ بأن الجزء الأول من هذا الفصل والذي يتناول بالأساس تجريم استعمال العنف والتهديد من أجل جعل فرد أو أفراد يباشرون عبادة ما أو حضورها، هو مبدأ إيجابي لأنه ينبذ ويجرم إكراه الآخرين على الإقبال على العبادات. ولكن الغريب في الأمر أن هذا الشارع يتناقض مع ذاته في الفقرة الموالية والتي ذهب فيها إلى تجريم ما أسماه "زعزعة عقيدة مسلم" باستعمال وسائل الإغراء أو تحويله إلى ديانة أخرى باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة. فلو قام الشارع المغربي بتجريم إكراه المسلمين على تحويل ديانتهم إلى أخرى لاعتبرنا ذلك عين الصواب، لأنه ينسجم على الأقل مع الحكم الأول الذي يقضي بتجريم الإكراه على ممارسة العبادات، ولكنه لا يشير إلى ذلك مطلقا. ونستطيع أن نرى بوضوح مدى الإرتباك المنطقي لهذا الشارع والذي جعله يسقط في شرك الإستعلاء الديني الذي يميز عادة العقل الإسلامي الذي يظن بأنه يحتكر امتلاك الحقيقة المطلقة. ويظهر ذلك بالأساس على مستوى المصطلحات الغريبة التي وظفها الشارع في تجريم التعبير عن الحيوية الفكرية التي تكون مصاحبة للتفاعل النفسي والذاتي مع البحث عن الحقيقة، فاستعمل مصطلح "زعزعة العقيدة" ليجرم هذا المبدأ (أي التفكير التفاعلي الحر)، فهل يمكن اعتبار تفاعل الفرد مع الأفكار الدينية، أو غيرها، والتي يخالف منطقها منطق العقيدة التي كان يؤمن بها جريمة؟ إذا كان الأمر كذلك فيجب على السلطات المغربية أن تقوم باعتقال ومحاكمة جميع الذين يسمون أنفسهم "دعاة إلى الإسلام" بالمغرب لأن وظيفتهم الأساسية هي "زعزعة" العقائد الدينية لغير المسلمين ومحاولة استمالتهم للتخلي عن معتقداتهم واعتناق الديانة الإسلامية. وما يثير الاستغراب أيضا أن تحجر العقل الإسلامي في هذا الباب يتجلى أيضا في اعتبار دعوة الآخرين إلى اعتناق الإسلام عملا محمودا ومقبولا، ولكنه بالمقابل يجرم نفس العمل (التبشير مثلا) عندما يقوم به الآخرون خلال دعوتهم للمسلمين إلى اعتناق الديانات الأخرى. وهذا هو نفس المنطق الإستعلائي الذي ينضح به موقف الشارع المغربي عندما اعتبر بأن دعوة المسلمين إلى اعتناق ديانات أخرى (الزعزعة) عمل يستوجب العقوبة. ومن الأمور الغريبة كذلك أنه وظف مصطلحات عجيبة للتعبير عن تحول المسلم المغربي عن الإسلام واعتناق ديانة أخرى، فوصف عملية المقارعة والتناظر والإقناع الفكري "إغراء" لأنه يعتقد بأن الإسلام يحتكر الحقيقة المطلقة وأن العقل الذي لم يعد يقتنع بمنظومته الفكرية والعقدية قد تعرض للغواية والإغراء واستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة ، ويجب زجره وممارسة الوصاية عليه لأنه ليس راشدا من الناحية الفكرية ولا يعلم مصلحته المطلقة التي لا يمكن أن تكون محفوظة إلا في إطار المنظومة العقدية الإسلامية. وأعتقد بأن الوقت قد حان لرد الإعتبار للعقل الإنساني واحترام توجهاته ومنطلقاته الفكرية وتوفير كافة الضمانات الضرورية ليمارس وظيفته الأساسية المتمثلة في التفكير بكل حرية. علاوة على تسييد الصوت الديموقراطي القويم الذي ينبذ ممارسة الحجر على الآخرين ومنعهم من التفكير والخلق والإبداع والتعبير بكل حرية عن تنوعهم واختلافهم.