في فاتح يناير الجاري، احتفل المسيحيون المغاربة، في سرية تامة، برأس السنة الميلادية، أسوة بإخوانهم في باقي أنحاء العالم، مع فارق بسيط يتمثل في أن المغاربة اتخذوا احتياطات أمنية مشددة تجنبا لأعين رجال الحموشي، الذين يراقبون عن كثب نشاط هؤلاء المغاربة الذين خرجوا عن ديانة آبائهم وأجدادهم وفضّلوا السير على خطى يسوع المسيح. «المساء» حضرت احتفال المسيحيين المغاربة بهذه المناسبة وأجرت تحقيقا موسعا حول المسيحيين المغاربة، تنقلكم من خلاله إلى كواليس عالمهم، الذي ظل مبهما بالنسبة إلى المغاربة. بعد محاولات عديدة فاشلة، نجحت «المساء» في ربط الاتصال بأحد المسيحيين المغاربة، مسؤول عن منتدى المسيحيين المغاربة على شبكة الأنترنت، الذي طلبنا منه نسخة من الإنجيل وقرصا مدمجا يضم بعض «الترانيم». كانت أولى المعلومات التي حرص مخاطبنا على معرفتها قبل الخوض في أي شيء هي معرفة الاسم وما إذا كنا من «المؤمنين» (يقصد معتنقي الديانة المسيحية) أم باحثين عن الحقيقة. أخبرناه أننا نبحث بعد عن الحقيقة ونريد أن نحصل على الكتاب المقدس وبعض الشروح الخاصة به، التي تُمكّن من فهم أفضل لتعاليمه، فرحب مخاطبنا، بهذا الأمر وأخبرنا أن شخصا من طرفه سيتصل بنا على هاتفنا المحمول وسيحدد لنا موعدا في مدينة الدارالبيضاء من أجل إيصال ما طلبنا خلال الأيام القليلة المقبلة وودعَنا بطريقة بشوشة تظهر أنه شخص تمرّنَ كثيرا على التواصل والتعامل مع جميع أنواع البشر. اللقاء الأول انتهت المكالمة الهاتفية الأولى التي جمعتنا بالمسؤول عن الموقع الذي يضع رقم هاتفه رهن إشارة جميع مرتادي الموقع من أجل الاتصال به لمعرفة تفاصيل أكبر عن الديانة المسيحية. مر على ذلك أكثر من أسبوع قبل أن نتلقى اتصالا هاتفيا أخبرنا أن طلبنا جاهز، ويجب أن نحدد موعدا يوم الأحد للقاء في الدارالبيضاء من أجل التعارف والحديث، وهو ما تم.. كان الموعد مقررا يوم الأحد، 25 دجنبر الماضي. يوم بارد. ضرب لنا محدثنا موعدا أمام المقر المركزي للبريد وسط المدينة على الساعة الثالثة مساء، قبل أن يعود للاتصال من أجل تقديم الموعد، لكن الأمر لم يكن ممكنا، فاتفقنا على اللقاء في الموعد والمكان المحددين سلفا، لأن المكان المذكور مفتوح ويمكن من ملاحظة أي نوع من «المراقبة» خلال اللقاء، على اعتبار أنني كنت أستشف في كلام محدثي نبرة خفيفة من الشك، لأنها كانت المرةَ الأولى التي أطلب فيها لقائه، وهو يعمل في سرية تامة، خوفا من الأجهزة الأمنية. وصلتُ قبل الموعد المحدد بحوالي عشر دقائق وانتظرت في المكان المحدد. مرت أمامي أشخاص كثيرون، كنت أعتقد في كل مرة أن أحدهم هو مخاطبي، قبل أن يتجاوزني فيتأكد أنه ليس هو. وفي حوالي الساعة الثالثة، تلقيت اتصالا هاتفيا من الشخص الذي كنت أنتظره. رددتُ على الهاتف، فتقدم مني وحيّاني بحرارة، وكأننا أصدقاء منذ زمن بعيد.. كان التواصل بيننا سهلا للغاية، لاعتبارين اثنين، أولهما أنه شخص بسيط ومنفتح، وثانيهما أنه متمرس على التواصل مع جميع «العيّنات»، وهو ما سهّل علينا التواصل منذ البداية. الاحتياط واجب كان اقتراحي أن نجلس في إحدى مقاهي وسط المدينة، التي يتوفر فيها حد أدنى من الهدوء، لنتمكن من الحديث والتعارف أكثر. وافق على الفكرة واخترنا إحدى المقاهي الهادئة، الواقعة قرب شارع إدريس الحريزي. تحدثنا، أول الأمر، في كل شيء: كرة القدم، أزمة النقل التي تعرفها مدينة الدارالبيضاء، والدراسة في المغرب وغيرها من المواضيع العامة، التي غالبا ما يثرثر بها الناس لتحدي الملل وقتل الوقت.. وفي لحظة، معينة مختارة بعناية، سألني مجالسي حول درجة إيماني، فأخبرته الجواب ذاته الذي أخبرت به محدثي الأول، الذي كنت قد اتصلت به عبر الهاتف، تحسبا لأن يكون هو الشخص ذاته الذي التقيته وتظهر إجاباتي متناقضة وتثير داخله شكّاً أنا في غنى عنه، في لحظة البداية، يمكن أن يدمر كل شيء.. تحدثنا عن الدين والإسلام والمسيحية وعن أشياء أخرى، غير أن كلامه انصب، في معظمه، على المحنة التي يمكن أن يواجهها كل مؤمن جديد (المعتنق حديثا للديانة المسيحية) خاصة داخل محيطة العائلي والاجتماعي وداخل العمل، ولذلك يجب التفكير مليا في قرار التحول قبل اتخاذه، ساردا تجارب بعض «المؤمنين» الذين اضطروا إلى ترك عائلاتهم وأصدقائهم الذين لم يتحملوا فكرة تحولهم عن الإسلام. كان التواصل خلال ذلك اللقاء سلسا، وكنا ننتقل من موضوع إلى آخر دون صعوبة، إلى أن وصلنا إلى العمل، فأخبرته أنني أعمل صحافيا في إحدى اليوميات، وهو الأمر الذي لم يُولِه محدثي كثيرَ اهتمام سوى بعض عبارات المجاملة المعتادة. تجاهل محدثي الكلام عن الطلب الذي قدمته للشخص الذي اتصلت به على الهاتف بالحصول على نسخة من الكتاب المقدس ونسخة من قرص مدمج يحمل مجموعة من الترانيم، وتجاهلت بدوري الأمر، لأن محدثي إنْ كان يريد مدي بما طلبت لكان فعل ذلك مباشرة بعد أن جلسنا، وتفهمت الأمر، لأنه لم يرد أن يحمل دليلا يمكن أن يُستعمَل ضده في حالة ما إذا كان الأمر يتعلق بكمين نُصِب له.. بعد أزيد من ساعة ونصف من الدردشة الودية، ودّعني محدثي الذي كان مرتبطا بموعد آخر، واتفقنا على التواصل عبر الهاتف، في انتظار موعد جديد. دعوة غير متوقعة تلقيت، يوم 28 دجنبر الماضي على الساعة الثالثة وثمان دقائق مساء، رسالة نصية قصيرة على هاتفي المحمول من الشخص الذي التقيته قبل ثلاثة أيام في الدارالبيضاء. تدعوني الرسالة القصيرة إلى حضور حفل أعياد الميلاد يوم الأحد، فاتح يناير، مع ضرورة تأكيد الحضور قبل يوم الخميس مساء. اتصلت به هاتفيا وأكدت له رغبتي في حضور الحفل وموافقتي المبدئية التي سأعمل على تأكيدها يوم السبت، لتجنب أي مفاجآت يمكن أن تحدث في نهاية الأسبوع. اتفقنا على هذا الأمر. اتصلت بصديقي يوم السبت لتأكيد الحضور ومعرفة المكان، فتحفظ على ذكر المكان واكتفى بالقول إن علي أن آخذ القطار المتوجه إلى الرباط وأن أنزل في محطة الصخيرات وأتصل به هاتفيا ليقلني إلى مكان تنظيم الحفل. وافقت على الأمر دون تردد وأخبرته أنني سأكون هناك في الموعد المحدد. الطريق إلى يسوع.. على غير العادة، ذهبت إلى النوم باكرا ذلك المساء الذي صادف رأس السنة الميلادية، لم أستطع مقاومة النوم رغم البرامج المتنوعة التي كانت تعرضها مختلف القنوات العربية والعالمية في تلك الليلة، لأنه كان ينتظرني يوم طويل وشاق بدأ من محطة القطار الدارالبيضاء -الميناء، التي التحقت بها في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق، معتقدا أنني سأستقل قطار الساعة الثامنة إلا أني اكتشفت أن مواعيد القطار تتغير يوم الأحد وأن القطار الذي سيتوقف في محطة الصخيرات سينطلق على الساعة الثامنة والنصف. كان شبه فارغ لأن جل المغاربة كانوا يغطّون في نوم عميق بعد سهرة طويلة أمام التلفزيون إلى ساعات متأخرة من الليل. بعد أن وصل القطار إلى محطة المحمدية، اتصلت بصديقي لأخبره أنني في الطريق وسأصل بعد حوالي 20 دقيقة. أخبرني بضحكته المعهودة، التي تصلك حتى عبر الهاتف، أنه سيكون في انتظاري في محطة القطار. وصلت محطة القطار، شبه المهجورة، وبعد نظرة فاحصة إلى المتواجدين داخل بهوها، تبين لي أن صديقي ليس هناك، ففضلت الخروج من أجل التمتع بحمام شمس يقيني رطوبة جدران المحطة. جلست أمام المحطة أنتظر لأكثر من نصف ساعة، قبل أن أتصل، من جديد، ب«صديقي» عبر الهاتف لأعلمه أنني وصلت المحطة وأنتظره. اعتذر بلطف وطلب مهلة خمس دقائق للوصول إلى المحطة من أجل نقلي إلى مكان الاحتفال. بعد فترة، ظهر صديقي على متن سيارة من نوع «طويوطا» وطلب مني الصعود، بعد أن اعتذر عن التأخير. كان المكان الذي يقام فيه الحفل يبعد عن محطة القطار بحوالي أربعة كيلومترات. فيلا هادئة داخل مجمع سكني شبه خاص، وُضعتْ في بهوها طاولة أكل مستطيلة بثمانية كراسٍ جلس حولها مجموعة من الشباب يتناولون طعام الإفطار، الذي تكون من حليب وخبز وجبن. طلب مني الانضمام إليهم، لكنني اعتذرت، لأنني كنتُ قد تناولت إفطاري قبل أن أستقل القطار، فرافقته إلى صالون مغربي جلس فيه أكثر من خمس عشرة شخصا من الشباب والكهول. سلمت عليهم واحدا واحدا وقدمني لهم «صديقي» على أساس أنني أخوهم من الدارالبيضاء، أحضر معهم لأول مرة، قبل أن يغادر المكان لنقل «مؤمنين» آخرين كانوا قد وصلوا إلى محطة القطار. شرائح اجتماعية مختلفة كان الحضور ذلك الصباح من الجنسين ومن مختلف الشرائح الاجتماعية. طبقة ميسورة ومتوسطة وفقراء القاسم المشترك بينهم، حسب ما يقولون، حبهم للسيد المسيح وتضحيتهم في سبيله. أمضى بعضهم الليلة السابقة في الطريق من أجل الوصول إلى الصخيرات في الموعد المحدد لحضور القداس. جاء بعض «المؤمنين» من مدينة العيون وآخرون حلوا من مدينة تازة وآخرون من بني ملال ومراكش والرباطوالقنيطرة وفاس ومكناس وطنجة وتطوان والدارالبيضاء.. كانت جميع جهات المغرب تقريبا «ممثلة» ذلك الصباح. وما أثار اندهاشي أكثر هو وجود عائلات بكاملها اعتنقت الديانة المسيحية وتدافع عنها بكل ما أوتيت من حب ومنطق وحجة.. بدأت طقوس التعارف بين الحاضرين، الذين كان أغلبهم من الشباب، الذين اعتنقوا الديانة المسيحية بعد أزمات روحية وبحث حثيث على شبكة الأنترنت مكنهم من التعارف مع مسيحيين مغاربة آخرين، أصبحوا يتبادلون معهم الحديث ويشاركونهم الصلوات، سواء في لقاءات مباشرة أو عبر منتديات الدردشة الصوتية، المنتشرة عبر الشبكة العنكبوتية. صلاة بتوقيت المسيح.. في حدود الساعة الحادية عشرة، حان موعد «الصلاة» التي كانت مختلفة تماما، وتقوم على ضم اليدين إلى بعضهما والتضرع إلى الله يسوع، المُخلّص، من خلال شكره على جميع نعمه وطلب الصحة والعافية والبركة خلال العام الجديد والمغفرة والصفح عن الخطايا التي ارتكبت في العام الذي مضى.. كان الجميع مركزين في الصلاة التي تولى القيامَ بها أحد المسيحيين القدامى، الذين لديهم معرفة مهمة بالكتاب المقدس. ويتم تداول الصلاة في ما بين الأعضاء القدامى. كان الجميع منضبطين خلال الصلاة إلا أنا وأحد الشباب من مدينة مكناس، متخصص في الدراسات الدينية المقارنة. كان يراقب الوضع بكثير من الاهتمام، لأنه جاء للتعرف على المسيحية بعد تجربة سابقة مع الديانة اليهودية، التي لم يجد نفسه فيها، فقرر البحث عن ديانة أخرى تحقق له التوازن الروحي والنفسي الذي يبحث عنه، فأخبرته مازحا أنه ربما يمر على جميع الديانات، ثم تعود إلى الإسلام في النهاية. بعد الصلاة، جاء موعد أداء «الترانيم»، التي هي عبارة عن كلمات موزونة تشبه الأبيات الشعرية، يقوم المسيحيون بغنائها جماعة، حرص منظمو الحفل على مد كل شخص بملف أزرق يضم مجموعة من الترانيم تحمل على التوالي عناوين «رنَّ صوت في الأعالي»، و«هذا هو اليوم السعيد»، و«في الدجى والسكون»، و«جند السماء في العلا» و«أطلَّ على الرعاة» و«من الشرق جاء الحكماء»، و«أوصِنا» و«في ظلام ليل بارد»، و«أتينا إليكَ نلتمس».. وكانت ترنيمة «أوصنا» هي أكثر الترنيمات التي تفاعل معها الحضور وأعادوها أكثر من مرة. المسيحيون مواطنون مغاربة وهم لا ينسون، كإخوانهم المسلمين، الصلاة لفائدة المغرب لكي يعمّه السلام والازدهار والرخاء، والصلاة «للرب» لكي يحفظ الملك محمدا السادس من كل شر.. جعلني هذا الحرص أسأل صديقي عن الغرض من الصلاة. أكد لي أنهم مواطنون مغاربة ويعيشون في هذا الوطن، وهم حريصون على الصلاة من أجله ومن أجل من يحكمه ليعمه السلام والأمن.
لا تدخل في السياسة يحرص المسيحيون المغاربة الذين التقتهم «المساء» على عدم الخوض في السياسة، لأنهم يعتبرون أنفسهم أشخاصا يدعون إلى السلم والحب والله ولا علاقة لهم بالسياسة، التي يتابعونها كغيرهم من المغاربة ويصلّون من أجل أن يحفظ الله البلاد من كل شر. غير أنهم متذمرون كثيرا من المضايقات العديدة التي يتعرضون لها من طرف الأجهزة الأمنية، التي تراقب تحركاتهم عن كثب وتستدعيهم، بين الفينة والأخرى، من أجل الاستماع إليهم حول الأفكار التي يحملون والأسباب التي دعتهم إلى التحول من الإسلام إلى الديانة المسيحية، رغم أن عائلات كثير منهم مسلمة وما زالت كذلك وتبذل جهودا كبيرة من أجل إقناعهم بالعودة عن الأفكار التي أصبحوا يؤمنون بها. ويؤكدون أنْ لا رغبة لديهم في دخول العمل السياسي وأن كل ما يهُمُّهم في الوقت الحالي هو ضمان حرية العبادة ورفع حالة السرية التي يعيشونها اليوم. غذاء جماعي بينما كان الحاضرون يصلون ويرددون الترانيم داخل الصالون المغربي للبيت الذي حرص المنظمون على رسم صليب كبير على حائطه بورق زينة ذهبيّ، كانت النسوة يحضّرن داخل المطبخ وجبة الغذاء التي قدمنها للمدعوين في الحديقة في حدود الساعة الثانية ظهرا. كانت الوجبة مكونة من سَلَطة خضراء وقطعة من «البيتزا» وقطعة من «البسطيلة»، إضافة إلى المشروبات الغازية. شكّلت لحظة تناول الطعام فرصة للمدعوين لتبادل الحديث والنقاش حول الأمور الدينية ومناقشة بعض الأحداث التي عرفها العالم في ذلك الأسبوع. قبل الشروع في تناول الطعام، حرص المنظمون على تأدية صلاة شكر لله على نعمته التي أنعم بها عليهم في ذلك اليوم.. لم تستغرق الصلاة أكثر من دقيقتين. كان موعد الغذاء مناسبة للتعرف على بعض «المؤمنين»، الذين جاؤوا من مدن بعيدة من أجل حضور الحفل الديني بمناسبة رأس السنة الميلادية. كانت حالة بعضهم تظهر أنهم قدّموا تضحيات مادية كبيرة من أجل الوصول إلى مكان الحفل، لأن جلهم كانوا طلبة ومن الشباب. إضافة إلى تضحيات معنوية تدل عليها حكاية شاب من مدينة القنيطرة حاول بتهور تبشير مدير المؤسسة التعليمية التي كان يدرس فيها عبر إهدائه كتابا مقدسا، غير أن المدير كان صارما وطلب حضور الشرطة، التي استمعت إلى الشاب قبل إخلاء سبيله. قيدوم «المؤمنين» بعد تناول وجبة الغذاء، انتقل الجميع إلى الصالون الذي كان يحتضن الحفل. اشتمل البرنامج المسائي، الذي سطر بعناية من طرف المنظمين، على الاستماع إلى بعض العِظات وتفاسير الكتاب المقدس، الذي كان يحمله أغلب الحاضرين، إلا محدثكم وبعض الشباب الجدد، الذين التحقوا حديثا ب«الإيمان».. تولّى تفسيرَ الكتاب المقدس قيدومُ المسيحيين المغاربة، الذي ظهر من الطريقة التي تم بها تقديمه أنه كان له الفضل على كثير من منظمي الحفل في الدخول إلى المسيحية وفي تقديم الدعم المعنوي والنفسي لهم، بعد المِحَن التي تعرّضوا لها بعد شيوع خبر تحولهم إلى المسيحية.. كان رجلا خمسينيا متوسط القامة بنظارات طبية، يظهر من سحنته، الهادئة، أنه رجل «أكل» الصبر كثيرا من طاقته. فتح كتابه المقدس وتوجَّه إلى الحاضرين قائلا إن «المسيحية تقوم على فكرة بسيطة للغاية، تتمثل في أن الإنسان مخطئ وأن الله نزل إلى الأرض لكي يفتديَّه».. كان واثقا من كلامه، وهو ما جعل صمتا مطبقا يسود المكان حينما شرع في سرد قصة ولادة المسيح، الذي أكد أنه ولد داخل إسطبل في «مدود» (المكان الذي يوضع فيه الأكل للحيوانات داخل الإسطبل»، مشددا على أن على الناس أن يتحلوا بأقصى درجات التواضع وحب الناس، تبعا لسيرة السيد المسيح، الذي كان يغسل أرجل تلاميذه ويُنشّفها، في أكبر طقوس التواضع. كانت خبرة الرجل في التواصل واضحة صقلتها سنوات من التجربة، تجعل الطريقة سهلة بينه وبين مخاطبيه وتمكنه من قطع ذلك الخيط الرفيع لدى المترددين بين التردد والاقتناع التام بضرورة الإيمان ب«المسيح المخلّص»، كما كان يقول، خاصة بالنسبة إلى الشباب المتحمسين. حرص قيدوم المسيحيين المغاربة على أن تكون آخر كلماته عن نهاية العضة أن على جميع «المؤمنين» الذي حضروا ذلك اليوم أن يبلغوا تعاليم الكتاب المقدس إلى غير «المؤمنين».. الفن لنشر «الإيمان» بعد نهاية العضة، اختفى قيدوم المسيحيين من القاعة وبدأ الجميع في أداء الترانيم، مرة أخرى، من أجل أن تحل «البركة» على الجميع، في انتظار تجهيز الفقرة الموالية، التي كانت عبارة عن مسرحية قصيرة أبطالها ثلاثة مشردين و»مؤمن».. كان الهدف من تلك المسرحية أن المسيح يمكن أن يغيّر مصير أي شخص نحو الأحسن. كان «المؤمن» خلال المسرحية يصر على أن هناك شخصا في هذا العالم يحب الجميع، ولو كانوا مشردين ومدمني مخدرات، ونزل من أجلهم ليخلّصهم، هو المسيح، وهي الرسالة التي التقطها المشردون ومن خلالهم الشباب، الذين حضروا ذلك اليوم. كان منظمو الحفل حريصين ذلك المساء على محاربة أي ملل يمكن أن يتسرب إلى الحضور، ولذلك ابتدعوا ألعابا مسلية تقوم على تمرين الذاكرة من خلال اختيار شخص من الحاضرين وجعله يتذكر أسماء جميع الحاضرين، ومن يستطيع أن يتذكر أكبر عدد من الأسماء، يكون من الفائزين. غير أن المنظمين سيتمكنون من تذكر جميع الأسماء التي حضرت الحفل، لأنها دُوِّنت مع أرقام الهاتف والبريد الالكتروني في دفتر أسودَ وزع على الحاضرين لهذه الغاية. وكان الهاجس الأمني حاضرا بقوة، إذ طُلِب من الجميع توقيف تشغيل هواتفهم المحمولة وعدم التصوير، الذي تولاه المنظمون، واعدين الجميع بإرسال صور للحفل عبر «الإيميل».
الإيمان والمال كان باديا من المكان الذي أقيم فيه الحفل ومن طبيعة التجهيزات الصوتية التي استُعمِلت فيه أن مالا كثيرا صُرِف في ذلك اليوم. أول ما تساءلت عنه بعد وصولي إلى المكان هو مصدر تلك الأموال التي يتم صرفها على نشر المسيحية وعلى تنظيم مثل تلك الحفلات. استبق صديقي تساؤلاتي وأخبرني أن كل مؤمن يجب عليه أن يخصص 10 في المائة من مدخوله الشهري لخدمة الدعوة، ولم تكد أسئلتي تنتهي حتى قاطع أحد المنظمين الجميع، حاملا إناء مغطى بمنديل أبيضَ مطرز قدّمه لجالس إلى جوار الباب، مخصص لجمع التبرعات، مُصرّا على أن على كل شخص أن يضع فيه المبلغ الذي يستطيع، دون تكليف. وبسرعة، بدأت الأوراق النقدية تغادر جيوب الحاضرين نحو الإناء.. غير أنه، ومهما تبلغ قيمة تلك الأموال التي جُمِعت في ذلك المساء فلن تُمكّن من تغطية ولو جزء بسيط من مصاريف الحفل، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مصدر التمويل الذي يُمكّن المسيحيين المغاربة من تنظيم أنشطتهم الداخلية.
المسيحيون المغاربة بعيون أمريكا تختلف الأرقام حول أعداد المسيحيين المغاربة، فبينما تتحدث بعض الأرقام غير الرسمية عن 10 آلاف مغربي منتشرين عبر تراب المملكة، أكد التقرير الأخير للخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية أن عددهم يصل، إضافة إلى المسيحيين الأجانب المقيمين في المغرب، إلى 25 ألفا. ويستقر معظم أفراد الطائفة المسيحية في مدن الدارالبيضاءوالرباط وطنجة وتطوان. وأوضح التقرير الأمريكي أن عدد المغاربة الذين تحولوا إلى المسيحية وصل إلى حوالي 4000 شخص، يعيش أغلبه في جنوب المملكة، ويؤدي بعضهم الصلاة في الكنائس بانتظام، وتتحدر غالبيتهم من أصول أمازيغية. وأضاف التقرير أن عدد المسيحيين المغاربة الذين لا يخرجون إلى العلن ولا يشاركون في طقوس الصلاة في الكنائس، خوفا من ملاحقات السلطة، يصل إلى حوالي 8 آلاف شخص، موزعين عبر التراب المغربي. وانتقد تقرير الخارجية الأمريكية ما اعتبره استمرارا في «التحرش بالمسيحيين المغاربة وعدم تساهل المجتمع وبعض وسائل الإعلام معهم، إلى درجة نشر صورهم في وسائل الإعلام وشن حملات تحريضية ضدهم بسبب اعتناقهم ديانات أخرى غير الإسلام».
القانون الجنائي المغربي يمنع زعزعة عقيدة المسلمين يمنع القانون المغربي التحول من الديانة الإسلامية إلى المسيحية، والتي سماها «زعزعة عقيد مسلم». وقد عالج المُشرّع المغربي هذا الموضوع من خلال الفصل ال220 من القانون الجنائي، الذي يجرم كل عمل يزعزع عقيدة المسلم. وينص الفصل المذكور على أنه «من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها أو لمنعهم من ذلك يُعاقَب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم». كما «يعاقب بنفس العقوبة من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة، أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات». وأكد المشرع، في الجزء الثاني من هذا الفصل، أن زعزعة عقيدة المسلم تعتبر جريمة إذا مورست في حق المسلم فقط، وهذا يُظهر أن باقي معتنقي الديانات السماوية الأخرى، كاليهود والمسيحيين، غير معنيين بهذا الفصل. وحدد المشرع، بدقة، الأحوال التي يطبق فيها فصل زعزعة عقيدة المسلم، على سبيل الحصر، إما عبر استغلال ضعفه أو استغلال مؤسسات الصحة أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الملاجئ أو المياتم، وهو ما يظهر أن نية المشرع كانت موجهة، بالخصوص، لحماية الأطفال من أي تأثير يمكن أن يحدث لهم من طرف البالغين.
المسيحيون المغاربة يراسلون كلينتون في سياق الدفاع عن الحريات الدينية، وجّه مجموعة من المغاربة رسالة إلى وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تطالبها بالتخلي عن الحسابات الدبلوماسية الضيّقة تجاه الحكومة المغربية وبالضغط على هذه الأخيرة، بجميع الوسائل المشروعة، كي تحترم وتقر الحريات الدينية والمدنية لكافة المواطنين المغاربة والأجانب المقيمين في المغرب، خدمة لما وصفته الرسالة ب»النمو والتنوع الإنساني في المملكة المغربية وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا». وأكدت الرسالة أن موجهيها مواطنون ومواطنات مغاربة من شتى العقائد الدينية والقناعات الفكرية والفئات الاجتماعية، مسلمون وغير مسلمين، أكاديميون وحقوقيون وعمال ومعطلون وطلبة، قلقون من التدهور المطرد في وضعية الحرية الدينية، والحريات المدنية. وعبّرت الرسالة عن «قلق» موقعيها مما وصفوه ب»النقص الجسيم في الجهد الدبلوماسي الأمريكي المستمر في الضغط على حكومتنا من أجل احترام التزاماتها في مجال الحقوق والحريات المتعارف عليها كونيا». وشددت الرسالة على أنه «في سنتي 2009 و2010 نفذت السلطات أيضا هجومات على اجتماعات صلاة ودراسة مسيحية واعتقلت المسيحيين المغاربة المشاركين فيها. كما قامت الحكومة بطرد عشرات الأجانب المسيحيين المقيمين بشكل قانوني، في حملات متواترة، بتهمة ما أسمته «التبشير». وتعرّضَ بعض المغاربة المسيحيين للضرب وآخرون للضغط السيكولوجي الحاد خلال استنطاقات مطولة. علاوة على هذا، تُبقي الحكومة المنع جاريا، إلى حد الآن، على تأسيس معابد للمغاربة غير المسلمين (أو غير اليهود بالولادة) وتحذر باستمرار كنائس الجاليات الأجنبية من استقبالهم. كما تبقي الحكومة على تطبيق قانون الأسرة الإسلامي على هؤلاء المغاربة بدون تمييز، بل منهم من لا يزال قيد سنوات من الحبس بسبب تعبيره علنا عن قناعاته الدينية». وعبّرت الرسالة عن «قلق» من عدم تركيز الولاياتالمتحدة على الحريات الدينية كأولوية لها في المنطقة وقالت: «نحن نعتقد، بقلق، أن عدم تركيز الولاياتالمتحدة على الحريات الدينية كأولوية دبلوماسية لها في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ليس فألا حسنا لمستقبل التنوع البشري في هذه المنطقة ولا لعافية المنطقة، ثقافيا واجتماعيا، ولا لاستقرارها على المدى البعيد ولا للمصالح الأمنية للولايات المتحدة والأسرة البشرية جمعاء. نعتقد أنه من اللازم أن تبرهن الولاياتالمتحدة على أنها صديق إستراتيجي للشعب المغربي قاطبة، على تنوعه العقائدي والفكري، وليس فحسب حليفا تكتيكيا لقادتنا السياسيين».