لدى تقدمي بطلب الحصول على تأشيرة سفر إلى الجمهورية العربية السورية في شهر مايو الماضي (2010)، ملأتُ الاستمارة التي سُلمت إلي بالقنصلية ووقعتُ في الخانة التي تفيد بأن إجاباتي وبياناتي مطابقة للحقيقة. عن السؤال عمّا إذا سبق لي أن زرت أراضي فلسطينالمحتلة (من طرف إسرائيل) أجبتُ بالإيجاب، لكن الموظف اللطيف المكلف بإجراءات دخولي شطب عليها وقال إن إجابتي ينبغي أن تكون بالنفي. أوضحتُ له أنني قد زرت قطاع غزة والضفة الغربية ثلاث مرات: الأولى مع الطاقم التلفزيوني لبرنامج «القبلة» من أجل تصوير الانتفاضة الأولى، ثم بعدئذٍ لحساب جريدة «إلباييس» (الإسبانية) التي كتبتُ لها الفصول الستة من «لا حرب ولا سلام»، والأخيرة مع «البرلمان الدولي للكُتاب» الذي ذهب عام 2002 لزيارة الشاعر محمود درويش في رام الله. إلا أن الموظف ظل متمسكا بموقفه: كان عليه محو «نعَم» ووضع «لا» مكانها، دون أن يحسب أن ذلك سيكون اقترافا من جهتي لتزوير في الوثائق. كنت أدرك من تجربة مؤسفة سابقة أن الختم الإسرائيلي يَمنع الدخول إلى سوريا وإلى «جمهورية أشجار الأرز» (لبنان). لهذا السبب، عادة ما يطلب المسافرون الذين يتنقلون عبر الشرق الأوسط من شرطة مطار تل أبيب ألا تضع طابعها على جوازات سفرهم. في عام 2002، فحص رجل الشرطة بكل دقة تأشيرات الدخول المسلمة إلي من طرف مختلف الدول العربية قبل أن يتوقف عند الصفحة المطبوعة من طرف جمهورية إيران الإسلامية (وهذا قمة «المجاملة») ويضع عليها ختمه وقد ارتسمت على محياه ابتسامة مبهمة المغزى. لم يكن هذا الحدث ليستأثر بأهمية تذكَر لو لم أتلق، بعد مدة غير طويلة، دعوة إلى المشاركة في حفل كان سينظَّم في بيروت لتكريم صديقي إدوارد سعيد. ورغم تنبيهي للمسؤولين عن تنظيم هذا الحدث إلى أنه لا يمكنني الحضور لأن جواز سفري بات «منبوذا»، أكد لي هؤلاء مرارا أن حالتي خاصة ولن أواجه مشكلة في الدخول. لكن المثل يقول: وُضعت القوانين لتُخرَق. لدى نزولي من الطائرة، سيكون في انتظاري موظف سوف يتكلف بإجراءات الدخول. وعشية سفري اتصلتُ هاتفيا للتأكد، مرة أخرى، من أن الأمور على ما يرام، فطمأنني مضيفيّ اللبنانيون إلى أن علي أن أقوم برحلتي، من مراكش إلى بيروت مرورا بالدار البيضاء وروما، مرتاح البال. وعليه، استقللت الطائرة بكل ثقة، لكن بعدما حطت بنا في العاصمة اللبنانية على الساعة الثالثة فجرا، اكتشفتُ أنه لا يوجد في انتظاري أي مسؤول. عند نقطة المراقبة الأمنية، سوف يتصفح مفتش الشرطة جواز سفري في تجاهل تام لاحتجاجاتي وتفسيراتي، قبل أن يجبرني على الصعود إلى نفس الطائرة التي جئتُ على متنها. اثنتان وعشرون ساعة من الطيران والانتظار في المطارات هي مصدر رُهاب ركوب الطائرة الذي أصبحتُ أعاني منه اليوم. وحسب ما رواه لي لاحقا مُضيفويَ، الذين أصيبوا بخيبة ظن جراء ما حصل، فإن الشخص المعني باستقبالي ربما نسي المهمة التي كُلف بها، أو أنه، حسب رواية أخرى، حضر حفل شراب (كوكتيل) فغادره وهو في حالة سكر. الواقع أن رفض مواجهة الحقيقة الذي يعرقل التمييز بين الأصدقاء والأعداء أمر شائع في معظم الدول العربية. وتخلفي هذا عن موعد بيروت مثال جيد على ذلك. ولي عودة في ما سيلي إلى هذا الموضوع، موضوع الإنكار. لم تكن هذه أول مرة أزور فيها سوريا. في خريف عام 1968، ركبتُ القطار الذي كان يسمى «طوروس إكسبريس» ويقطع المسافة بين الضفة الآسيوية لإسطنبول وبغداد، فترجلتُ في حلب. كانت سوريا لا زالت تتعافى من الصدمة التي خلفتها هزيمة الجيوش العربية في «حرب الأيام الستة» والاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان، كما أنها قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الغربية. وبعد زيارة قصيرة لدمشق وإقامة لمدة أيام معدودة في تدمر(التي صححتُ بها مخطوط روايتي «ضونْ خوليانْ» الذي أخذته معي في الرحلة)، ربطتُ الاتصال بالمقاومة الفلسطينية من خلال أصدقائي في باريس، ثم واصلتُ الرحلة إلى الأردن، حيث أجريتُ مقابلة مع قائد من «حركة فتح» في أحد المخيمات العسكرية المُقامة وقتئذ على مقربة من نهر الأردن. وقد نُشر نص تلك المقابلة بعد أسابيع من ذلك في أسبوعية «لونوفيل أوبسيرفاتور» الفرنسية. بعد تبدد حلم الوحدة العربية مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر، بات «حزب البعث» القومي السوري، ومن ورائه الجيش، يسيطر على السلطة في دمشق. وقد سهلت الهزيمة المُرة وما تلا ذلك من قمع على يد جيش الملك حسين، عاهل الأردن، عام 1970 ضد المليشيات الفلسطينية المدعومة من طرف سوريا -وهو حدث يرويه جانْ جينيه ببراعة في «الأسير العاشق»- استحواذَ وزير الدفاع آنذاك، حافظ الأسد، على السلطة. أما رحلتي الثانية إلى سوريا فتمت رفقة رسام الكاريكاتور المشهور «سينيه» والصحافي بْيير ديميرونْ في إطار دعوة رسمية من حكومتها. هكذا زرت مع زميليّ البلد برمته تقريبا، من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى ما يسمى ب«المدن الميتة» في سوريا العليا وإلى السد العملاق الذي بناه مهندسون وفنّيون سوفياتيون على نهر الفرات. وأتذكر، بالمناسبة، أنه في المُجمع السكني الذي كان يقيم به هؤلاء، والذي قصدناه لأخذ فنجان قهوة، لاحت لنا صورة عملاقة، ليس للرئيس السوفياتي ليونيد بريجنيف وإنما لمصارع الثيران الإسباني المُكنى «القرطبي». الحقيقة أنني لم أتوقع وجود هواية لمصارعة الثيران في تلك الظروف غير العادية، ولكن الاكتشاف في ذاته أدخل البهجة إلى قلبي. أمسك حافظ الأسد، المنتمي إلى الأقلية العَلوية التي ظلت إلى ذلك الحين مهمَشة من طرف الأغلبية السنية، بزمام السلطة في سوريا وحكم البلاد بقبضة من حديد لمدة ثلاثين عاما. وقد كانت ديكتاتورته، المتشابهة كثيرا والمتناقضة تماما مع ديكتاتورية عدوه صدام حسين، تتعامل مع معارضي الداخل على وجه السرعة. في فبراير 1982، تمرد «الإخوان المسلمون» في مدينة حَما فتم سحقهم بالدبابات والغارات الجوية، على حساب هدم المدينة العتيقة وسقوط خمسة وعشرين ألف ضحية. وإذا كانت الصحافة تعتبر سلطة، فإن غياب وسائل الإعلام الحرة في سوريا يعكس وجود سلطة أكبر. هكذا، لم يتسرب خبر ما حدث إلا بالكاد. وفي خضم العواصف الشديدة التي هزت الشرق الأوسط (الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وعدوان صدام حسين على جمهورية إيران الإسلامية، وحرب الخليج الأولى) قاد حافظ الأسد حكومته بحزم وشدة إلى غاية وفاته، قبل عشر سنوات. كانت عودتي إلى سوريا بعد ذلك الغياب الطويل بمثابة رحلة في الزمان واكتشاف للتباين بين ذاكرة الماضي ورؤية الحاضر. واستنادا إلى ما عاينتُه، تحسنت الوضعية الاقتصادية للسكان بشكل ملحوظ. تم تشبيب وجه شوارع وأزقة المدينة العتيقة، كما أن لا وجود لبقايا حطام أو قمامة، مثلما نرى في عواصم عربية أخرى. والدراجات النارية لا تعرقل سير المشاة كما يحدث في مراكش، حيث لا يجوز استعمالها إلا من طرف رجال الشرطة. وربما كانت هذه النظرة الأولية مضلِلة وتستوجب بعض التدقيق. تبين لي بالفعل من خلال محادثاتي مع بعض المراقبين والصحفيين أن بشار الأسد قد خفف من وطأته وأن شعور المواطن بالقهر كما في العقود السابقة قد خفت حدته. والأنشطة الثقافية والفنية تجتاز مرحلة من الانفتاح والحرية. كما أن مختلف المكونات العرقية والدينية للبلد تتعايش بسلام. لا وجود للتعددية الحزبية إلا لتزيين الواجهة وحرية الصحافة منعدمة، غير أن الانتقاد مسموح به في نطاق حدود مرسومة بعناية. كما أن مقاهي الأنترنيت قليلة وعدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية أقل بكثير مما هو موجود في المغرب أو تركيا. فسحت النخبة المتفرنسة والعلمانية القديمة التي تعود إلى عقود معدودات المجال لأجيال جديدة تفضل التحدث باللغة الإنجليزية وتحمل على عاتقها الأسلمة المتنامية لهوية المجتمعات المسلمة. وقد ذكرت لي صديقتي حنان قصاب حسن، مترجمة وناشرة مسرحيات جانْ جينيه والمديرة العامة الحالية ل«دار الأسد للثقافة والفنون» التي تعرض هذه الأيام على مسرح الأوبرا الرائع فرقة أنطونيو غاديس للرقص، وابنة أبوين شيوعيين ومناصرين متحمسين لعلمنة العادات، بنبرة حزينة، كيف أن بعض الشابات من أسرتها ممن تلقين تعليما علمانيا صرن اليوم يضعن الحجاب على رؤوسهن. لعل الإنجاز الأكثر إيجابية للنظام العلماني الذي يترأسه بشار الأسد هو هذا التعايش السلمي للأغلبية الدينية السنية (60 ٪ من السكان) مع فرع العلوية الشيعي (الموجود حاليا في السلطة) ومع غيرها من الأقليات الإسلامية والمسيحية. في الجامع الأموي البديع، كثيرون هم الزوار الشيعة القادمون من إيران الذين يؤدون الصلاة ويضربون على صدورهم من حول الضريح الذي يُفترض أن به رأس الإمام الحسين، حفيد النبي محمد، الذي مات شهيدا في كربلاء على يد جيش الخليفة الدمشقي معاوية. ويتكرر نفس الحماس حول القبر الذي يرقد فيه القديس يوحنا المعمداني (أو على الأقل، رأس له، حسب أحد الخبراء في الموضوع)، الذي يعتبره المسلمون من الأنبياء. الحي المسيحي في المدينة العتيقة، حيث تسكن مجموعة مزدهرة من التجار، يحتضن في فضائه مختلف فروع المسيحية: المارونية والأرمنية والسريانية الأرثوذكسية والكاثوليكية الشرقية والأرثوذكسية اليونانية، إلخ. في متاهة شوارعه الضيقة، يتجاوز عدد صور وأضرحة العذراء عددها في إشبيلية أو في عاصمة المكسيك. ولا غرو في أن تتخلل نداءات المؤذنين بحلول وقت الصلاة قرعات لطيفة لأجراس كنيسة. أما الكارثة التي سببها غزو العراق عام 2002، وما تلا ذلك من مواجهات طائفية بين السنة والشيعة والأكراد، فقد نتج عنها لجوء أزيد من مليون شخص إلى سوريا، من بينهم العديد من المسيحيين المهددين بالقتل من قبل تنظيم «القاعدة». إن إدراج بوش لسوريا في ذلك الكوكتيل الأخرق والغريب المسمى «محور الشر»، بسبب معارضتها الثابتة لاحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان ودعمها لمليشيا «حزب الله» الشيعي وتحالفها الاستراتيجي مع إيران، ليُعد سخافة أخرى من سخافات أسوأ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية. الاستنقاع الحالي للجيش الأمريكي في العراق، والذي يحاول باراك أوباما الخروج منه برأس مرفوع (إنه وضعٌ لا يحسد عليه)، والدور الجديد لتركيا باعتبارها قوة صاعدة في المنطقة بصفتها وسيطا لا غنى عنه في مختلف الصراعات والخصومات العرْقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، قد قلبا الأوضاع هناك بالكامل وعزلا طروح الحرب ضد الإرهاب التي تقول بها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل وحلفائها في واشنطن. إن علاقات الصداقة الجديدة بين تركيا وسوريا، المتخاصمتين في السابق بسبب دعم هذه الأخيرة ل«حزب العمال الكردستاني» بقيادة الزعيم الجماهيري عبد الله أوجلان، وسحب سوريا لقوات الاحتلال من «بلد الأرز»، والنفق المسدود الذي بلغه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بسبب استمرار استيلاء إسرائيل على القدس الشرقية والضفة الغربية وفرضها لنظام الأبارتهايد (الميز العنصري) المشين على الفلسطينيين، كل ذلك يستوجب تبني مقاربة جديدة سيتوقف عليها حصول السلام والاستقرار من عدمه في منطقة الشرق الأوسط. إن تبجحات أحمدي نجاد النارية وإنكاره للمحرقة ضد اليهود ولوجود الدولة اليهودية، من جهة، وسياسة القمع والنهب التي ينهجها نتنياهو والمتوطّنون اليهود المتطرفون، من جهة أخرى، أمور تتلاقى في عماها حيال قبول الشرعية الدولية بخصوص حدود الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل عام 1948 وتغذي بعضها بعضا. إن إنكار وجود الخصم وحجب العين عن رؤيته لا يؤدي إلى نتيجة. العكس تماما هو المطلوب: ينبغي أن نعرفه معرفة عميقة حتى يتسنى لنا التعامل معه بالحكمة والجدوى. سوريا ليست دولة إرهابية ولا تجسيدا للشر. لقد أدرك أوباما، على ما يبدو، أن سوريا هي، بالعكس، بيدق لا غنى عنه في لعبة الشطرنج المعقدة التي قد تنتهي ذات يوم بسلام عادل. خلال مُقامي في دمشق، تصادفتُ عند باب مصعد مطعم معروف مع جون كيري، المرشح الرئاسي السابق عن «الحزب الديمقراطي»، الذي حلّ بسوريا متكتما من أجل التفاوض مع بشار الأسد. بطبيعة الحال، أنا أجهل فحوى تلك المحادثات، إلا أنني متأكد من أنها ستُسهم، بشكل من الأشكال، في فك خصل الإنكار والخطر النووي اللذين يهددان السلام العالمي. ترجمة إسماعيل العثماني وسارة الريفي