وأنا - طبعا- لا أتحدث عما يجري فيها وعليها من صنوف التلاعب وألوان الاستغلال،بداية من إرسال خطب إنشائية باردة، مغسولة من الحق، منزوعة الإخلاص -إلى الخطباء- كأنهم دمىً على الأخشاب أو ببغاوات ملقنة ومدربة على الترديد والتكرير - وإجبارهم على قراءتها على العامة تحت بنود الإكراه، واستعمال التهديد المبطن. مرورا بوضع الأئمة تحت تصرف "وزارة الأوقاف " بشكل مطلق لا يتنفسون إلا حيث تشاء، ولا يخرجون عن طوعها قيد شبر. زيادة على وضع هذه الأخيرة "كتيبا" مصنوعا على المقاس تسميه "دليل الإمام والخطيب" جعلته دستورها الملزم كأنه وحي من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأي خروج عن نصه وحرفه، وأوامره ونواهيه يعتبر مروقا عن ملة الوزارة، وشرودا عن "هداها" عفوا عن هواها المبين. ومن ثم يستحق من فعل ذلك الطرد من جنتها وعطاياها ونعيمها إلى أرض الحرمان، وبؤس البطالة، وذل الفاقة،ولن تمنح له فرصة التوبة إلى الحظيرة، ولا تسمع له كلمات الشكوى، ولا تقبل منه رقائق التضرع والنجوى، بل سيبوء بذنبه، وسيهبط من على منبره إلى حيث يجوع ويعرى، ويظمأ فيه ويضحى وبذلك يعيد الموقوفون والمطرودون والأحرار من الأئمة، والرافضون للتحكم المعوج، والإذلال الممنهج،الملحمة الآدمية الأولى بشكل معكوس وأشد مرارة وألما إذ بينما هم في جناتهم -عفوا مساجدهم -يتلذذون فيها بأوقات العبادة، ولذات المناجاة، وتراتيل الذكر، وراحة الروح، ويسبحون في نِعَم التعبد، ويسعدون بتعليم الخلق، ويتلقون نفحات الحق -سبحانه إذا بهم على موعد مع الامتحان الكبير، خَيّروا فيه بين أن يقتطفوا ثمرات الغواية، ويشربوا كؤوس البلاهة والتدخيل حتى الثمالة وأن ينحنوا ساجدين" لدليل الإمام والخطيب" ويتعبدوا بما فيه ويلتزموا بآياته كتابا صاعدا من دهاليز الهوى، أوبين أن يهبطوا من جنات محفوفة بالشهوات والشبهات، ونعيم مغموس فى أطباق الهوان،وزلفى يباركها الشيطان. فاختاروا ضمائرهم وربهم في الفتنة الهوجاء، فكان ذلك سببا قويا أن يشهر "الدليل" في وجوههم، وهم يوقفون الواحد تلو الأخر، ويعزلون في مذبحة رهيبة ثم فيها التنكيل بأمة أحرار وفضلاء أخيار، واستمر نزيف المساجد وخلوها من كفاءات وطاقات فعالة ليتمكن بعد ذلك الموظفون والمعلمون والأساتذة ملء موقعهم واحتلال منابرهم، والزحف اللعين علي مجالسهم في مهمات معكوسة وأوضاع مقلوبة لم نر لها مثيلا في التاريخ. فالفقيه الذي تدرج في تعلمه من الكتاب، جالسا علي الحصير، كاتبا بقلم القصب علي لوح الخشب، مقترنا بالمسجد منذ نعومة أظفاره وعرفت أركانه وصحونه وجدرانه صوته طفلا فيافعا فشابا،وترقي من مراحل التهجئ إلي القراءة ثم الحفظ إلي الإتقان، عاكفا علي ذلك حني كاد أن يقف علي مشارف الكهولة ذلك هوالذي من منبته ومغرسه ومحصنه ومحيطه كرها وقسرا ويرمي به بلا رحمة فيها لا يعرف ولا يحسن ويتخلي عند في دنيا واسعة الأطراف شاسعة الاكناف مجهول في دروبها غريب في مساربها، وحيد في مواجهتها ولسان حاله يقول كما قال أبوالطيب يوما: أنا في أمة- تداركها الله غريب كصالح في ثمود. ثم يستقدم إلي_ المسجد خطيبا وإماما_ موظفون تلقوا تعليمهم في المدارس العصرية ووظفوا في أسلاكها، وترقوا في سلالمها، وقبضوا رواتبها، وضمنوا تقاعدها، وبعد أن شبعوا حد التخمة قدمت لهم المساجد وأوقافها في تحليه ما بعد الأكل، وفاكهة جافة لتجزيه الوقت. سجل يا تاريخ ذلك هوما يجري في المغرب العجيب الذي انقلبت فيه المهام والمسؤوليات رأسا علي عقب، ودخلت فيه الأمور مجال اللامعقول،والعبث الأسود. أصبحنا فيه نحن علي مشارف الخبال والجنون. فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرَك هازل