قيل: لا جديد تحت الشمس، لكن المقولة لو أردنا تنزيلها على بلدنا الحبيب نفسها فسنجد أن جديدها قد تأتي الشمس بلهيب حار ساخن كما هو الحال في هذه الأيام مع حلول موسم الاعتقالات، فلقد صارَ سُنّة حميدة درجَ عليها أهلها كشفتها حملة اعتقالات وحالات الخشونة التي ووجِهَ بها المحتجون في الشوارع. ولقد صِرنا حقا نتعجَّب من أساليب القمع والحصار الذي اشتد طوقه وغلظ حبله على المحتجين واتخذ مسارا تصاعديا كما لو أننا أمام رد فعل مُنتَظر منذ انطلاق شرارة الفبرايريين، ولم يكن ذلك غريبا ولا عجيبا عند من راكموا الاحتجاج وتوغلوا في أبعاده وخبروا لغة السياسة الرسمية في طولها وعرضها، ومن يتابع منحنيات السياسة الفوقية في تعاطيها للمشهد الاحتجاجي منذ التحركات المطالبة بالإصلاح وإسقاط الفساد يدرك منطق الدولة السياسي في احتواء الأصوات وأساليبها في التعامل مع الحركات الاحتجاجية، فلقد اضطرت هذه المرة للانحناء للعاصفة والتزام المراقبة عن بعد واستنفار النظر في طبيعة الحِراك وإتاحة الفرصة للساخطين والغاضبين والمهمشين واليساريين والإسلاميين للتظاهر ميدانيا انقيادا لا طوعا، اضطرارا لا اختيارا، مسايرة للجو الاحتجاجي العام في الدول التي عرفت تغييرا جذريا في هرمها، أُكرِهَت على ذلك لأنها السبيل الأمثل لتقديم شهادة حسن السيرة و لأنها لم تكن قادرة مع الصخب العارم في الدول أن تمارس التسلط العنفي أمام شعب كان قد هبَّ لمطالبة الدولة بالإصلاح الحقيقي، وهذا الفعل السياسي يُحسبُ لها حقيقة لأنها استطاعَت بذلك تحييد كل ما من شأنه إذكاء الغضب الشعبي وتأجيج نار الاحتجاج مستفيدة ذلك من تجارب الدول المجاورة التي مارست القمع منذ البداية لإخمادها بالقوة، ولأنها كانت تُدرك بجلاء طبيعة المرحلة وحالة الاحتقان والتشنج في الشارع فضلا عن خصوصية البلد فإنها لم تدخر وسعا في إخلاء الساحة الشعبية من الحضور الأمني تجنبا لعواقب هي في غنى عنها في زمن المحنة. فعلا كان الأسلوب السياسي يقتضي ترك المجال "للحريات" لتُطالب بأشياء مكبوتة في الوجدان حينا من الدهر ثم ما تلبثُ أن تخف مع تسرب عوامل اليأس والملل في الجماهير فتنقلب بعدها إلى عوامل ناجحة بيد سياسة الدولة. فهل كانت الدولة فعلا في حينها تؤمن مبدئيا بحق الاحتجاج السلمي في التظاهر والمطالبة بالإصلاح أم كانت نتيجة لدهاء سياسي ماكر استهدف تنويم الاحتجاج وقطع أوصاله ؟ وإلا كيف نفسر –لوكان مبدئيا – حملات العنف والاعتقال والقمع المنظم التي تطالُ هذه الأيام حركات احتجاج ما تبقى من 20 فبراير وحركات أصحاب الشواهد العليا بشكل هيستيري دموي؟ مفارقة ! فعلا لقد تقدمت الدولة كثيرا في سياساتها ونضجت أساليبها في الاحتواء والتطويق فنجحت أيما نجاح وأحرزت في ذلك انتصارات باهرة حتى غدت مضرب مثل عند المحللين في الخارج، يتصيدها بعض البؤساء عندنا ليقدمها شهادة للآخر على نجاح التجربة المغربية في الإصلاح، وما هي في نظرنا إلا عنوانا عريضا على استقرار الثابت السياسي الاحتوائي في وعي صناع السياسة، ما هي إلا مُفرقَعات مهما طارت في السماء فلن تُجاوزَ حدودها البتة، لكن وللحقيقة فقد أدركت الدولة في نظرنا أن سياسة العصا لا تنفع في لحظات معينة حيثُ تصير أداة نقيضة للاحتواء، لكنها فعالة وحاسمة في أوقات أخرى حين يتفرق الشملُ وتتهارش الكيانات بالنقد والنقد المضاد ويمل الناس من أمل التغيير فلا تسمع آنذاك غير اللغة الطبيعية " الزرواطة "، ثم لماذا هذه اللغة وبيد الدولة حلولا أُخرى دائرية لا تلمس المطالب في المركز بقدر ما تحوم حولها ؟ فالمناورات السياسية عديدة ومتنوعة كوصفات للحالات المستعجلة تُخرَج في وقتها المناسبة وتُجرى في لحظتها المطلوبة، أَتريدون دستورا مُعدلا أم انتخابات حرة أم إصلاحات وصلاحيات ؟ أتريدون إسلاميون وقد مللتم من وجوه الأحزاب الإدارية والتكنوقراطية واليسارية التناوبية وما فعلت بمنظومة القيم السياسية والاجتماعية ؟ حسنا، فليكن. هذه إحدى عجلات التقدم عندنا، استوت الأوضاع وعادت الأمور إلى نصابها وتنفس من تنفس واغتاظ من اغتاظ وبكى من بكى ثم انطلقت حركة مضادة مُساوِية لها في القوة ومعاكسة لها في الاتجاه، انطلقت لتُعلِّم الناسَ الدرس البليغ والأسلوب الحكيم في فن الممكن السياسي المغربي، كنتم تأتوننا حشدا والآن نأتيكم لنقطعكم قِددا، جاء دور المدافع ليهجم هجومَ فريق محنك ينصاع لأوامر مدربين جهابذة فهيهات للخطأ أن يكون له مكان. كانت المباراة في البداية حماسية قوية وسط جماهير داعمة قبلت نُصرة فريقها طوعا فهاجمت بلا كلل تُطالب تحقيق الهدف للحد من الانتكاسات والهزائم المُخدرة، وبين أفراد الفريق تلاحم في الوجهة والغاية على ما بينهم من تفاوت في القدرات والمهارات الفردية فلم يؤثر على أداء اللاعبين بعد الجولة الأولى نتيجة تنازل أفراد لآخرين وسكوتهم على تجاوزاتهم الأنانية. كل شيء كان يوحي بتشويق اللعب بحكم اشتداد المنافسة وإصرار الطرفان على انتزاع انتصار ثمين حاسم يؤهله لقيادة النجومية، كل شيء كل شيء... ثم ما فتأت المباراة تُصاب بالملل فيبادر حشد من الجمهور لمغادرة الملعب وسط استياء عارم من بعض أفراد فريق الهجوم لأنانية الآخرين في احتكار الكرة طويلا، ضَعُفَ الطالب والمطلوب ! بعدها يا سادة أخذ الفريق الآخر المبادرة للتسجيل مستفيدا من ملل الجمهور وأداء بعض أفراد الفريق الأول ليتقدم بسرعة البرق نحو مرمى خصمه ليوقع هدفا اهتزت لها أصداء الخارج فأثنوا عليه من كل جانب يهنئونهُ على أسلوبه الساحر رغم ضراوة خصمه البارع، ومع أنهُ نجح في كسر هجوم غريمه إلا أنهُ لم يقنع بفوزهِ فراحَ يتصيد بعض أفراد الفريق للنيل منهم صنيعَ تحديهم للبطل، راحَ يقتنص بوضع فخاخ تُشل غريمهُ من أن يعيد بناء كيانه لمواجهته في جولة أخرى. فالبطل "الأسطورة " يدركُ أن الفُرقاء كُثر وأن لحظة أخرى من المواجهة قد تندلعُ في أية لحظة وما عليهِ إلا بضربات استباقية تحد من قوة خصمه وهيهات! يا سادة أنتم تعرفون بقية القصة واللبيب يفهم. والله أعلم