بمجرد نجاح انتفاضة الشباب التونسي في الإطاحة بالرئيس بن علي, وانتقال موجة الاحتجاجات إلى معظم الدول العربية, استبشر الناس خيرا وعلقوا على هذه الانتفاضات آمالا عريضة ما لبثت أن اتسعت وتضخمت بإطاحة الشباب المصري برئيسهم حسني مبارك، فانطلقت الأحلام مدوية في القنوات التلفزية، والمواقع الإلكترونية، والجرائد والمجلات بل في النوادي والمقاهي وفي كل مكان. فالإطاحة بأنظمة عتيدة محصنة بأجهزة أمنية من الشراسة و القسوة بمكان، ومدججة بجيوش طالما نعتت بأوصاف الشهامة والشجاعة والبسالة، و مدعومة بنظام دولي خبير بإذلال الشعوب وقهرها، إنجاز عظيم ونصر كبير لا يضاهيه نصر، وكل شيء بعده هين ومتاح. فلا شك أن الشعوب التي أفلحت في اقتحام هذه العقبة الكأداء قادرة على تحقيق بقية الأحلام و الآمال، بدءا بإرساء أنظمة ديمقراطية تعيد للإنسان في البلدان العربية حريته وكرامته، مرورا بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تقضي على الفقر والتخلف، و انتهاء ببناء حضارة قادرة على إعادة التوازن إلى العالم الذي ظل يسير على رجل واحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. إلا أن التتبع الرصين للأحداث والقراءة المتأنية لمجرياتها، والتشخيص الدقيق لمشكلة التخلف في العالم الإسلامي, والتأمل في المنعطفات التي أعقبت هذا الحراك يجعل الصورة أوضح و أكثر عقلانية من الآمال المذكورة. وفي ما يلي عرض لبعض ملامح هذه الصورة: 1 _ بين الثورة والانتفاضة هناك فروق كثيرة بين الثورات والانتفاضات، أبرزها أن لكل ثورة أساسا فكريا و فلسفيا تبنى عليه، وهذا الأساس يغير الأفكار والتصورات والعقائد، ويعطي للأفكار والعقائد الجديدة شحنة وطاقة تلهب المشاعر، وتشحذ الهمم، وتدفع إلى التضحية بكل شيء من أجلها، ففي الثورة الفرنسية شكل فلاسفة الأنوار هذا الأساس، و أسست أفكار كارل ماركس وروايات تولستوي ودستوفسكي للثورة البلشفية، وشكلت كتابات الخميني وشريعتي أرضية الثورة الإيرانية. كما أن الثورة ذات طابع شمولي يتغير معها كل شيء؛ الفكر والقيم الثقافة و الأذواق و الفنون وأحيانا اللباس و الهيئة و الأسماء و العلاقات ...حيث تأتي بملامح حياة جديدة مخالفة للمرحلة السابقة. ومن خصائصها أيضا وجود زعيم متشبع بأفكار الثورة، ومخلص لها وقادر على تعبئة الجماهير وتحريكها. وإذا تأملنا انتفاضات الشعوب العربية المعاصرة وجدنا أن محركها الأساسي هو الجوع والبطالة و الإهانة والقمع والظلم والحرمان من حرية التعبير، وليست الأفكار والقناعات، فأفكار ومبادئ المنتفضين بقيت على حالها، ولا يغير هذا الحكم كون بعضها مختفية فظهرت، أو خافتة فعلا صوتها. وإذا أمعنا النظر في الانتفاضات الحالية التي تعتبر ناجحة إلى الآن، بدا وكأن شيئا لم يتغير، فباستثناء إسقاط بعض الرؤساء بقيت مختلف نواحي الحياة على حالها، بل إن فلول الأنظمة السابقة ما زالت في مواقعها، وهي لاتزال قادرة على المناورة و عرقلة الأهداف التي من أجلها انتفض الناس، فكثيرون من أعمدة الأنظمة المنهارة ما زالوا محتفظين بمراكزهم، ومعظمها مراكز حساسة ومهمة كالجيش والمخابرات وأجهزة الأمن، بل حافظ بعض الوزراء وكبار المسؤولين على مناصبهم، والأثرياء الذين اغتنوا من تلك الأنظمة لايزالون محتفظين بأموالهم بعيدا عن أية مساءلة أو محاكمة. وأبواقها وأقلامها مازالت محتفظة بمنابرها الإعلامية، وهؤلاء كلهم ركبوا شعارات الثورة ونادوا بالتغيير ولكن بنية إجهاض الإصلاح وتغيير مساره، لهذا لا يؤمن من إعادة إنتاج سلطة شبيهة بالسابقة ولكن بحلة جديدة وباسم الثورة وعناوينها. وهذه الفروق تفسر عنصر المفاجأة في هذه الانتفاضات، حيت باغثت الساسة ومراكز الدراسات وعلماء الاجتماع، ولم يتنبأ بها إلا قلة، على رأسهم رائد الدراسات المستقبلية الدكتور المهدي المنجرة حين قال وهو يتحدث عن الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت بعد تدنيس شارون المسجد الأقصى :"لم يعد أطفال فلسطين مكمن الجهاد الأصغر ولا عمق الجهاد إياه، بقدرما أصبحوا عمق جهاد أكبر سينتشر انتشار النار في الهشيم في نظام عربي مهترئ ضعيف المناعة مهتز البنى والمكونات "[1]. وقال أيضا في نفس الكتاب :"الانتفاضات الحالية هي الانتفاضة الصغرى، مثلما نتحدث عن الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، والانتفاضة الكبرى لم تصل بعد، وهو انتقال هذه الانتفاضة المحلية إلى بقية الدول العربية :"ص154 وعبارة الرجل دقيقة تنم عن بعد النظر وعمق الفهم لأوضاع الدول العربية وشروط نهضتها ورقيها، فهو لم يستعمل مفهوم الثورة بل مفهوم الانتفاضة، ولم يعقد على هذه الانتفاضات أكثر من إبعاد أنظمة مهترئة مريضة. 2_الديمقراطية الحقيقية إن إرساء النظام الديمقراطي لا يتم بمجرد إزاحة رئيس ظالم وإجراء انتخابات، فهذه قد تكون صورة خارجية لها، ولكنها لا تعكس اقتناعا حقيقيا بها، ولا فهما جيدا لها، و لا تعطي ضمانا لممارسة سليمة لها، فأغلب المنادين بالديمقراطية في البلدان التي أطاحت برؤسائها يخفون في أنفسهم أنانية ودكتاتورية لا يمكن إشباعها حاليا على الأقل إلا بالأشكال الديمقراطية، فالتيارات لا يعترف بعضها ببعض، التعصب للقناعات بلغ منتهاه، والرغبة في القضاء على الآخر والانتقام منه أوضح صورة من المجاملات التي زركشت الساحات والميادين قبيل انتصار الانتفاضات . صحيح أن الانتخابات من أهم عناصر الديمقراطية، ولكنها ليست كل عناصرها، فصناديق الاقتراع تنظم العلاقة بين المختلفين، ولكنها لا تعكس دائما مشاعر الاعتراف والاحترام والتقبل والتعاون بينهم، بل قد تكون سببا في الكراهية والصراع و التنافر خاصة في ظل العيوب التي تنخر العلاقات الفكرية والسياسية بين مكونات المجتمعات العربية المعاصرة . إن الديمقراطية تعني ليس فقط حكم الشعب نفسه بنفسه ولكن تعني قبل ذلك تحمل هذا الشعب مسؤوليته تجاه وطنه، وشعوره بالواجب نحوه, وتحمل هموم التنمية، فيشارك الجميع في الدفع بعجلتها نحو الأمام, وحين تختلف الرؤى و التصورات حول طرق بلوغ تلك الغاية نلجأ إلى صناديق الاقتراع، فتتيح الديمقراطية مراقبة من تم انتخابه، ومساعدته لتحقيقها. فهل خطت بنا الانتفاضات خطى نحو هذا المعنى للديمقراطية, أم هي الأشكال والمظاهر والألوان ؟ 2_ علامات اللاثورة: ففي تونس بلغ التوتر الفكري مداه بعد الانتخابات، فأدخل البلد في تجاذبات خطيرة بين العلمانيين والإسلاميين قد تهدد بالعودة إلى ما عرفته مراحل سابقة من مصادمات ومواجهات. وهذا من شأنه أن يعرقل الأمن والاستقرار السياسي، فالتوافق بين الإسلاميين الذين يمثلهم رئيس الوزراء حمادي الجبالي، والعلمانيين ممثلين برئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر و الرئيس المنصف المرزوقي مر بزلازل خطيرة كادت تعصف بكل شيء لولا حكمة قيادات هذه المكونات، وإذا أضفنا إلى المشهد السلفيين والليبراليين واليسار المتطرف وغيرهم ممن لا تمثلهم الأقطاب المذكورة أدركنا هشاشة هذا التوافق. كما أن البلد بسبب حداثة عهده بالحرية تحول إلى ثقافة المطالبة بالحقوق دون الالتفات إلى إرساء ثقافة القيام بالواجب التي تتطلبها المرحلة، ولهذا تربك المظاهرات والمطالب بالتشغيل وبالحقوق الاجتماعية عمل الحكومة، وتهدد بالتراجع إلى ما دون عهد بن علي في البطالة والفقر و المشاكل الاجتماعية، ولعل هذه المشكلات هي ما أشعل فتيل الانتفاضات قبل أن تصير المطالب سياسية. ورغم هذه التحديات فالتجربة التونسية هي أنجح التجارب إلى الآن مقارنة بمصر أو ليبيا أو اليمن. أما في مصر فالمؤشرات أوضح، فالجيش كان ذكيا جدا حين ضحى بمبارك من أجل الحفاظ على النظام ،وقد انخدع الجميع بموقفه من الانتفاضة حين فضل الانحياز للشعب، لكن الأيام _ وهي المحك الحقيقي للنوايا والمواقف_ كشفت حقيقة اللعبة، فالجميع يتذكر وعود المجلس العسكري قبل الانتخابات التشريعية بتمكين مجلس الشعب الذي سيختاره المواطنون من كل صلاحياته بما فيها مراقبة الحكومة، بل وحتى الجيش، لكن المجلس وجد نفسه بعد ذلك بلا صلاحيات. وتتوالى الانتكاسات( تشكيل اللجنة العليا للانتخابات التي تعز من تشاء وتذل من تشاء من المترشحين، تهديد الإخوان المسلمين بالعودة إلى مرحلة الإعدامات والسجون والاختطافات و الاغتيالات، إخلاء سبيل الأمريكان المحتجزين بلا محاكمة ودون علم أحد... واللائحة طويلة). أما ليبيا واليمن فالتحديات بها أكبر. وإذا التفتنا إلى أوضاع الشعب السوري، وإلى مهزلة الانتخابات في الجزائر،حق لنا أن نتساءل: هل هذا الحراك الشعبي العربي ربيع ستخضر له الأرض، وتتفتح الورود وتثمر الأشجار، أم أنه سحابة صيف تصاحبها عواصف ورعد وبرق، وسيول جارفة، تجرف المتجبر العنيد، وينجو منها من يطأطئ رأسه لها، فإذا هدأت العاصفة تطاول ما شاء أن يتطاول. إن هذه الورقة لا تستهدف بخس الشعوب الأبية تضحياتها، بل تسعى إلى التنبيه إلى ضرورة التأني في فهم الأحداث، واتخاذ الموقف الصحيح منها. [1] انتفاضات في زمن الذلقراطية ، البوكيلي للطباعة والنشر و التوزيع القنيطرة، الطبعة الأولى ،ص13