ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقاش هادئ لمشروع قانون الحصانة العسكرية
نشر في لكم يوم 13 - 06 - 2012

إن المساهمة في نقاش هام يتعلق بشروط عدم مسؤولية القوات المسلحة الملكية عن الأفعال التي تقوم بها في إطار مهامها ليس بالأمر الهين. ولكنه يبدو واجبا وطنيا لمن يمكن له بشكل أو بآخر أن يدلي بدلوه في النقاش المطروح.
ورغم أن الدقة التي يتطلبها الخوض في هذا الموضوع الحساس لها محافل قد تكون أليق فإن أهم كلياتها وجزئياتها يتعين بالتأكيد أن تعرض على الرأي العام في المنابر اليومية التي تعد الصحف المكتوبة إحدى مكوناتها الاساسية.
وفي بداية هذا العرض نود الاشارة إلى أننا نعبر هنا عن رأي شخصي فقط لا عن رأي أي جهة ننتمي إليها مهنيا. و حتى نكون عمليين فإننا سوف نذيله بخاتمة عملية تعرض اقتراحا شخصيا لتعديل المقتضيات التي ينصب عليها النقاش.
ومن جهة أخرى نود أيضا من موقع مواطن مغربي غيور على بلده ومقدر لجهود أبنائها في خدمته وإعلاء شأنه، أن نغتنم هذه الفرصة لنشيد بالدور الذي تقوم به القوات المسلحة الملكية داخل بلدنا في الحفاظ على وحدتنا الترابية وخارجها على مساهماتها المتميزة في جهاز حفظ السلام الدولي تحت راية الامم المتحدة. وليس هذا الكلام مجرد ذر للرماد في العيون فنحن مقتنعون بكل كلمة واردة فيه ومتمسكون بها.
ومن هذا المنطلق الواضح لا أحد يمكن أن يجادل في أن قواتنا المسلحة الملكية تستحق أن تحظى ببالع العناية والحدب. وهو ما حاول أن يحققه مشروع القانون رقم 12.01 المتعلق بالضمانات الاساسية الممنوحة لعسكريي القوات المسلحة الملكية. وقد جاء موفقا في جل مقتضياته. ذلك أنه يتكون من 16 مادة أغلبها الساحق لا يثير إشكالات مستعصية الحل في الوقت الراهن ومستقبلا. ولعل بعضها يؤسس لمرحلة جديدة في التعامل الايجابي مع الجيش في مجال حرية التعبير والانتماء إلى الجمعيات.
وباختصار شديد نجد أن مشروع القانون المناقش قد أقر عددا من الضمانات بالنسبة لتوظيف العسكريين ورواتبهم وترقيتهم وتكوينهم المستمر ومعاشهم، الخ... كما خول لهم حرية الانخراط في الجمعيات وحرية التعبير مع تأطيرهما ببعض الضوابط. وبالمقابل يمنع عليهم اللجوء إلى الاضراب وإنشاء نقابات أو أحزاب أو الانتماء إليها.
إلا أن المادة السابعة من المشروع أثارت زوبعة من التحفظات. و قد تردد صداها في رحاب البرلمان وبالمجلس الوطني لحقوق الإنسان (خاصة بعد توصله بطلب بهذا الشأن من طرف البرلمان) وبالصحف الوطنية وفي المجتمع المدني؛ وقد تمت إذاعة التحفظات التي همتها بالقدر الذي يغنينا عن التذكير بتفاصيلها في هذا المقام.
وقبل الادلاء بدلونا في هذا النقاش الوطني يستحسن تضمين صيغة المادة المعنية بحرفها في مستهل هذا العرض المركز. تقول المادة السابعة من المشروع:
"لا يسأل جنائيا العسكريون بالقوات المسلحة الملكية الذين يقومون تنفيذا للأوامر التي تلقوها من رؤسائهم التسلسليين في إطار عملية عسكرية تجري داخل التراب الوطني بمهمتهم بطريقة عادية.
في هذا الاطار وطبقا للأحكام التشريعية الجاري بها العمل يتمتع العسكريون بحماية الدولة مما قد يتعرضون إليه من تهديدات أو متابعات أو تهجمات أو ضرب أو سب أو قذف أو إهانة بمناسبة مزاولة مهامهم أو أثناء القيام بها أو بعدها.
ويستفيد أزواج وأولاد وآباء وأمهات العسكريين من نفس حماية الدولة عندما يتعرضون بحكم ممارسة هؤلاء إلى التهديدات أو التهجمات أو الضرب أ أو السب أو القذف أو الإهانة.
لا يسأل كذلك جنائيا العسكريون الذين يقومون بطريقة عادية ومع احترام قواعد القانون الدولي الانساني في إطار عملية عسكرية تجري خارج التراب الوطني بالمأمورية التي انتدبوا من أجلها".
وباختصار شديد هناك إشكال في النص من حيث توقيته ومن حيث مضمونه مع وجود تداخل بين المسألتين:
1. الاشكال الذي يطرحه نص المادة 7 من حيث توقيت عرضه على البرلمان و ملاءمته الظرفية:
هذا النص في نظرنا لا يتلاءم مع الظرف الزمني الذي قدم فيه للجهاز التشريعي.
لماذا وكيف ذلك؟
ذلك لأننا في المغرب نعيش حاليا مرحلة حاسمة من شأنها إذا تعاملنا معها تعاملا حكيما ويقضا أن تؤسس لنقلة نوعية نحو نظام ديمقراطي أعمق.
ولأن هناك تأكيد في هذه المرحلة على مستوى الدستور وعلى مستوى المؤسسات المحدثة بموجبه على ربط المسؤولية بالمحاسبة وعلى الالتزام بالحكامة الجيدة.
ولأن المغرب قد التزم في محافل دولية مهمة بمكافحة الافلات من العقاب وقد وجهت إليه توصيات مركزة في نفس الاطار من طرف دول لها وزن محترم في الساحة الدولية.
فضلا عن أن هيئة الإنصاف والمصالحة تطرقت لهذا الموضوع وأبدت فيه رأيا حاسما. والكل طبعا ينتظر أن تحترم توصيات الهيئة لكي يستمر مفعول المصالحة الوطنية ويتجدر. ولكي يتم تلافي المزالق السابقة التي أحدثت الهيئة لجبرها بمبادرة ملكية سامية استجابت لمطالب مجتمعية مشروعة.
وهكذا نحن في مرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي أعمق. وهي فترة تتسم بانفتاح أكثر على قيم المساواة وعدم التمييز (والاتجاه الذي تبناه الدستور الحالي يتلخص في تدعيم مبدإ مساواة كافة المواطنين أمام القانون ويتجلى ذلك مثلا في تقليص حدود الحرمة التي كان دستور 1996 يقررها للبرلمانيين (يقارن الفصل 64 من الدستور الحالي مع الفصل 37 من دستور 1996 ) والتأكيد على المسؤولية الجنائية للوزراء عن الجنايات والجنح التي يرتكبونها أثناء تأديتهم لمهامهم الفصل 94 مع حذف المحكمة العليا والنص على أن قانون المسطرة الجنائية هو الذي يحدد المسطرة المتعلقة بمسؤوليتهم. وإذا لم يأت قانون المسطرة الجنائية بجديد فإن المسطرة العادية التي تسري على كافة المواطنين هي التي ستضل سارية على الوزراء. وليس في ذلك عيب فالوزراء هم مواطنون قبل كل شيء وليس هناك ما يدعو بالضرورة إلى تبوئهم مركزا قانونيا متميزا. وذلك هو حالهم في عدد كبير من الدول الديمقراطية في العالم.
وفي نفس السياق نحن في مرحلة تم فيها التركيز على ربط المسؤولية بالمحاسبة. وهو مبدأ أكد عليه الدستور في مواطن متعددة. بحيث نجده بارزا ومتصدرا للدستور في فصله الاول ومترددا في فصول لاحقة وخاصة الفصل (ف 154 و 155 من الدستور). وفي نفس السياق تم التركيز على مبدأ الحكامة الجيدة وخصص لها باب كامل من الدستور (الباب الثاني عشر من الفصل 151 إلى الفصل 171 ) كما أحدثت لها مؤسسات خاصة لتدبيرها والنهوض بها. وقد تم التأكيد على مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة في الخطاب السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس بتاريخ 17 يونيه 2011. ولا تخفى على أحد، وخاصة على المهتمين بالقانون، القيمة المعيارية و التوجيهية لخطب صاحب الجلالة ملك البلاد.
وعلاوة على ذلك ينبغي استحضار ما جاء في تعهدات المغرب أمام مجلس حقوق الانسان بجنيف بتاريخ 22 ماي 2012 حيث يقول تقرير المغرب بأن تبني سياسة عدم الافلات من العقاب يعتبر بالنسبة للمغرب خيارا استراتيجيا سيمكن المغرب مستقبلا من الانضمام إلى آليات العدالة الجنائية الدولية (فقرة 13). وإشارته الصريحة لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة (فقرة 15). وقد جاء أيضا في خطاب السيد وزير العدل رئيس الوفد المغربي أمام المجلس نفس الاشارة إلى أن تبني سياسة عدم الافلات من العقاب يعتبر بالنسبة للمغرب خيارا استراتيجيا يمهد السبيل للانضمام إلى نظام العدالة الجنائية الدولية.
وقد نجم عن عرض تقرير المغرب حول وضعية حقوق الانسان على أنظار مجلس حقوق الإنسان مؤخرا بجنيف توصيات موجهة للمغرب من طرف أقرانه في إطار مناقشة التقرير. حيث دعت سويسرا المملكة المغربية إلى مضاعفة الجهود قصد مكافحة الافلات من العقاب وضمان اللجوء إلى العدالة (فقرة 129.68). كما دعت الولايات المتحدة إلى متابعة جميع القوات العمومية التي تتهم بارتكاب العنف أو التعذيب ضد الاشخاص (فقرة 129.48 ) وسارت إسبانيا في نفس الاتجاه (فقرة 129.77).
أما بخصوص توصيات هيئة الانصاف والمصالحة فإن قسما هاما منها يتعلق بتحصين الحماية القانونية والقضائية لحقوق الانسان وضرورة تجريم الخروق الخطيرة التي تطالها (الفقرات 1.3 و 2.3). وقد خصص جزء منها لضرورة بلورة استراتيجية وطنية لمكافحة الافلات من العقاب (الفقرة 4) وهو نفس الالتزام الذي كررته البعثة المغربية مؤخرا أمام مجلس حقوق الانسان بجنيف. ولم يفت هيئة الانصاف والمصالحة أن تقف طويلا عند ضرورة ترشيد الحكامة الامنية للبلاد (الفقرة 8. 1 من إلى 7). وقد القت التوصية مسؤولية الحكامة الأمنية الجيدة على كاهل الحكومة بصفة تضامنية. كما نادت بضرورة تعزيز الرقابة البرلمانية عليها وكافة أوجه الرقابة المحلية والجهوية. وأفتت بأن تحدد معايير دقيقة للحد من اللجوء إلى استعمال القوة و أن تتم المعاقبة التأديبية والجنائية لمن يتعسف في استعمالها (الفقرة 6.8).
ذلكم بالاختصار الذي يفرضه المقام ما نراه بخصوص مناسبة وظرفية تقديم مشروع القانون. فماذا عن الاشكالات القانونية التي يطرحها مضمونه أو جوهره؟
2. الاشكال الذي يطرحه نص المادة 7 من مشروع القانون من حيث محتواه وجوهره:
المادة 7 من مشروع القانون كما هي محررة الآن تتناقض في رأينا مع المنطق السليم.
كما أنها تصطدم بعديد من مقتضيات الترسانة القانونية الداخلية وعلى رأسها دستور المملكة والقانون الجنائي وقواعد الانضباط العسكري والقانون المنظم لوضعية الدرك.
كما أنها لا تتلاءم مع عدد من النصوص الدولية لحقوق الانسان والقانون الدولي الانساني ومع جملة من المبادئ والقواعد التي كرستها العدالة الجنائية الدولية .
أ. من حيث التعارض مع المنطق:
نعلم بأن وضعية القوات المسلحة هي فعلا وضعية خاصة. والسبب الرئيسي في ذلك أنها هي الجهاز الرئيسي الذي يبلور فكرة احتكار الدولة لاستعمال القوة القانونية والمشروعة. ونركز هنا على وصف القوة المحتكرة بالقانونية والمشروعة. كما نركز على أن هذا الاحتكار يوظف مبدئيا لمصلحة المجتمع.
وإذا كان حسن النية في القانون مفترضا. فإننا يجب أن لا ننسي بأن للقانون دورا وقائيا هاما في الميادين الحساسة التي تكون فيها الوقاية خير من العلاج. وفي ميدان استعمال القوة العمومية بالذات لا يعقل أن يوقع القانون لأية مؤسسة كانت ما يشبه شيكا على بياض عند استعمالها للقوة. لأن تلك القوة لا سمح الله قد تستعمل في غير محلها. حيث يتعين آنذاك (من باب الزجر حالا والردع مستقبلا) مساءلة المشتط في استعمال سلطته لا أن نوجد له مخرجا يفلت منه من الجزاء. وفي كافة الاحوال فإن جسامة المسؤولية الملقاة علي أي جهاز يجب بالتأكيد أن تحصن بالقانون و بالتربية و الاخلاق الرفيعة.
الفقرة الثانية من المادة 7 تريد تحصين العسكريين من المتابعة بشكل يبدو مطلقا. صحيح إن الدستور ينص مثلا على حصانة البرلمانيين وصحيح أن القانون الجنائي المغربي يعترف ببعض الحصانات التي لها مصدر دولي كحصانة الدبلوماسيين.
ولكن الحصانات تعتبر مؤسسة خطيرة العواقب ولابد بالتالي من أن تخضع لمنطق صارم ورصين. فالحصانة المطلقة التي يتمتع بها البرلماني لابداء رأيه بكامل الحرية (ما عدا في الامور المحصورة التي حددها الفصل 37 من الدستور) هي ضمانة مقررة لفائدة المواطن الذي يمثله النائب البرلماني وهي بالتالي إحدى دعامات الديمقراطية. وحصانة الدبلوماسي قررتها الاعراف ثم المعاهدات الدولية احتراما لهيبة الدولة وحفاظا على أسرارها التي يطلع عليها الدبلوماسي مع وجود قاعدة المعاملة بالمثل بين الدول. وهي إن منعت الدولة المضيفة من محاكمة الدبلوماسي عن الجرائم التي يرتكبها في البلد المبعوث له فإنها لا تمنع بلده الاصلي من مساءلته قانونيا بشكل أو بآخر. ونظرا لانتفاء منطق سليم يعزز فكرة الحصانة لدى العسكريين على وجه الاطلاق فإننا لا نعثر على قوانين دول ديمقراطية تمنحها. كما أن القانون المغربي دستورا وقانونا جنائيا وقانونا عسكريا لم تقررها لحد الآن، وحسنا فعلوا.
وفضلا عن أن المادة 7 من مشروع القانون المناقش لا تجد لها سندا من المنطق فإنها قد تصطدم بعديد من المعايير الثابتة بالترسانة القانونية الداخلية وعلى رأسها دستور المملكة والقانون الجنائي وقواعد الانضباط العسكري والقانون المنظم لوضعية الدرك.
ب. إمكانية تعارض المادة 7 مع مقتضيات الدستور:
الدستور (إذا صح هذا التعبير الذي لا نعتبره مجازيا فقط) هو "العقد الاجتماعي الاسمى" بين المواطنين المغاربة وبين الدولة المغربية. و الحال أن المادة 7 من المشروع تبدو متطاولة على بعض مقومات ذلك الرباط السامي. ونحن نتحدث هنا عن إمكانية التعارض لأننا لسنا، بأي وجه من الوجوه، سلطة لمراقبة دستورية نص من النصوص القانونية ولو كان ما يزال مجرد مشروع. فذلك موكول للقاضي الدستوري حسب المساطر التي يقررها القانون والتي سوف تقررها قوانين تنظيمية لاحقة.
مع هذا التحفظ المبدئي نرى أن المادة 7 تضرب في الصميم مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون كما نص عليه الفصل 6 من الدستور. تنص الفقرة الاولى من هذا الفصل على أن "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الامة. والجميع أشخاصا ذاتيين أواعتباريين بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له". ويلاحظ هنا مدى التركيز على ضرورة خضوع السلطة العمومية لمقتضيات القانون. ولابد من التأكيد على أن الحكمة من مبدأ المساواة هي بالأساس حماية الضعيف من القوي وإخضاع الجميع، مهما كانت مراتبهم أو مكانتهم في حظيرة المجتمع، لسلطة القانون الذي يتعين أن يكون منطقيا وعادلا. وإذا كان مبدأ المساواة لا يمنع من أن تحدث قواعد خاصة تضع له بعض الحدود (كمنح حصانة مطلقة للبرلماني للتعبير عن رأيه ما عدا في المجال المحدد بنص الدستور أو سن قوانين تتبنى سياسة التمييز الايجابي مؤقتا لتقويم تراكمات وضع اجتماعي أو ثقافي غير سليم إلى أن يتم التقويم فعلا حيث يتعين الرجوع الى القاعدة الاصلية لتي هي المساواة) فإن الاستثناء ينبغي دوما أن يضل في حدود ضيقة مدعمة بالمنطق الفلسفي والقانوني السليم.
وعلاوة على تعارض المادة مع مبدإ مساواة كافة المواطنين أمام القانون فإن المادة المناقشة لا تتلاءم أيضا مع صريح المواد 1 و 155 و 156 من الدستور التي تربط المسؤولية بالمحاسبة.
وبصرف النظر عن هذه المقتضيات الخاصة، نعتقد جازمين بأن الدستور جاء بمثابة وثيقة إعلان لحقوق الانسان المغربي (ف 19 إلى 41 المفصل للحقوق والحريات الاساسية والفصول 117 إلى 127 حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وروح النص في مواطن متعددة). ثم إنه أفاد صراحة بأن الحقوق و الحريات الاساسية المنصوص عليها في الدستور تبقى مضمونة حتى في حالة الاستثناء (ف 59). والكل يعلم مدى خطورة وحساسية حالة الاستثناء التي تفرضها عادة ظروف جد عصيبة تتمثل في حدوث أزمة خطيرة تهدد سلامة وأمن البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي. ومع ذلك يفرض الدستور عدم إمكانية تعليق حقوق وحريات المواطنين حتى في تلك الوضعية العصيبة. وعلاوة على ما سبق فإن المادة 7 تصطدم ببعض المقتضيات الهامة الموجودة بقانون الضبط العسكري.
ج. تعارض المادة 7 مع جملة من المقتضيات الهامة الموجودة بقانون الضبط العسكري:
في نطاق القوانين المنظمة لوضعية العسكريين نلاحظ أن هناك حرصا بالغا من طرف المشرع على تحسيس أفراد الجيش بجسامة المهمة الملقاة على عاتقهم وبضرورة تحليهم بأخلاق عالية في مستوى تبعات المسؤولية التي يتحملونها. فمهنة الجيش هي مهنة الثقة والشرف والتضحية والهمة العالية بكل تأكيد. وقوانينها الخاصة عملت بوضوح تام من هذا المنظور على تأكيد مسؤولية الجيش عن الاعمال التي يقوم بها. وقد أفرد جزء خاص من نظام الانضباط العام في حظيرة القوات المسلحة الملكية (ظهير شريف رقم 383.74.1 مؤرخ في 15 رجب 1394 موافق 5 غشت 1974) لواجبات ومسؤوليات العسكريين. ورغم خصوصية مهمة الجيش فقد قد جاء الفصل 16 من هذا القانون ليذكر العسكريين بأن واجباتهم "هي نفس الواجبات الملقاة على عاتق بقية المواطنين" . كما نص نفس الفصل على أنه "يتحمل العسكريون في كل زمان ومكان مسؤولية فردية بسبب أعمالهم و لا سيما بسبب كل إخلال بكل واجباتهم ويتحمل الشخص الذي أصدر مسؤولية هذا الامر كما يتحمل الشخص المعهود إليه بالتنفيذ مسؤولية التنفيذ ومسؤولية عدم التنفيذ وكل امتناع من إصدار الاوامر اللازمة يحمل العسكري مسؤولية هذا الامتناع". ومن يقرأ هذه المقتضيات بإمعان يتبين له أن من شرعه حريص جدا على تحميل المسؤولية لمن تقع عليه. المسؤولية فردية وتقوم في كل زمان ومكان وهي مسؤولية عن الفعل وعن الامتناع المخالف للقانون. نكاد لا نعثر على صياغة قانونية أحرص من هذه الصياغة المحكمة على مبدأ تحميل المسؤولية لمن تقع عليه. أين نحن إذن من منطق الاعفاء من المساءلة الذي ورد في نص المادة 7؟
وكأن كل هذا التدقيق (بشان المساءلة بصفة شخصية في كل زمان ومكان عن السلوك الايجابي والسلبي) يبدو للمشرع غير كاف فيشفعه توا بمقتضيات أكثر تفصيلا تشير للمسؤولية الجنائية التي قد تترتب عن السلوك، حتى لا تغيب عن ذهن المعنيين بالأمر. وهكذا تأتي الفصول 19 و 20 و 21 لتحدد تباعا وبدقة مسؤولية الرئيس والمرؤوس. فالرئيس مسؤول بصفة شخصية عن الاوامر التي تصدر عنه "ولاسيما الاوامر التي تترتب عنها المسؤولية الجنائية بالنسبة لمنفذيها". كما أن المرؤوس مسؤول "عن كل إخلال بواجباته وهو {أيضا} مسؤول بصفة شخصية عن تنفيذ الاوامر المنافية للقوانين وعن الاعمال التي يقوم بها خلال تنفيذ المهام المسندة إليه". وهكذا يكون المشرع المغربي قد أخذ بنظرية الحراب الذكية وهو تكريم للعسكري المتحمل لمسؤولية سلوكه وحث واضح له على أن يحرص على جعل ذلك السلوك مطابقا للقانون.
وقد انفرد القانون المنظم لوضعية الدرك (وهم جزء لا يتجزأ من القوات المسلحة الملكية) بصيغة متميزة عندما منع الشطط في استعمال السلطة على الدركيين وعرفه بأنه "كل عمل من أعمال الدرك يحدث اضطرابا في نفوس المواطنين". ويلاحظ بأن هذا تعريف جد فضفاض لمدلول الشطط يكاد يكون منافيا لمبدإ الشرعية. لأن كلمة الاضطراب تحتمل معان واسعة ومتعددة. لكن هذا المنحى على علاته يفيد من دون شك نزوع المشرع إلى محاولة وضع حدود صارمة لواجب المحافظة على حريات المواطنين وأمنهم.
ولعل من شأن كل هذه المقتضيات أن تثير هلعا وخوفا لدى افراد الجيش من إمكانية تطبيقها عليهم في يوم ما فيهبون في الظروف الخاصة التي تعرفها الساحة العربية إلى محاولة تحصين أنفسهم عن حسن نية من القانون بالقانون. وقد يبدو ما سأقوله الآن غريبا ولكنه في تقديري صحيح بالتأكيد: أقول بأنه لا ضرورة لسن قانون خاص لحماية العسكريين من المسؤولية الجنائية. ذلك أن المساءلة الجنائية هي إمكانية لا قدر محتوم والأصل أنها لا تقوم إلا بعد محاكمة عادلة. والمحاكمة العادلة من أهم مبادئها قرينة البراءة إلى أن يثبت العكس بحكم قضائي نهائي. ثم إن هناك، على الخصوص، أسباب الاباحة التي يعرفها القانون الجنائي في الفصل 124. وهي تطبق على المدنيين والعسكريين على السواء. ونجد على رأسها إذن القانون وأمر السلطة الشرعية. فعمل العسكري إذا كان مطابقا للقانون لا يمكن أن يشكل جريمة لأن القانون سمح بالقيام به أصلا. وإذا تم التساؤل حول ما هو موقف المرؤوس الذي ينفذ أمرا مخالفا للقانون وجه إليه من طرف رئيسه فإن قانون الضبط العسكري واضح في أن على المرؤوس الامتناع عن تنفيذ الاوامر الغير المشروعة. و في هذا المعرض تستوقفنا جملة رائعة كتبها أستاذنا روجي ميرل في مطوله عن القانون الجنائي الفرنسي "إن الامر اللامشروع الموجه من طرف السلطة الشرعية لا يمكن بذاته أن يبيح الجريمة المرتكبة من طرف المرؤوس الطيع، وذلك لأنه ليس في مقدور أي سلطة عمومية، مهما علت مرتبتها، أن تجعل بإرادتها الوحيدة مطابقا للقانون ما هو مخالف له" (روجي ميرل و أندري فيتي " المطول في القانون الجنائي منشورات كوجاص باريز الطبعة الثالثة سنة 1967 ص 512 كما ترجمناها). والكل يعلم أن الاستاذ روجي ميرل هو سنهوري القانون الجنائي في فرنسا (رحمة الله عليهما معا). يبقى التساؤل طبعا إلى أي حد يمكن للمرؤوس إدراك عدم مشروعية الأمر؟ وهي مسألة واقع تختلف باختلاف الوضعيات وبحسب رتبة الجندي ومدى تمرسه بمهنته وعوامل أخرى يقدرها القضاء بحسب كل نازلة ويقدر مدى تأثيرها على مسؤولية المنفذ سلبا وإيجابا.
وأخيرا نقف عند عدم انسجام المادة 7 من المشروع مع المعاهدات الدولية الملزمة للمغرب.
د. عدم انسجام المادة 7 من المشروع مع المعاهدات لدولية الملزمة للمغرب:
المملكة المغربية طرف في المواثيق الدولية التالية: العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، اتفاقيات جنيف الاربعة والبروتوكول الاضافي الاول المتعلق بها، والاتفاقية المتعلقة بمناهضة التعذيب والاتفاقية المتعلقة بزجر ومكافحة جريمة الابادة. وكل هذه المواثيق تلقي على كاهل المغرب التزامات قبل بها طوعا ويصعب ملاءمتها مع المادة 7 من مشروع القانون محل النقاش. وقد ارتأينا في هذا المبحث أن نعرج على جوانب من العدالة الجنائية الدولية وإن كان ذلك على سبيل الاستشراف، لكون المغرب لم يصادق بعد على معاهدة روما المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية، بيد أنه لا يمكن أن يتأخر كثيرا قبل المصادقة عليها.
أولا. عدم الانسجام مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية:
حسب المادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يمكن للدول الاطراف في الاتفاقية في أوقات الطوارئ العامة أن تتحلل مؤقتا من التزامها. ويتمثل ذلك في التعليق المؤقت لبعض الحقوق المضمونة بموجب الميثاق. لكن نفس المادة تنص على أن هناك بعض الحقوق التي لا تقبل الاستثناء أو التعليق (وهي على الخصوص الحق في الحياة و الحق في المعاملة الانسانية ومنع التعذيب والحق في الحرية عدم الاسترقاق والحق في حرية الرأي والمعتقد. و قد أضاف اجتهاد لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة، للحقوق المعددة في المادة 4، الحق في محاكمة عادلة).
وقد ذهب الدستور المغربي إلى أبعد من ذلك حين قرر عدم إمكانية تعليق كافة الحقوق الاساسية في ضل حالة الاستثناء (ف 59). وجدير بالذكر أن الدستور المغربي يقرر عدم إمكانية تعليق الحقوق الاساسية كلها لا بعضها فقط وهذا هو وجه التميز والامتياز بالنسبة للعهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية.
والمغرب أيضا ملزم بموجب نفس الاتفاقية (الفصل 2 منها) بأن يضمن لمواطنيه كافة الحقوق التي نصت عليها وأن يضمنها بقوانينه وأن يوجد لمن تضرر من عدم احترامها سبلا للمطالبة بحقه بواسطة السلطات القضائية أو الادارية او التشريعية أو أية سلطة أخرى مختصة بموجب القانون. ومن ثم لا يجوز السماح لمن يتعدى على الحقوق التي تقررها المعاهدة بأن يفلت من المساءلة المناسبة وهي بالتأكيد المساءلة الجنائية في وضعيات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
ثانيا. عدم الانسجام مع معاهدات جنيف الاربعة والبروتوكول الاول الملحق بها:
من المعلوم أن المخالفات الجسيمة التي قد تطال حقوق الانسان قد تقع في وقت السلم أو الحرب. فإن وقعت وقت الحرب فإن مقتضيات معاهدات جنيف الاربعة والبروتوكول الاول الملحق بها يلزم المغرب الذي صادق عليها جميعا (وبالتدقيق المادة 3 المشتركة بين الاتفاقيات الاربع المتعلقة بحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في العدوان أو كفوا عن ذلك والمواد 50 و 51 من الاتفاقية الاولى. 50 و51 من الاتفاقية الثانية. 128 من الاتفاقية الثالثة. 146 و 147 من الاتفاقية الرابعة. وكل هذه المواد تتعلق بتجريم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الانساني. والجزء الثاني/المادة 85 إلى 91 من البروتوكول والمواد المحال عليها في نفس الجزء).
المادة 3 المشتركة بين المعاهدات الاربع شرعت لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الاعمال العدائية وهم المدنيون اللذين لا يحملون السلاح والعسكريون اللذين توقفوا عن القتال طوعا أو كرها (كأن يستسلموا أو يصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الأسر). فكل هؤلاء لا يجوز الاعتداء على حياتهم أو معاملتهم معاملة لا إنسانية أو إهدار كرامتهم أو حرمانهم من حقهم في محاكمة عادلة. أما بقية المواد المشار إليها أعلاه فإنها تحدد مدلول المخالفات الجسيمة للقانون الدولي الانساني أثناء النزاعات المسلحة التي لها طابع دولي. كما أنها تفرض على الدول تجريمها في قوانينها الداخلية والعمل على مقاضاة مرتكبيها أو تسليمهم لمن له أدلة كافية على ارتكابهم للخروق الجسيمة لكي لا يفلتوا من العقاب. وفي هذا الصدد نشير إلى ما جاء في التعليق على المواد المشار إليها أعلاه في مؤلف عن القانون الدولي الانساني من طرف دييتر فليك "إن مقتضيات معاهدات جنيف تنص صراحة بأن ارتكاب مخالفة و الامر بارتكابها يعتبران معا جسيمين. كما أن القائد والتابع الذي ينفذ الامر مسئولان معا. ولا توجد أي إمكانية للمرؤوس للتخلص من مسؤوليته بدعوى أنه قام فقط بتنفيذ الاوامر الموجهة إليه" (ترجمتنا من الانجليزية إلى العربية).
“The Handbook of International Humanitarian Law" Edited by Dieter Fleck second edition 2011 p. 693
ونفس الشيء وارد بالنسبة لمقتضيات البروتوكول الاول المضاف لاتفاقيات جنيف الاربع.
وقد تقع الانتهاكات المشار إليها سالفا في وقت السلم وتشكل خرقا جسيما لحقوق الانسان وللقانون الدولي الانساني بمدلوله الواسع (كما أقر ذلك اجتهاد المحاكم الجنائية الدولية). وقد يشكل ذلك الخرق أحيانا جريمة إبادة جماعية أو جريمة ضد الانسانية عندما تتوفر الشروط المتطلبة فيهما. ومعلوم أن المغرب بصفته طرفا في معاهدة 9 دجمبر 1948 المتعلقة بزجر ومكافحة جريمة الابادة يتعين عليه متابعة مرتكبها أو تسليمه لمن يطلب ذلك بصفة قانونية قصد محاكمته.
ومعلوم أن الدستور المغربي ألزم المشرع بأن يجرم جريمة الابادة والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب. وهي مهمة تنتظر المشرع المغربي في أفق المصادقة على معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية. ويلاحظ أن مشروع القانون الجنائي الذي لازال معلقا منذ صدوره في يوليوز 2007 قد اقترح تجريم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية (المواد 211 و 212).
ونلاحظ هنا أن الفقرة الاخيرة من المادة 7 من المشروع المعروض على أنظار البرلمان ذكرت ضرورة التزام العسكريين بمقتضيات القانون الانساني لكنها قصرت ذلك على العمليات العسكرية التي تتم خارج المغرب. والحال أن النزاعات المسلحة التي يطبق عليها القانون الدولي الانساني تقع أحيانا داخل بلد معين (وتكون نزاعات ليس لها طابع دولي). وهي النزاعات الاكثر حدوثا في الوقت الراهن.
ثالثا. عدم الانسجام مع الاتفاقية المتعلقة بمناهضة التعذيب
علاوة على ما سبق فإن هناك التزامات تقع على عاتق بلدنا بتجريم التعذيب والمعاملة اللائنسانية وبمتابعة مرتكبيه أو تسليمهم لمن يطلبهم قصد محاكمتهم أي الالتزام بعدم توفير سبل لإفلاتهم من العقاب (اتفاقية مناهضة التعذيب 10 دجمبر 1984). ومن أهم مقتضيات هذه الاتفاقية أن التعذيب لا يمكن أن تبرره الظروف الاستثنائية أيا كان نوعها (المادة 2 فقرة 2). وهذا المقتضى يجد له صدى طيبا في الفصل 59 من الدستور المغربي الذي منع تعليق الحقوق والحريات الاساسية حتى في حالة الاستثناء. وقد تم تجريم التعذيب في الدستور الحالي (ف الفقرة 322) كما أنه مجرم التعذيب في القانون الجنائي المغربي (الفصل 231 فقرة 1 إلى 8) ولكن تطبيق مقتضياته لا زال ضعيفا. علاوة على عدد من الثغرات الموجودة في تعريف التعذيب وفي سبل حماية المشبوه فيهم الموقوفون أمام الضابطة القضائية من التعرض له. وهو ما ركزت عليه ملاحظات وتوصيات لجنة مناهضة التعذيب الموجهة للمغرب خلال شهر نوفمبر 2011
)َCAT/C/MAROC/CO/4(
رابعا. عدم الانسجام مع المبادئ والقواعد التي كرستها العدالة الجنائية الدولية:
هناك مجموعة من المبادئ التي كرستها المحاكم الجنائية الدولية منذ محاكمات نورمبرك وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية مرورا بالمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة (ليوغوسلافيا السابقة المادة 7 من نظامها الاساسي ورواندا المادة 6 من نظامها الاساسي) والمحاكم المختلطة ( الغرف الخاصة بتيمور الشرقية، المحكمة الخاصة بسييرا ليون المادة 6 من نظامها الاساسي ، الغرف الخاصة بمحكمة النقض بالكامبودج، المحكمة الخاصة بلبنان المادة 6 من نظامها الاساسي) وانتهاء بالمحكمة الجنائية الدولية المحدثة بمعاهدة روما(المادة 27 و33). وتقوم تلك المبادئ على ترسيخ ثقافة عدم الافلات من العقاب. وذلك حتى بالنسبة لأعلى هرم في الدولة وهو رئيسها. كما تقوم على الاعتداد بمسؤولية القائد والتابعيين له والرئيس والمرؤوس، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين وسواء كانت العلاقة بينهم قانونية أو واقعية. ويسأل الرئيس والمرؤوس عما ارتكبه من الجرائم شخصيا. كما يسأل عن التقصير في مراقبة تابعه إذا أجرم (المادة 6 من الانظمة الاساسية رواندا وسيرا ليون ولبنان والمادة 7 من النظام الاساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة والمادة 27 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية). كما أن كل هذه الانظمة الاساسية لم تحلل المرؤوس من مسؤوليته عند طاعته العمياء لأمر غير مشروع، وبعبارة أخرى فقد أخذت بنظرية الحراب الذكية التي لها حق رفض تطبيق الامر الواضح اللامشروعية (تراجع المواد المذكورة سابق و المادة 33 من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
وكل ما سبق إيراده من قواعد ومبادئ (ما عدا المسؤولية الجنائية لرئيس الدولة) يوافق تماما توجه قانون الضبط العسكري في بلدنا لحد الآن. وعليه إذا كنا فعلا نتجه حاليا صوب المصادقة على معاهدة روما كما هو رائج فما أحرانا أن نحتفظ بنصوصنا كما هي لا أن نحاول تعديلها في اتجاه حذف المسؤولية الجنائية عن الرؤساء والمرؤوسين مدنيين كانوا أم عسكريين.
خلاصة عملية
ذلك ما كنا نود المساهمة به في النقاش العمومي حول الموضوع المطروح. ولن تكتمل المساهمة إذا لم نضف إليها اقتراحا عمليا حول إمكانية تعديل المادة 7 يسير في الاتجاه الذي نميل إليه:
نقترح أن يتبنى المشرع الصياغة التالية للمادة 7 من المشروع:
"يتعين عند مساءلة العسكريين عن الافعال المخالفة للقانون التي قد يقومون بها أثناء القيام بهامهم أن تراعى بدقة مقتضيات قانون الضبط العسكري وقواعد المسؤولية أو عدم المسؤولية الجنائية وأسباب الاباحة والقانون الدولي الانساني مع الحرص على تطبيق قواعد المحاكمة العادلة.
يتمتع العسكريون وفقا للقانون بحماية الدولة مما قد يتعرضون إليه من تهديدات أو تهجمات أو ضرب أو سب أو قذف أو إهانة بمناسبة مزاولة مهامهم أو أثناء القيام بها أو بعدها.
ويستفيد أزواج و أولاد وآباء وأمهات العسكريين من نفس حماية الدولة عندما يتعرضون بحكم ممارسة هؤلاء إلى التهديدات أو التهجمات أو الضرب أ أو السب أو القذف أو الإهانة"
التعديل المقترح يحذف الفقرة الاولى و الاخيرة من المادة 7 المطروحة للنقاش ويعوضها بنص يقر إمكانية المساءلة لأن المساءلة هي الطرح المقبول في إطار الدستور والقانون المغربي في وضعه الحالي وفي إطار التزامات المغرب الدولية المتعددة الحالية والمستشرفة. لكنه يحصنها جيدا بوجوب احترام القواعد القانونية الجوهرية الخاصة والعامة وبالقواعد القانونية الشكلية الاساسية التي يلخصها مصطلح المحاكمة العادلة. ولا بد في هذا الصدد من فتح ورش هام يتعلق بتعديل القواعد المعمول بها أمام المحاكم العسكرية لكي تصبح أكثر انسجاما مع متطلبات المحاكمة العادلة. وطبعا حذفنا من الفقرة الثانية للمادة حماية الدولة للعسكريين من المتابعات وتركنا بقية الضمانات لكون باقي الضمانات معقولة ولا ضير من المحافظة عليها وإن كان بعضها منظما أصلا في قوانين موجودة سابقا. نود أيضا أن نثير الانتباه إلى حرف "قد" الذي أدرجناه في الفقرة الاولى من التعديل المقترح وهو في اللغة العربية حرف تقليل بمعنى أننا لا نفترض مسبقا بأن تدخل القوات المسلحة الملكية يؤدي حتما إلى تجاوزات. فمهنة الجيش هي مبدئيا مهنة الشرف ورئيسها الاعلى هو جلالة الملك بكامل هيبته. وكما يقول المثل الفرنسي:
« NOBLESSE OBLIGE »
وكل ما سبق ليس سوى اجتهادا شخصيا متواضعا نقصد به المساهمة في إعلاء راية بلدنا وترسيخ خطاه السائرة نحو نظام ديمقراطي أعمق وأرجو أن يتم تقبله برحابة صدر. والله الموفق لكل من يريد الخير لهذا البلد الطيب.
---
استاذ بكلية الحقوق الرباط السويسي
محام بهيئة الرباط
قيدوم المستشارين القانونيين بمكتب المدعي العام بالمحكمة الجناية الدولية لرواندا سابقا
عضو لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان سابقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.