" اللغة مسكن الوجود" هولدرلين لست أتصور لأمة من الأممثورة فكريةكاسحة لجبال جليد التخلفوالنكوصإلاأنتكون بدايتها نظرة عميقة وعريضةإلى اللغة في علاقاتهابالإنسان وبروحه وببقية معانيه، فهي مرقاةإلى السماء أولاوأداة للاتصال بالواقع ثانيا، وليس يمكن الحديث عن حضارة دون الوقوف عند لغتها، فالأخيرة كانت دوما ولا تزال ربيبة الدين ومنافسته الوحيدة في حد الإنسان والتعريف به، وتبيان مدى خضوعه وهيمنته، فإماأن يكون سيد وقته بها، وإماأن يكون ببغاء في أحسنالأحوالأوقردا في أسوءها. بكل براءة تساءل الدكتور حسن أوريد في آخر مقالاته عن مستقبل اللغة الفرنسية بديارنا المغربية، إذأن ساعة حزمها حقائبها –بحسبه-ورجوعها من حيث أتت قد آذنت بدعوى أنناأمسينا سادة أنفسنا خاصة مع صدور ذلك القرار المزلزل المضحك المبكي من مكتب الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان المؤكد على ضرورة الإدلاء بشواهد طبية محررة باللغة العربية أو الأمازيغية بدل لغة الإفرنجة!!! ما جعله يفكر بجد، وبكثيرمن الخوف والرهاب على مصيرهذه اللغة المسكينة بيننا. لو أننا حاولناأن ننظرإلى المقال مؤرخ المملكة –سابقا-بمنظار "فيما وراء الخير والشر" لتبين لنا أنه منذ البدايةيحاول توجيهنا بنفي أي علاقة له وأيمصلحةفي المرافعة عن هذه اللغة،أو الانتصار لوجودها بين ظهرانينا، إذ لا رغبة له في الانتصار لثقافة أبناء النخبة، ولا دفاعه راجعإلى انتمائه لأي جهاز، بل إنه يفعل ذلك بكل صدقفقطباعتبار هذه اللغة أداة للتحديث، وإخراجنا من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل،حتى لا تسيء النيات فهمه والحكم عليه. وبعد أن يخلص نفسه من أي انتماء أو تعاطف مع الفرنسية،يبدأ صاحبنا في الاستشهاد بأقوال هي الأقرب لسفسطة منه إلى روح المنطق والعقل، فيستنجد بجملة (للجزائري) كاتب ياسين كون "اللغة الفرنسية هي غنيمة حرب"، وبجملة أخرىلأحدالفرنكوفونيين ليدلل لنا على طريقة من يدس السمفي العسلعلى كونالتحاور بالفرنسيةوالتكلم بها لا يشكل انتقاصا من هوية المغاربة، ولا حتى ضربا فيها، لكن أوليس صاحب الجملة الأولى هو نفسه من وجه أكبر انتقاد لروايته "نجمة" التي تعتبر من أروع ما كتبته تفريخة فرنسا في الجزائر من كون روح روايته الجزائريةقتلتها اللغة الفرنسية التي كتبت بها. أبدالم تكن الفرنسية غنيمة حرب بالنسبة لنا ولن تكون أبدا، بل وفق التصور الخلدونيهي دليل على التبعية والانتكاسة الفكرية للمغلوب،فالأخير مولع بتقليد الغالب في المأكل والمشرب والملبس، وأي حديث عن كونها سبية من سبايا الاستقلالهو محاولة لغواية بئيسة لذرالرماد في عيون الحالمين، فنحن من قدم لفرنسا غنائم كثيرة وعبيدا خدموها ولا زالوا من طينة محمد خير الدين، ومراد خير الدين، والطاهر بن جلون،وأمين معلوف، وآسية جبار واللائحةأطولمن لائحة أسماء من خدموا العربية. وبالتالي نكون نحن من ضخخنا دماء و سنوات جديدة في جسد وعمر الفرنسية الآيلةللاندحار والانحسار، وهذا ماآمن به الفرنسيونأنفسهم منذ عهد ميتران. رغم التوجع و الأنين الذي حمله ذ. أوريد لنصه منكون التعليم النخبوي الفرنساوي قد وجه ضربة مميتةللتعليم العمومي القائم على اللغة العربية ، والتي ندفع ثمن تبعاته حتى هذه اللحظة، ورغم تأسفه للعبة القذرة و المعادلة اللامتكافئة التي يخوضها أبناء "الماما فرنسا" في محاولة جهنمية لإقبار الفصحى وتسميم دمها بدم العامية الفاسد ، فإنه مع ذلك يدس لنا تساؤلا عن معنى ومسوغ استبعاد لغة التعليم النخبوي (الفرنسية)من حياتنا العلمية والعملية؟ يجيب عن السؤال الآنف بكل جدية ، لكن بمعادلة فاسدة وغير منصفة أبداوبتاتا في الفقرة ماقبلالأخيرة ، فيرتهن الفيزياءوالرياضيات بالفرنسية ، ويرهن فتاوى فقهاء غرف النوم ومشاكل ما تحث شراشف الأسرة، و منافع الفاكهة الجنسيةباللغة العربية ،فيحسم النقاش من أوله كاتما بذلك صوت العقل فيناومختصرا تاريخ العربية منذ عهد إسحاق بن حنينإلى السلطان المغربي محمد الرابع في فتاو ممسوخةليرسخفي أذهانناتلك اللازمة الانهزاميةمن كون اللغات اللاتينيةهي لغات العلموالفيزيقا (علوم الشجرة الديكارتية)أما العربيةفهي لغة الموت والميتافيزيقا (القبر وعذاباته،والجنة ونعيمها ). ويعمق ذ.أوريدنقاشه "البريكولاجي" بدعوته دونما أي خجل إلى شيوعية الفرنسية بيننا ، فتكونمتاحةللأطفال الذين يعيشون في وضعية صعبة كما هي متاحة للذينولدوابملاعقمن ذهب في أفواههم ، وبالتالينكرر نفس أخطاء الجانب الأخر من عالمنا اليعربي الذي استبدتالانجليزية بأهلهومؤسساتهالتربوية،حتى أن البيوت الخليجية صارت تستنكف عن تشغيلخادماتلا يجدن الانجليزيةمهما بلغ إتقانهنللعربية ، وبالتالي إنتاج أطفال بالكاد يتحسسون العلاقة التي تجمعهم بلغتهم الأصل ، فيمسي الطفلدون وعي يستشهد ببيت شعري للعم موليير أو بجملةلفلوتيربدل أن يستحضربيتاللنفري قدس الله سرهأو قولة لمولانا جلال الدين الرومي. إني لأعجب وأستغربأن تصدر هذه المواقفعن مؤرخ فوق العادة يعرف جيدا أن تاريخ العالمهو تاريخ صراع القوى ،وكل قوة لها صداها وترددات هيمنتها الإيديولوجية ، ولا معنى للصدىوالهيمنة دون تحسس نبرات اللغة ، فلا يجوز في حق مثقف من طينة ذ. أوريدأن يجهل ولا حتى أن يتجاهل تجارب أمم بكاملها عندما اجتاحها الاستعمار اللغوي فجعلهافي خبر كان،وليسببعيد عنه ما حدثللسكان الأصليينلأمريكاونيوزلندا واستراليا والقبائل الإفريقية ، ولأبناءإقليمالكيبك، وما حدث للمورسكيين الذين يعرفهم ذ. أوريد حق المعرفة ، إذ أن هذه النماذج لدليل تاريخي على أن لغة المستعمر هي من تغنمنا. أما نحن فنفقد لغتنا وبالتالي المرجعيات المؤطرة لهويتنا .فالإنسان وحده من يملك هوية ، لأنهوحده من يملك لغة كما عبر عن ذلك دوسوسير بعقود. علينا أن نفهم ونعي جيدا أن الفرنسيةلاتحتاجإلى من يعينها على البقاء بيننا، ولا تحتاجإلى من يدافع عنها فهي كما نعلموكما لانعلم مدعومةبجهزوت (على وزن ملكوت)ثقافي مكون من قرابة 1100 مركز ثقافي مجهز بآخر الكتب والأدوات التربوية، موزع على 140 دولة في كل أنحاء العالم. يفرخ كل سنة آلاف الطلاب الذين يفكرون بلغة هيجو ، وإنماالذي يحتاج إلينا كي ندافع عنه هو تلك السيدة الشريفة العفيفةالتي وسعت كتاب اللهلفظا و غاية، ورميناها نحنبالعقم وليتها عقمت فلم تجزع لقول عداتها من بني قومها من المنتسبين لأقوام غير أقوامهم. بحق لقد أمست العربية مجرد بيدق على رقعة الشطرنج ، تعيش وتموت بإرادة اللاعبين، فكل حكومة تأتيلتلعن أختهاباسم الدفاع عن الهوية ، فتصدر قرارات في مقام الأوهام لا أحديعمل بها ولا واحد تلزمه ،فيصبح حالهامعنا كحال مهرج مات في منتصف العرض لا نعرف معهأنضحكأم نبكي؟. آه ما أشبه حالنا بقصة خنفس"كافكا" التي يصور فيه إنساناأخذه النعاس واستيقظ ليجد نفسه خنفسا ضخما،لقد تحول ، فكان لهذا التحول مشكلاته العصية العسيرة ، فكيف يسير وعلى أي نهج يسلك هذا الإنسانالخنفس ، بحيث يرضى عن سيره وسلوكه؟ أيجعل معياره حياة الخنفس ، أم يجعله حياة الإنسان؟ فنحن بعد سبعة قرون عجاف من سبات حالم ، استيقظنا لنجد أنفسنا كائنات أخرى، هويتها الجهل والتخلف . فكانت المشاريع الكبرىلإعادةالقاطرة إلى سكتها. وما مشروع محمد الرابع بالمغرب لإعادة الوعي إلى جسد اللغة العربية إلا مثال لذلك ، من خلال ترجمته الذاتية لكتب نيوتن الفيزيائية ، وإشرافه المباشر والجدي على ترجمة أهم الكتب الرياضية والهندسية الأوربية هذا المشروع الذي وصل تأثيره إلى الهند، إلاأنه تم إفشاله بعد نكبتي تطوان وإيسلي، لأجلأن تسود الفرنسية كلغة للعلم والقراءة والفهم والإفهام ،ولتستمر معاناة العربية مع أبناءها ، ولنفقد أيأمل في أن تصبحالعربية لغة للعلوم الحقة، خاصة ونحن نعرف – وياللأسف – شرف نسب هذه اللغة على لغة موليير التي كانت لهجة لشارع على ألسنة العوام ، ولم يجرؤ أحدعلى أن يكتب بها إلا بعد 1641 من ميلاد المسيححين ألفصاحب الكوجيطوكتاب التأملات في الفلسفة الأولى.