يصعب الحديث عن بناء ديمقراطي سليم، دون مشاركة سياسية واسعة للمواطنين، وانخراطهم في تبني إحدى العروض المطروحة من طرف مكونات الحياة السياسية، وشعورهم بأن لأصواتهم صدى، ولإرادتهم معنى وقيمة. ويمكن للمشاركة السياسية الواعية، أن تنعكس على نسب المشاركة الانتخابية ارتفاعا، على أن الفرق بين المشاركتين كبير، والأسباب المؤثرة فيهما سلبا وايجابا مختلفة، إذ يمكن أن تكون للانتخابات سياقات خاصة، واليات تعبئة تستهدف نسبة معينة تضمن الحد الادنى من مشروعية نتائجها، لكنها لا يمكن أن تخفي أعطاب المشاركة السياسية، المرتبطة بنسق وبممارسات، وبمنطق تُدير به السلطة علاقتها مع المواطنين، والمرتبطة كذلك برصد تفاعل الأحزاب السياسية، مع هذه الممارسات وهذا المنطق. ويذهب الكثيرون الى وصف تدني وتراجع المشاركة السياسية للمواطنين بالعزوف، وهو في أبسط تعريفاته، إظهار اللامبالاة تُجاه السياسة، وعدم إبداء الرغبة في ممارستها، والركون إلى اهتمامات أخرى، نتيجة تراجع الثقة في المؤسسات السياسية، بسبب ما يصدر عنها من قرارات ومواقف لا تنسجم مع توجه الاغلبية، أو تعاكس المتفق عليه داخل المجتمع. وتجربة المغاربة في فترات مختلفة مع السياسة، تزخر بمظاهر الاهتمام والمشاركة، والرغبة في الانخراط في الممارسة السياسية المؤسساتية، وتكشف أن مشكلتهم ليست مع الحكومات أو المجالس المنتخبة أو الأحزاب، وإنما مع سلوك هذه المؤسسات وغيرها، ومع ما يصدر عنها. ودون الدخول في الكثير من المعطيات ذات الصلة بعلاقة المواطنين المغاربة مع السياسة، مشاركة وعزوفا، ربما يكون مفيدا التوقف عند واحدة من أهم قنوات المشاركة السياسية، المعول عليها في تنمية هذه المشاركة، وترشيدها واضفاء المعنى عليها، ليكون لها تأثير على صناعة القرار وعلى السياسات، ولتغادر فضاء الارتجال وردود الفعل اللحظية التي يمكن أن يسهل توجيهها واستغلالها من الداخل أو الخارج، في أهداف وغايات ليست بريئة. الأمر هنا يتعلق بالأحزاب، التي من المفروض أن تكون في طليعة مؤسسات التنشئة السياسية المفضية الى توسيع المشاركة وتعزيزها. ومع تحمل السلطة الجزء الكبير من مسؤولية ابتعاد المواطنين عن السياسة، بما يميز علاقتها معهم، من هاجس الضبط المبالغ فيه، فإن الأحزاب تتحمل هي الأخرى قسطا من المسؤولية، لأنه كما المشاركة السياسية ليست فطرية في المواطنين، وإنما مكتسبة، فإن العزوف أيضا ليس فطريا، وإنما يكون نتيجة لدينامية مضادة، ويجد ما يغذيه في سلوك السلطة وفي سلوك الأحزاب كذلك. فعن اية مشاركة سياسية يمكن الحديث، في ظل وجود أحزاب عزفت عن السياسة، وتفرغت للوْك الكلام حول الارقام وحول متاهات التدبير اليومي، وارتمت في أحضان السلطة إما خوفا وإما طمعا، واستسلمت للغة التعليمات والايحاءات، وتخلت لصالح أوساط في السلطة، عن استقلاليتها وحريتها، باسم خدمة المصلحة الوطنية والتوافق وعدم الخروج عن الاجماع؟ بنظرة خاطفة على المشهد الحزبي الوطني، يتبين أن خطاب الأحزاب الوطنية، بات خاليا من السياسة، بما هي نقاش حول قواعد ومبادئ كبرى تتعلق بالديمقراطية ومراعاة الارادة الشعبية، ونقد ممارسات السلطة الخارجة عن القانون، وبما هي تأطير المواطنين على رهانات أكبر من مجرد إشغالهم بقضايا ثانوية، أو محاولة تضخيم ما "تجود" به عليهم اللوبيات المتحكمة، فكيف يتشجع المواطن على الانخراط في هذا النوع من الاحزاب، وعلى متابعة أنشطتها، أو يثق في ما يصدر عن قياداتها، وبالتالي يتحفز على المشاركة السياسية الايجابية! أليس حريا تعويض الحديث عن عزوف المواطنين عن السياسة، بالحديث عن عزوف الأحزاب عن السياسة… فاقد الشيء لا يعطيه!.