في صبيحة يوم العيد الأضحى، وعند التكبيرة الأولى للإمام حين صلاة العيد، أسلم الشيخ إبراهيم كمال الروح لبارئها، بعد أن قضى ليلة كاملة في الإحتضار والغيبوبة التى أبقت فقط على حركة أصابع يده اليمني، والتي لم تنقطع طيلة الليل بالتسبيح بالباقيات الصالحات، وقد كتب الله أن يوافيه الأجل في نفس اليوم الذي كان قد إجتمع فيه مع ثلة من رفاقه ذات عيد أضحى في أوخر ستينيات القرن الماضي، وأعلنوا يومها البدء في العمل لتأسيس الحركة الإسلامية. وأما الشيخ إبراهيم كمال، مؤسس الحركة الإسلامية بالمغرب، إلى جانب إخوانه ، والتي تفرعت عنها بعد تغييبه خمس سنوات في دياجير الاعتقال، كل أطياف المشهد الإسلامي وجماعاته، فهو الرجل الذي يشهد له التاريخ بطهارة الذمة واللسان واليد، من كل إيذاء أو سوء في أعراض الناس أو دمائهم أو أموالهم، طيلة مراحل عمله النضالي والدعوي الذي وطن حياته وقفا عليه. فقد أمضى حياته مشاركا في أربع تجارب كفاحية في العطاء لهذا الوطن، شكلت التاريخ السياسي الحديث للبلاد، كانت تنتهي بين رفاق الكفاح، بالتشظي والتمزق إلى حد الاقتتال أحيانا، غير أنه كان إذا شارك رفاقه وإخوانه محطات التغيير، كان يشاركهم وهو يرتقي مرقاة مواصلة البناء والتقويم، ولا يسقط في درك التراشق والتآمر وتصفية الحسابات أو تصفية الأجساد. ففي أربعينيات القرن المنصرم، انخرط وهو فتى يافع في صفوف الحركة الوطنية، وأصبح واحدا من ملهبي شعلتها، في المدارس الوطنية للدار البيضاء وغيرها، حيث كان يتلقى تعليمه الوطني على يد الرعيل الأول من قادة النضال الوطني من أمثال بوشتى الجامعي والحمداوي وغيرهم. وفي الخمسينيات من نفس القرن، تحول نشاطه إلى تنظيم الخلايا الفدائية المسلحة، فاستحق بذلك أن يصبح مستهدفا من قبل فرق الموت التي أنشأها الاستعمار الفرنسي آنذاك، في ما سمي بحركة “الوجود الفرنسي”، حيث نجا بأعجوبة من انفجار قنبلة، زرعت بباب منزله ليلا، لإعدامه وتصفيته، وحينما وضعت الحرب الفدائية أوزارها، بين فصائل المقاومة الوطنية، وبين أجهزة وعساكر وعملاء الاستعمار الفرنسي، وتحول السلاح الوطني من مواجهة قوى الاحتلال، إلى حرب التصفيات والاغتيالات بين الإخوة الأعداء، غداة نيل الاستقلال، تعفف الشيخ إبراهيم كمال عن السقوط في التلوث بالدم الحرام، وولى وجهه شطر البناء السياسي للمغرب المستقل، كواحد من الكوادر النشيطة في حزب الاستقلال بالدارالبيضاء. وفي سنة 1959، ولما ابتليت الحركة الوطنية ممثلة في حزب الاستقلال، بداء الانشطار، انحاز الشيخ ابراهيم كمال إلى الاتجاه الثوري في الحركة الوطنية، وأصبح واحدا من المسئولين الرئيسيين في تأطير تنظيمات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدارالبيضاء، إذ كان رئيس فرع درب غلف — المعاريف وما حواليه، وهو واحد من ثلاثة فروع للحزب كانت تقتسم الدارالبيضاء، وهي المعقل الرئيسي لحزب الاتحاد في عموم المغرب، وموطنه التأسيسي، والرحم التي أنجبت عشرات القياديين الكبار ومئات الكوادر البارزة. غير أنه لم يُشهد له بالمعاداة لمناوئي الحزب الجديد، ممن بقي على ولائه لحزب الاستقلال. وعلى عكس ما كان سائدا، آنذاك، من عقلية التبجح بالتحزب، والتفاخر بالانتساب إلى الحركة الوطنية، كان الشيخ إبراهيم كمال في تواصل ودود سواء مع الفرقاء السياسيين أو مع من تجنب العمل السياسي والولاءات الحزبية، وآثر العطاء العلمي والتفاني المهني. ومن صلب هذا التواصل، نمت العلاقة المتينة التي توطدت بينه وبين الشيخ عبد السلام ياسين، بالرغم من تباعد الانشغالات الفكرية والسياسية بينهما آنذاك، في المرحلة الأولى من تعارفهما، وبالرغم من الشقاق والعداء الذي كان يناصبه إياه، ويحرض عليه، بعض من كان يستكثر على الشيخ ياسين تبوأه موقعا وظيفيا رفيعا في صفوف رجال التعليم، ممن كانوا لا يرون في المواقع الوظيفية الرفيعة في المغرب المستقل، سوى مغانم ومكافآت يُستحوذ عليها باسم الانتساب إلى الحركة الوطنية. وفي سنة 1963، وعندما اعتزل الشيخ إبراهيم كمال العمل السياسي، من داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لاستيائه من التشرذم، وانحراف بعض التيارات عن المبادئ الأصيلة للحركة الوطنية، واصل عطاءه من داخل المساجد، واعظا ومرشدا، من طراز خاص هو طراز العلماء الوطنيين الذين تربى على أيديهم وفي مقدمتهم شيخه المرحوم حسن النتيفي الجعفري، حيث أصبح خطيبا، وداعية إلى الحياة الإسلامية الرشيدة، من غير أن يسلط لسانه أو يده على أحد من رفاق دربه السابقين، سواء كانوا في المقاومة أو حزب الاستقلال أو الاتحاد الوطني. وبعد إعدام شهيد الدعوة الإسلامية، المفكر الكبير سيد قطب، على يد جمال عبد الناصر، فجر الاثنين 29 غشت 1966، سقطت قطرة من دم الشهيد سيد، في قلب الشيخ ابراهيم كمال، كان لها الأثر الفعال في قلب مجرى نضاله، إذ حولته من واعظ مرشد في مسجد درب غلف، إلى مؤسس للخلايا الأولى لتنظيم الحركة الإسلامية بالمغرب، إلى جانب إخوانه ، حيث انبروا يبذرون البذور الأولى ويرسخون في عقول أتباعهم وتلاميذهم الصغار، فكر الحركة الوطنية الأصيلة، مدعمين ومرشدين بفكر الشهيد سيد قطب، وتفسيره “في ظلال القرآن”، وبيانه الثوري: “معالم في الطريق”. وبتأسيسه رفقة الدعاة الأوائل “جمعية الشبيبة الإسلامية”، والجمعيات الدائرة في فلكها سنة 1972، استوت قاطرة الحركة الإسلامية بالمغرب، على طريق بناء مجتمع مغربي جديد، يحقق المطامح الأولى للحركة الوطنية الأصيلة، إلى أن اصطدمت بجدار الحدث المفجع سنة 1975: اغتيال المناضل الوطني الكبير عمر بن جلون، الحدث الذي احترق له قلب الشيخ ابراهيم كمال حزنا وألما، على إراقة دم بريء، وتغييب مناضل صلب وغيور عن مسرح تقويم الحياة السياسية في البلاد. وكان الشيخ كمال من أكبر المظلومين في هذا الحدث، لإقحامه جورا في قضية هو بريء منها كل البراءة، ولا يستسيغ أفعالها وجدانه وسلوكه وعقيدته وتوجهه في التواد مع رفاق دربه والحوار بالحسنى، إقحاما كان الغاية منه تدميره النفسي والجسدي، وتغييبه هو أيضا عن مسرح الفعل والبناء والتقويم، وقد أوذي من هذا الإقحام، وناله منه تنكيل شديد، خلال اعتقاله وتعذيبه، إلى أن فقد بصر إحدى عينيه، وسمع إحدى أذنيه، واقتطعت خمس سنوات من عمره في غياهب السجون، قضاها معتصما بالصبر الجميل، إلى أن فرج الله عنه، بتبرئة القضاء له من الإفك العظيم، في الحكم الصادر لفائدته بتاريخ 18 شتنبر 1980. وبعد خروجه من السجن سنة 1980، واكتشافه للغاية التي كانت من وراء تغييبه في السجون، إذ دُمرت وحدة التنظيم الذي أسسه ورعاه، وأنفق عليه أيامه ولياليه، فتفرعت عنه تنظيمات وجماعات، فضل الشيخ ابراهيم كمال أن يظل في مكانته الأبوية الروحية من الجميع، انسجاما مع منهجه الثابت في التواصل والوداد، وتيمن الخير من أي كان. واستمرارا في أداء رسالته التربوية، قبل الشيخ كمال أن يضطلع بمهمة المرشد الروحي لحزب النهضة والفضيلة من خلال عضويته في أمانته العامة. وقد كان بيته ، قبلة ومزارا لكافة ألوان الطيف الوطني والإسلامي، من قدامى رفاقه في المقاومة، أو قدامى محازبيه في العمل السياسي، أو من أبنائه وتلامذته العاملين في الحقل الإسلامي مهما تفاوتت ولاءاتهم ، إلى أن وافاه أجله رحمة الله عليه.